صحيفة المثقف

بعد رحيل ناهدة

قصي الشيخ عسكريمكن أن يعدّها خسارة جديدة يضيفها إلى خسائر بدأ يحسّ بفداحتها بعد رحيل ناهدة، فقد كانت عينيه اللتين يرى بهما العالم جميلا يلفّ من حوله، كأنّ الخواء هو الذي يحكي، بلسان الدّاهية أو أيّ شخص آخر لايهمّ. هكذا تجري الأيّام ولكن من الحكمة ألا نلوي كفّ الزمن، وإلا فما معنى أن تسبق أُخت عبد العليم الدّاهية ببضعة أيّام، وتطلب يد جميلة!ولم يكن بوسع أمّ مصعب أن تمانع، بعد أن أعرض حسن عن البنت، وللمرّة الأولى يخرج أبو مصعب عن رضوخه لزوجه المدللة، ويتدخل باحتجاج أقرب إلى العنف على الرّغم من أنّه يعلم أنّ هوى امرأته يميل إلى الدّاهية. مع ذالك فهو لايدري، أهو الذي تأخّر عن موعده أم النّبوءة، والغريب في الأمر أنّ جدّه في قبره يحرّك العالم، وهو لاحول له ولا قدرة. حظّ. مجرد مصادفة أن يُولد في هذه القرية حيث النّقود تهرب منه، والنّساء. وبدا له ـ كأيّ من أهل القرية الحالمة ـ أن يلجأ إلى النّبؤة القديمة التي برزت مع الأحداث الجديدة، فأعادها الكبار إلى الذاكرة من جديد، فها هي قريته مرّة أخرى ترى العالم كما لو أنّه شجرة في أحد بساتينها. ولم ينج من الشّرّ أحد. ماالذي يخبّيء المستقبل. أمامه فراغ هائل، فكيف يروّض الوقت، ويلوي عنان الزّمن؟

في اليوم الذي عادت إليه الدّاهيه خائبة من لقائها بأمّ مصعب، خطر في ذهنه ذلك السؤال الذي ألحّ عليه منذ أن سمع الخبر، وبدأ يباري النّبؤة من جديد:

ـ ياداهية. ماالذي نفعله لو صحّ الخبر وظهر أنّ نهر جاسم تسبح على بحر من النّفط والحكومة مصرّة على أن تشتري أراضينا؟

لاح على وجهها أنّها أعدّت الجواب منذ سنين:

ـ في هذه الحال سأنقل جثمان جدّك إلى النّجف، في دار السّلام جنب أبيك وخالك، وسنسكن هناك.

أيّة أرض نسكنها، وأيّ عمل يجده بدل المكبس والبستان، ثمّ تعود بثقة تامّة:

ـ كلّ هذا كلام فارغ!لو كان هنا نفط لاكتشفه الإنكليز منذ زمان. لقد جرّبوا كلّ السّبل، فلا تشغل بالك.

كلّ شيء بقدر. ناهدة تركته، ورحلت إلى عالم بعيد، جميلة سبقه ابن عمّتها لخطبتها، وفي هذه المرّة خرج السّيد عبد العليم عن حياده ليقف جنب أخته، كلّ هذا ونهر جاسم تتحدّث عن النّفط، والحرب والسّلام، فمتى تقوم السّاعة واليوم الموعود، لكنّ الوقت أمامه طويل، والشّتاء طويل. يحاول أن ينبش الزّمن، فيفهم حقّ المعرفة قريته التي لم يخرج منها إلى مكان لحدّ الآن، وكلّ مايرجوه ألا تخفق مغامرته كما أخفقت، وهو صغير، يوم تسلل مع حسن، وابن المسعود لينالوا السرّ المختوم في الاسم الأعظم، لكنّه لاينكر أنّ النّبؤة التي انطلقت من نهر جاسم قبل سنوات، حول الحرب والطريق، هي الأمّ الكبرى لكلّ الأحداث. العلاقات رجعت متوترة بين العراق وإيران. الجيش تحرّك. كلّ شيء محتمل. انفجار. اشتباك. الزّمان يشهد رايات سود تخرج من الشّرق، فتغزو العالم. تهديد يصدر من إذاعتي بغداد والأهواز. سباب. تهديد شتائم. وعيد. ناهدة في لندن، وجميلة سوف تغادر نهر جاسم، والفراغ وحده يحيطة، فلا يرى إلاّ جيوشا تستعرض على الحدود، وتكاد المدافع المتقابلة يأكل بعضها بعضا. من يدري؟قد يسكر ضابط أو ينفعل فيُطلق قذيفة تُشعل الحرب. كلّ شيء وارد في حسابات هذا الزّمن، ثمّ تمرّ الأحلام مثلما مرّت ناهدة وجميلة، فيسمع بصلح، ويرى عناقا حارا بين المسؤولي، في ذالك اليوم قد يحقق حسن أمنيته، فيُصبح شخصية ذات وزن ثقيل. كانت النّبؤة تتسع فتصبح جزءا من عالم كبير تحيطه عيناه إلى مالانهاية من الصّور، فيبدأ بالداهية ويمرّ بابن المسعود، وعبد العليم، وآخرين، لعلّه يلتحق بالاسطورة، أو النّبؤة، فيصل قبل فوات الأوان:

ـ ياداهية، فكّرت هذه السّنة أن أكتب كتابا عن نهرجاسم وجدّي، وأريدك أن تحدّثيني عنه!

من حقّها أن تستغرب. ابنها تجاهل الماضي طول الفترة الماضية. كان لايعنى إلاّ بالحاضر والمستقبل الذي رآه في ناهدة، ثمّ صدمة جميلة. عنيد صريح. مثلهاوكأبيه ذكيّ، غير أنّه لم يحمل منه حلمه الواسع، وكتمان السرّ، وعلى الرّغم من كلّ المصاعب والمحن، فإنّه لايقرّ بهزائمه. أشبه بالتّاجر المفلس، يرجع إلى دفاتره القديمة بين حين وآخر، لعلّه يجد مايُنقذ ثروته من الضّياع:

ـ جدّك الوليّ تعرفه النّاس جميعا. ويعرفون قصّته مع في وقت الفيضان. الأحياء منهم يذكرون قصص الفيضان، وحوادث(دوسن)و(الجلبي). لاأحد يُنكر معجزاته، ولايجرؤ أيّ فرد على المزاح، أو النيل من خوارقه.

فقال بابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه:

ـ وهل تظنين أنّي أنكّر معجزاته ياداهية؟أنا أريد فقط أن أسمع منك ماخفي عن النّاس كي لايضيع تاريخ عزيز عليّ، فالدّنيا ليست بذات أمان، ثمّ افرضي أنّ غدا أتى بالشرّ، فاضطررنا إلى الرحيل. هل يضيع كلّ شيء.

ـ لاقدّر اللّه ياولدي.

ـ ياداهية. الأشياء قريبة منّي. تبدو على باطن كفّي، لكنّها بعيدة. المهمّ أريد أن أعرف كلّ شيء.

صمتت لحظة، وبادرت:

ـ كنت في الرّابعة من عمري يوم حملني خالك على كتفه، وانطلق بنا الوليّ. يومها قيل إنّه، قتل الكثيرين، ثمّ توقّف عن القتل. لبس الجبّة والعمامة. انسلّ من الحرب، فقد ألهمه اللّه أنّ هؤلاء الأشرار، إن تركهم، سوف تولد من أصلابهم نُطف خيرة، تحارب في سبيل الدين، وتعلي كلمة الله. إنّك ياسيد جاسم إذا قتلت الشّرّ، قتلت الخير معه، كأيّ رجل صالح وجيه عند الله وجد في إبريق الوضوء الشيطان، فوضع يده على فم الإبريق ليحبسه عندئذ، والشيطان قد حبس، خرج الشيخ فرآى شيئا عجبا. الناس قي دكاكينهم ومحلاتهم وبيوتهم عاكفون على القرآن يبكون شرّ أعمالهم ويطلبون الآخرة والثواب، فما كان على الوليّ الشيخ إلا أن أطلق الشيطان من الإبريق لتستمرّ الحياة، وفضّل، يانور عيني، الغربة والرّحيل على أن يُبيد أعداءه، ولو قال كلمة واحدة لما ردّها الله، لمنزلته عنده، وحين أتى إلى هنا كان اسم المكان(بيت جوك) ومن قبل(عرب حمده)، وبدفن الولي فيها، وظهور المعجزات، أطلق النّاس على القرية(نهر جاسم)تيمنا باسمه، فأقرّت الحكومة التّسمية في سجلاتها الرّسمية.

ـ وماذا عن نبؤة الطّريق؟

ـ الحديث ظهر بعد دفن جدّك، وقتها قيل إنّ طريقا سيشقّ النخل ليربط نهر جاسم بالتّنّومة والحدود، ويظلّ غير معبّد، فمتى ماعُبّد قامت الحرب. (والتقطت أنفاسها لحظة، ثمّ وكأنّها تغالب الماضي وتكوّره بعينيها)إنّها الحرب الثّالثة ياولدي التي سيرجع النّاس فيها إلى السّيوف والرّماح بعد أن يفنى مالديهم من سلاح.

كان ينصت باهتمام وقد أدرك، ربّما الآن، بعض السرّ في إصرار الدّاهية على لبس السّواد حتّى هذه اللّحظة. والمستقبل غامض. مبهم. مثل خطوط ترتسم على يده، وفيما مضى ظنّ أنّ كلّ شيء جرى بأمان. أيّ من كان يرى زوال الشّاه؟أشبه بالحلم!معجزة ثمّ انهارت، فكيف يأمن أن ينام ليله ونهر جاسم تعوم على بحر من النّفط. سفينة تعوم على المياه، وتحتمل أنفاس الرّياح الغادرة، وفوقها تتقاطع المدافع، وتحوم النّسور، لكنّ اللّه وحده يعلم متى تقوم السّاعة.

وتدخلت ملكة الليل لتدلي برأيها:

ـ من كان يصدّق أن ينقلب النّاس في إيران بلد الفسق والفجور إلى الحجاب والدين ومن البارات إلى المساجد فتجد نهر جاسم نفسها على كفّ عفريت النّفط من تحتها، ومن فوق المدافع والطّائرات!

ـ وبقدرة قادر يمكن في أقلّ من رمشة عين أن تستدير فوهات المدافع ويسكن كلّ شيء.

ـ هذه المرّة استشرس البعث ياداهية، فسقوط الشّاه والفوضى في أيران نبّههم لأُمور كثيرة.

واندفعت ملكة اللل ثانية:

ـ صحيح السّيد في أيران، يقولون، لن يسكت على قتل العلماء وسجنهم في العراق

ـ إيّاك وأن يزل لسانك خارج البيت!(ثمّ عادت إلى هدوئها بعد لحظة)لاتخافوا الحرب لن تبدأ من إيران والعراق بل من فلسطين. في البداية ينهزم العرب كما تقول الرّوايات، وترجع فلولهم إلى شط العرب، عندئذٍ تهبّ النّجدة من بني أصفر أهل الصين الذين يأتون كالجراد المنتشر، ولكي يعبروا باتجاه فلسطين، ونجدة العرب، فإنّهم يمرّون من طريق نهر جاسم الذي يضطرّون لتعبيده حتى يتحمل ثقلهم هم وآليّاتهم الحربية.

تؤكد ملكة الليل:

- لذلك قال النبي اطلب العلم ولو في الصين.

ـ لكنّ أهل الصين ليسوا مسلمين ياداهية.

ـ من أدراك لعلهم يسلمون بعد عام… عشرة… أو مائة!

ملكة الليل :

ـ من يدري اللّه على كلّ شيء قدير.

بعد تأمّل:

ـ الشّيء الذي حيّرني ياداهية أنّ جدّي صنع المعجزات، وتنبّأَ في يوم ما بالطريق والتعبيد والحرب، فَلِم أراه يعتزل وكأنّ أيّة خسارة في المال تلحق بنا لاتعنيه. كم مدّ يده إلى الغرباء!

لاح على وجهها استهجان:

ـ لاتفجر ياولد!من قال إنّه تخلى عنّا؟ لو كنت ابنه الحقيقيّ لما شربت الخمر(وأضافت مؤكّدة) من يدري عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، لعلّ الخسارة في النقل البحريّ دفعت بلوى كبيرة، وضياع المال في احتراق بيروت دفع مصيبة عظيمة، كلها دفع بلاء، فمن قال إنّ الغالي لايذكر ابنته وحفيده؟

كان يصغي إليها بكلّ جوارحه. حديثها يبعث في النفس الأمان. واحة هادئة وسط بحر متلاطم. ألدّ خصومها يرجع مقتنعا بما تقول، والحجّة في يدها، كأنّها تستلّ البرهان من طرف عباءتها. كان يتوقّع الحرب قبل لحظات، وإذا به يرى السّلام يخيّم على العالم، والطمأنينة ترفّ على روحه. تكلمت كثيرا عن جدّه وأبيه النّمر، وفي كلّ مرّة يسمع حديثا قديما جديدا. سحر الماضي المتجدد الذي لاينتهي عند حدّ. الغموض والوضوح كأنّ الدّنيا ذاتها تتجمّع أمامه فيذكر الحرب وينساها بالوقت نفسه، فجأة يتذكر أنّه سألها عن الحاضر والحرب، فنسي وهو يصغي إليها الخوف، ويعود إلى الماضي المبهم الذي يودّ أن يحلّ لغزه من خلال سيرة أبيه وجدّه:

ـ هل مات أبي ميتة طبيعيّة؟

يتغيّر لونها قليلا. تكبت شيئا في داخلها. السّرّ مات مع المرحومة الحاجّة، وهذا الطفل الكبير تجعله مظاهر الحرب المنتشره هنا وهناك وفي العقول ينبش الماضي: أشجانه وأسراره ليعبث بها. لعبة جديدة تلهيه عن كلّ الخسائر خاصّة ناهدة وجميلة:

ـ ماذا تقصد ياحبّة عيني؟

ـ أبي حلم نهر جاسم إلى بغداد، لو كان عاش لما وصلت الذّئاب إلى الحكم، ولقطع الطريق على كلّ هؤلاء. دوسن نفسه كان يستشيره. تصوّري ياداهية كلما رأيت الجيش والدّبابات، وسمعت الإذاعات، وأصغيت إلى الناس يفكّرون بالموت تذكرت النّمر، وسألت نفسي هل يُعقل أن يموت ميتة طبيعيّة هكذا…

بنظرة ثاقبة حادّة:

ـ ومن تراه قتله؟

ـ نوري السّعيد!

ـ هذه حكايات الله أعلم بصحّتها، ثمّ مافائدة أن تعرف. نوري السّعيد قتل وحسابه عند الله!مع ذالك أقول لك إنّ الغالي كان يعاني من قرحة في الأمعاء، فلا تظلم النّاس.

ـ ياداهية مجرّد بحث، فكثيرا ماسألت نفسي آخر بقايا النّمر رحلوا إلى الخارج، وأنا الوحيد…

مقاطعة عن ضجر:

ـ ألا يكفيك الوليّ وسُمعته؟الدنيا كلها من المشرق منبع الأولياء، وجدّك واحد من هؤلاء، والنّاس تلوذ به، والأولياء في كلّ مكان، وهم يختارون أين يعيشون، وأين يموتون.

ماض جديد، معروف، وغامض، فمن يكون بعد الدّاهية؟ أيّ واحد آل العمران. القرية كلّها، وربّما يبدو ابن المسعود الأفضل لأنّه أسن الأحياء الباقين في هذه القرية من زمن جدّه، وذاكرته احتفظت على الرّغم من الكبر والعمى، بسطوعها، فلم يمحها غبار السّنين. كانت عينا الرّجل تحدقان في مجهول بعيد . لعلّ عبد حلم بجدّه فأوعز إليه أن يتصل بآل المسعود ليرفع عنهم غضبه، وربّما هي الدّاهية وقد حلمت ببشارة خير فأرسلته إليه. كان ابن المسعود يقول الحقيقة دون مواربة:

جدّك ياولدي كان عظيم عصره، لو سكن النّجف أو كربلاء، لغطت شمسه كلّ النّجوم، غير أنّه فضّل أن يأوي إلى عرب حمده فيضع ركابه في(بيت جوك) لتواضعه، ولعلّ الله يجعل نهر جاسم عظيمة ببركته إذ يقال إنّ الرّايات السّود تمرّ عبر قريتنا نحو فلسطين، ومع كلّ لحظة ترافقها إطراقة يظلّ ابن المسعود يحثّ الخبر على الحظور: ياولدي قاتل جدّك الكفار والمنافقين، فسقط من ضرباته آلاف، وآلاف، إلى أن هداه عقله إلى حلّ يُشبه السّم اختاره طوعا، لو استمرّ يقتل ويقتل فستفنى البشريّة، تلك إرادة اللّه ولارادّ لقضائه، فأعرض عن القوم حتّى وقف عند قريتنا هذه فحماها من الطوفان وبأمر الله فاضت بركته علينا ونقمته على أعداء الدّين. كان الوليّ على شفاه أهل القرية يأتي من أَماكن مختلفة. من الأرض كلّها. بعضهم قال إنّه من فلسطين، وسوف يعود إليها أنصاره ذات يوم، وذكرت شفتان أنّه من الجزيرة العربيّة، حارب أعداء الدّين، والمارقين قبل أن يستولوا على مكة، وسوف يعود أنصاره إلى هناك في يوم ما، فيرجع إلى قبر الرّسول عِزّه، وبهاؤه، وذكرت عجوز أنّ الوليّ قدم من أقصى الشّرق، فسكن نهر جاسم. كان ذكيّا وشجاعا، أسمر اللون واسع العينين، وسوف يبحث أهل الشَّرق في كتبهم، ويجدون اسمه، فيهبّون باتجاه القّدس، وربّما من يذكر أنّ صاحب الضّريح أسرّ لأناس في أحلامهم بعض غوامض الأمور، لكنّ كلّ شيء ممكن أن يظهر في وقته، فالسّاعة آتية لاريب!

كلّ شيء بأوان وقدر!

هكذا تحدّثت الأبواب بوجه عبد الحفيد!

وهكذا نطقت الشفاه!

لكنّ نهرجاسم رغم كلّ ماقيل عنها لاتزهو بغير الوليّ إذ لم تعد إلا بيوتات متناثرة استغنت مع الزّمان عن هيبتها الأولى، ولولا ألأمل في النّفط، وانتظاره الذي طال، لهاجر غالبيّة الباقين، وربّما يمرّ الوقت فتفقد نهر جاسم اسمها من جديد قبل أن يلمّ عبد شتات الماضي. كلّ المظاهر أوحت بذلك. فليس هناك من عهد الطفولة أيّ أثر ماعدا حسن المتطرّف في عمله السّياسيّ، ولاهمّ له سوى لصق صور الرئيس الجديد في كلّ مكان، وإلقاء المحاظرات، والخروج مع الطلائع، والجيش الشعبيّ، أم المعتوه وبدعته الجديدة إذ يقابل أيّ شخص فيهتف فيه، وهو يهرول، هميني…همينيّ…أيّ شخص كان، فيدرك جيدا أنّ قريته تطرّفت في كلّ شيء…الدّاهية في حُبّ الزّعيم، وعبد العليم في تعلقه بعبد النّاصر، وجيل الطلائع والفتوة وهم يغنّون للرّئيس الجديد، ويهتفون ملوّحين بالحرب، فلم يذهب بعيدا، ويسأل في حين تطرفت قريته في خلع اسمها عدة مرّات، كأنها أفعى تنزع ثوبها، فهل يضيع الاسم القديم وسط الفوضى والصّخب، وقد غيّرت القرى أسماءها. كوت سوادي أصبحت التأميم، وكوت الجوع التي تعني الفقر ومرارة الأيام السّابقة، الاقطاع والشّيوخ صار اسمها الثّورة، والدّعيجي أضحت عُتبة، فهل يأتي دور نهر جاسم، والأدهى أنّ بنت الوليّ كادت تذوب من القلق على أن تخلع نهر جاسم، وسط الفوضى، والحديث عن الحرب، اسم أبيها الوليّ، فأيّ شتاء، وأيّة أفاع تلك التي ستخلع فيه جلودها، ماعدا نهر جاسم التي ظلت إلى اليوم تحمل اسم الوليّ الأمر الذي جعلها تتنفس الصعداء، وتعدّها معجزة أُخرى، ويبدو أنّ حسن نفسه تدخل على حدّ زعمه حيث ذكر للدّاهية أنّ الحكومة تنوي تغيير أسماء القرى التي لاتتناسب معانيها مع التغييرات الجديدة، وسوف يعترض إذ يثيرون اسم قريته، ولم تثق في البداية بما شاع إلى وقت قريب، فأدركت أنّ كلمة ابن العمران مسموعة في الفرقة الحزبيّة. على أيّة حال بعد تغيّر القرى بقيت نهر جاسم على حالها، فلِمَ يسأل عبد الآخرين، والحقيقة الغريبة بين يديه، هي والمجهول على حدّ سواء، وهناك أُمور تظلّ لاتُعرف إلى الأبد. قد تكون قريبة منّا. وفي تلك اللحظة، وهو يتذكر جدّه، والاسم الثابت، والأسماء المتغيّرة، عاهد نفسه ألاّ يسأل أحدا بعد الآن، بالوقت نفسه، لم تخف الدّاهية اهتمامها، وهي تُخبره أنّ حسن جاء يسأل عنه، خلال غيابه، فأجاب، وهو يهزّ رأسه:

ـ يبدو أنّي سافرت طويلا، وعليّ أن أراه في أقرب وقت.

ـ5ـ

لم يكن هناك من غموض يستعصي حلّه، وربّما، وللمرّة الأولى بدت كلّ الأُمور واضحة إليه بصورة لاتقبل الماطاة والتّأجيل بعد. منذ سنين وحسن يلاحقه، وقد ازداد إلحاحه عليه بتغيّر الأوضاع في إيران، ولعله ارتاح من ذلك الإلحاح حين اعتكف لبضعة أيّام في البيت بعد حادثة السّكر المشهودة، فكاد الصّمت يقتله. الدّاهية صامتة. البيت الكبير. ملكة الليل، وتظلّ أسوأ حالات الكلام أفضل من قطرة صمت، خلالها تردّد حسن في أن يزور منزل الباشا خجلا من الدّاهية التي لاح غضبها عليه أشدّ منه على ابنها حيث عدته أوّل شخص يشجّع عبد على المحرّمات، ثمّ سرعان ماهدأت سورتها، وصفحت عن الإثنين بعد قسم عبد، ومبادرة حسن أمام المسؤولين في أن تظلّ القرية تحمل اسم الوليّ المدفون على أرضها. وحيث يتلاشى التردد فتبدو كلّ الطّرق تؤدي إلى منحى واحد، فليكن مع الجميع، مع النّاس وليس منهم، فقد ولى زمن الفرادة والتميز، ووقت العشق والهيام، أو المعجزات، والخوارق، وها هو يصل، ليقنع نفسه أنّه على الأقلّ مقتنع بما أقدم عليه. كان حسن في انتظاره مثلما توقّع. استقبله بنكتة، وهو يبسط إليه يده:

ـ أكدت لي الدّاهية أنّك ستمرّ عليّ لكنّها(ابتسامته تتسع لتسبق بقيّة كلامه) حذرتني من أن نذهب إلى البار!

ـ تلك كانت الأولى والأخيرة.

ـ الحمد لله أنّ الدّاهية صفحت عنّا.

ـ ماكان الصّفح ليمرّ بمثل هذه السّهولة فيأتي الصّفح منها لولا جهودك في الإبقاء على اسم جدّي اسما للقرية.

ـ الحقّ إنّي أَخاف من غضب الدَّاهية لكونها ذات فضل عليّ، ولأنّ غضبها غير محمود العواقب مثلما هو معروف عنها.

ـ شيء عجيب أن تُؤمن كلّ الإيمان وأَنت نفسك…

ـ إذا كنت تظنني أنكر الأُمور الغيبيّة، فأَنت مخطيء!(ثمّ سكت ليتابع)المهمّ أتعرف لماذا طلبتك؟

ـ الأمر واضح فقد أَعلنت انتمائي تلك الليلة!

ابتسامة واسعة:

ـ وهل هناك انتماء في حالة سكر؟

ـ ياحسن لمَ تلحّ!أو بالأحرى تتناسى!الرئيس يوم كان نائبا قال: المواطن الجيد هو بعثيّ جيد!

ـ أعرف ذالك جيدا، وقال أيضا كلّ العراقيين بعثيّون وإن لم ينتموا، وأستطيع أن أقرأ لك عن ظهر قلب مِعظم الكرّاسات الحزبيّة. في السّابق اختلفت الأمور عمّا هي عليه الآن، كان اسمك إذا ذكر في الاجتماعات الحزبيّة آخذ الأمر على عاتقي فأطلب منهم أن يتركوك، لكن في هذه الأيّام اختلفت الموازين بعد أحداث إيران.

كان يهزّ كتفيه مقاطعا:

ـ طول الفترة السّابقة، عدّة سنوات مضت، والحِزب يبني نفسه، ثمّ يظهر الخوف من ثورة فتيّة لم تستقرّ بعد؟

ـ الغلط الكبير الذي اقترفه الشّاه أنّه سمح لرجال الدّين والأحزاب الدِّينيّة بالعمل لكي يضرب بهم التيارات اليسارية والوطنيّة فخرجت الأمور من يديه، وفق هذه الرّؤية لن نسمح للخطأ أن يتكرّر عندنا، وسنقوم بمسح كلّ العوائل والأسماء فمن ليس معنا بالضَّرورة يُصنّف ضمن الأعداء، إمّا عدوّ، أو معنا، أمّا المستقلّ، فكلمة غامضة، غير محدّدة المعالم. العدوّ معروف. المستقل(وتوقّف فجأة عن الكلام، فاغتنم عبد الفرصة ليقول) :

ـ ولم نخاف منهم، ماداموا أعلنوا وقوفهم معنا لِنُصرتنا في فلسطين والعِداء لأمريكا وإسرائيل؟!

ـ الحقّ أنا لاأثق بالإيرانيين. دائما يبحثون عن الزّعامة، إذا تكلمنا بمنطق الدين والطّوائف نجدهم في الوقت الذي كانوا فيه سنّة اختلقوا المذاهب الأربعة، ومنهم أيضا مسلم والبخاريّ، وإلاّ لما كان العرب يعرفون المذاهب، وعندما اعتنقوا المذهب الجعفريّ، حاولوا أن يستوعبوه مثلما فعلوا بالمذاهب الأُخرى.

أقرب إلى السُخرية:

ـ حسب رأيك كلّ العرب غير الشّيعة يجب أن يرحّلوا إلى إيران.

تجاهل، ومن خلال نظرة هادئة:

ـ ليس إلى هذا الحدّ لكن الدّين سلاح ذو حدّين مثل السِكين يمكن أن تستخدمها في المطبخ، وبإمكانك أن تقتل بها، فأيّ منطق يمكن أن يجرّه علينا حكم رجال الدّين.

ـ مع ذالك، العراق أعلن قيام الوحدة مع سوريا، وعلاقة السوريين بالإيرانيين جيدة، من خلال هذا الطريق يمكن تلطيف الجوّ.

ـ لكي لايتشعّب الحديث فنقفز مثلما تقفز قريتنا من فلسطين إلى الصين وطهران وبغداد، أقول لك بالحرف الواحد، هذه استمارات الانتماء أمامك، سوف أسافر إلى بغداد في مهمّة مثلما أُبلغت اليوم، وآمل أن تكون ملأتها حال عودتي، وإلاّ فلن أستطيع أن أدفع عنك بعد الآن، لأنّ الذي يستدعيك سيكون ضابط الأمن نفسه.

ـ كلّ ماأروم قوله قد يكون الفرد منّا مؤمنا بفكرة معيّنة أيّة فكرة كانت، لكنّ ظروفه ومشاغله أحيانا تمنعه من…

ـ قلت لنحصر الموضوع في مسألة محدّدة قارن بين وضع قريتنا في السّابق والآن. الماء والكهرباء والتّعليم! كم مرّة حاول المرحوم والدك أن يصل إلى بغداد، وكم مرّة حاول عبد العليم! كنّا نهمّ بالوصول واليوم بغداد تصل إلينا.

لحظة فراغ لزم خلالها عبد الصمت، وواصل حسن بأسلوبه الخطابيّ:

ـ اللهمّ إلا إذا كانت لديك مآخذ على الحزب!

ـ أبدا لا ليس هذا المقصود.

ـ من منّا لايرغب في الوحدة، ومن يرفض الاشتراكيّة. الحرّيّة؟ نحن محاطون بالأعداء من كلّ جانب. إيران. دول الخليج. الأردن. خلاصة الكلام من لم ينتسب فهو عدوّ.

ذاكرته أبعد من هذه اللّحظة، فأين هو الزّمن الفاصل. الثّلاثة ركبوا الأحلام والأمنيات. ثقبوا الخيال والضباب، وعبروا مع الجنّيّات، وحلقوا مع الملائكة. أسقطوا رؤوساء وعاقبوا معلمين يكرهونهم، وانتقموا من أُناس لايحبّونهم، وقبل أن يصلوا جُنّ واحد منهم، واكتفى عبد بهزائمه المتتالية، ليستفيق من الحلم على كابوس ثقيل حلم به الآباء والأجداد، وآن أن يتحقق في عهده هو، أمّا ثالثهم فقد كذّب كذبته صغيرا فصدّقها كبيرا، فلم يلوم حسن وحده؟ ألم يبدأ الثّلاثة مشوارهم بلعبة، وهو بالذات ألم يتطرّف في حبّه لناهدة، ومازال يغالب الهزيمة، فأين هو الصِّبا، وقد توزّعه الجنون مرّة، والتطرّف والهزائم؟

ـ من ليس منّا فهو عدوّ.

كانت أجمل فتاة ياحسن الأجمل والله، مثلما اندفعت أنت نحو الحزب، أنا أيضا نحوها:

ـ آخر كلام ويكفي التردّد.

ـ لترجع من بغداد بالسّلامة، فتجد كلّ أهالي نهرجاسم انضمّوا للحزب، ولست أنا وحدي، حتّى ناصر المسعود سيكون معنا.

ـ أتظنّ أنّ الحزب بحاجة إلى النّاس! كلا، إنّه يريد إنقاذهم ممّا هم فيه من غفلة، ويريد احتواءهم قبل أن تخترقهم التيّارات الأخرى.

ولمّا عاد إلى البيت وجد الدّاهية في انتظاره. شيء ما في عينيها. ليس الشّك أو الخوف، ولاالقلق، مع ذلك لم يستطع ان يُدرك كنه ذلك الغموض. كان يبسط الأوراق أمامها ويقول:

ـ ياستة مع الستين"وأكدت متحمّسة"أنت معفى من العسكريّة، ولن يأخذوك في الجيش الشّعبيّ. كفّ شرّهم عنك.

ـ سيكون ذلك بعد عودة حسن من بغداد!

ـ أين قلت؟

ـ في مهمّة ما إلى بغداد.

ـ وماذا يفعل؟

ـ ماأكثر المهمّات التي تنتظره، فقد أصبح مهمّا، ولو طاوعته، وسجلت في الحزب معه يوم كنّا صغارا….

ـ ياله من زمن . بغداد التي كادت تستجير بأبيك ليحكمها، ومن بعده وجيها معروفا مثل عبد العليم…

ولم تزد عن ذلك، كأنّها كانت في حيرة من أن تهرب من الكلام أو الصّمت أم من كليهما إلى أيّ شيء آخر!!

ـ 6 ـ

غاب حسن عن القرية ثلاثة أيّام، كانت النّبوءة خلالها تنبعث من جديد، كما لو أنّها أزاحت غبار النسيان عنها بعد ماكادت تتلاشى وتندثر في ذاكرة الجيل الحالي، لكنّ الذاكرة امتدّت بها بعيدا حالما ظهر ذلك الأمر الغريب، ومن رآه عن قرب أو بعد تجلت له كلّ التفاصيل حيث أبلغ الشّاهد الغائب : ذلك اليوم من الضّحى إلى ماقبل الغروب شاع الخبر عن حصان غريب مشوّه الخلقة يتجول في بساتين نهر جاسم. لم يعرف أحد من أين أتى. كان يعرج وقد تهدّل لسانه على الجانب الأيمن من فكه، فظلّ فمه مفتوحا لاينطبق، وعيناه، أشبه بعيني غاضب أو أحمق، ظلتا تحملقان دهشة في المشاهد المنتصبة حوله. في مسيرته اخترق الحصان البساتين من طريق حسكان، فالمفرق، وتوقّف عند قنطرة الحوريّة. تردّد، كأنّه يفكر بشيء ما، ثمّ مال عنها إلى بساتين كندا والمسبح المهجور واليوسفيّة، وكلما مشى خطوات أو هاج مهرولا برجله الأماميّة العرجاء، التفّ خلفه، عن بُعد، خلق جديد حتّى يخيل لمن يرى نهر جاسم تلك السّاعات كأنّها بمجموعتها التي تقفز السواقي والأنهار مثل البالون يكبر لحظة بعد أُخرى بل هي أكبر من مدينة البصرة نفسها، وبين فترة وأخرى، يقف الحصان الأعرج المشوّه عند ساقية صغيرة، يتأمل لحظات يمدّ رأسه، يهمّ أن يكرع الماء، فيعجز، ولاأحد يجرؤ على الدّنوّ منه، فضلا عن أن يفكر بإطلاق النّار عليه خشية من أن يكون ملاكا أو مسخا، ولعله جنّيّ، عفريت، حتّى الحزبيّون، وأفراد الشّرطة ممّن يحملون تصاريح السّلاح، أعرضوا عن الفكرة خوفا من أن يجرّ قتله فألا سيئا للقاتل.

كاد الخبر يصل إلى بيت الباشا على أقلّ تقدير في اليوم التالي لولا أنّ ملكة الليل خرجت إلى بساتين البرّ مع قطيع الغنم، وعادت قبل أن تكمل المشوار، لتخبر أهل البيت عن الحصان الغريب الذي ساقته إليها الأخبار فلمحته يجتاز جسر " دوسن" باتجاه مقبرة عريزة، والجموع تسير خلفه كأنّما هو يوم الحشر، وبعد ممانعة غير جادّة من الداهية خرج عبد يدفعه الفضول. لم يصدّق عينيه، وهو يقف مع كلّ تلك الجموع. من أين جاؤوا؟وكيف كبرت نهر جاسم بلمح البصر، وتساءل والذكرى القريبة تلفح عينيه : أيّة عزلة يعيشها بيت الباشا؟ كانت الأمّ الحاجّة تقصّ عليه من أخبار الجنّ والإنس والأماكن البعيدة، على الأرض وفي السّماء، فيعرف الكثير الكثير، وتصل إليه الأخبار أوّلا بأوّل، ومن غريب المصادفات أن يسمع المذياع ويرى التلفاز، لندن. . أمريكا. . طهران. . بغداد. . القاهرة. . وكلّ المدن، وفي اللحظة ذاتها غفل عن نهر جاسم وهي تكبر عشرات المرّات بين يديه. الخبر يجري من حوله، ولايدري به، حتّى أدرك نفسه وهو يحثّ الخطى، ويلتحق بالركب خلف الحصان باتجاه عريزة. لم يرتق التلة. توقف لحظات، فوقف الحشد. رفع رأسه إلى الأعلى، وزفر، فتدلى لسانه كحبل من بين أسنانه، ثمّ هرول من سفح عريزة مارا بالضّريح، منحدرا نحو ضفة النهر الأعمى، والناس لما يزالوا يقتفون أثره، وكلّ يدلي ساعتها برأيه حول الحيوان المسخ متجاهلين المسافة الواسعة بينهم وبينه خشية من أن ينقلب عليهم فجأة فيقعوا تحت جنونه المفاجيء. من أين جاء المسخ؟ماذا يريد؟أهذا آخر الزّمان؟العلامة؟

ـ الأعور الدجّال؟

ـ السفيانيّ؟

ومع أيّة حركة منه تنقطع الأصوات، وترتقب العيون شيئا ما. كان يقف على جرف النّهر الأعمى، مادّا عنقه نحو الماء، متجها ببصره إلى السّماء، في هذه اللحظة، انتبهوا إلى زعقة حادة، وإذا بناصر المسعود، يتخطى العيون وهو ينحدر من أسفل عريزة، فيجتاز الحشد، ليقطع بخطوات حثيثة المسافة الخالية بين المسخ والعيون. وقف. تأمّل الحصان. راحت يداه تداعب عنقه، ورأسه، ثمّ مال فوق الجرف مزيحا بعض نبات الحلفاء، وغرف بيديه حفنة من الماء. كأنّه كان يقبض على حزمة من السحر. قطرات تخرّ من شقوق يديه فتتعلق بها الأبصار إلى الأرض، أو على شفة الحصان من جهة الفك المشوّه حيث لسانه يلعق القطرات. فعل ذلك عدّة مرات. عندما ارتوى ربت ثانية على عنقه، وتمتم صارخا بكلمات مبهمة، والفرحة تعلو وجهه. وقد كاد كلّ شيء ينتهي عند هذا الحدّ، فيخرج الأهالي إلى حكاية جديدة، تنتهي بهم عند نبؤة تضاف إلى حكايات القرية القديمة، فتُستثار كلّ القصص السّابقة عن الحرب والطريق، وفلسطين، والنّصرة القادمة من الشّرق حيث إيران والصين، فيتعجّلون يوم القيامة قبل حلوله. كلّ شيء محتمل لولا أن قدمت سيّارة جيب تابعة للناحية، ترجّل منها شرطيّ ومفوّض، أمّا الشّرطيّ، فقد اتّجه إلى المعتوه، ألقى قبضته على كتفه، وراح يدفعه باتّجاه الحشد الذي تجرّأ بعض من أفراده، فاقتربوا خطوة أو خطوتين، ونطق مأمور المركز بصوت سمعه الحاضرون:

ـ هذا تابع للشّرطة الخيّالة، أصابته رصاصة بالخطأ في فكّه، ولم يعد قادرا على الأكل والشّرب كأيّ حصان عاديّ، فارتأينا أن نطلق عليه رصاصة الرّحمة.

خيّم الصّمت من جديد، ولمّا يطل. رفع الحصان رأسه، محملقا في الواقفين. كانت يد المفوّض تسابق الصّمت والأبصار، وتتبع جبهة الحصان. خلال لحظة اخترقت الهدوء العابر رصاصة، تطاير معها شلال من الدم، وصخب مألوف:أناس يتحدّثون. طيور تفرّ. نباح. . صوت سيّارة من بعيد عند طريق البرّ، والمعتوه يزعق ثمّ يهرول إلى مكان ما…وفي أقلّ من لحظات كانت القرية تعود إلى حجمها الأوّل. . أفراد قلائل يغادرون المكان القريب من ضفة النّهر حيث جثة الحصان. المعجزة ليست هي التي كانت، وإلا لكانت صورة الحصان المسخ نذير سوء، هكذا شاعت الرّائحة العفنة بين النّخيل بعد يومين، وقيل الحمد لله انتهى الشّر، وسلمت يد المفوّض الذي نطق لسانه بما غمض من سرّ كادت القرية تنام مهتاجة على بشاعته. وحين عاد عبد إلى البيت، وجد إمارات القلق ترتسم على وجه الدّاهية التي آذاها صوت الإطلاقة، فأسرع يقطع عليها تعجّلها في معرفة الخبر:

ـ واللّه مجانين. الجميع مجانين، وناصر المسعود هو العاقل الوحيد.

فقالت ملكة الليل:

ـ وأين هو العاقل في هذه الأيّام؟

ـ ماذا عن صوت الرّصاص؟ سمعته فهبط قلبي لخوفي عليك. ألم أقل لك البقاء في البيت أسلم؟.

ـ كانوا يظنونه مسخا أو جنّيّا، فظهر أنّه تابع للشرطة الخيالة أصيب عن طريق الخطأ برصاصة في فكّه، ولم ينجل اللبس والإبهام حتّى وصول المفوّض الذي أطلق عليه رصاصة الرّحمة.

هذا كلام لايدخل العقل، حصان مشوّه يدخل القرية منذ الفجر، يظلّ يتجوّل فيها إلى وقت الغروب قبل أن يُقتل أين كانت الشرطة؟

مع ذلك يمكن أن تكون الداهية محقّة، ومن محاسن المصادفات أنّ الحصان لم يلذ بضريح جدّه، ليُقتل بعدئذ، مهما يكن، فقد رآى الموت رؤية عيان مرّة أخرى:عينان غريبتان، لسان كريه. وجه منفر. شدق مفتوح، ثمّ رصاصة تخترق الجبهة، فينبجس دم غزير، وتهوي الجثّة هامدة، قبل أن تدرك الأسماع قصّته لم يجرؤ أحد على لمسه، أو الاقتراب منه، هو بالذات ذهبت به الظنون مناحي شتّى، فما أعقلك وأشجعك ياناصر المسعود، وكأنّه استمدّ في تلك اللحظة القدرة على التمرّد، ولعله الخوف من المجهول الذي مزّقه المعتوه وهو يعانق الحصان الغريب، فاندفع يلقي عن صدره ثقلا ناء به سنين طويلة:

ـ داهية!أتذكرين يوم عثرت علينا مصادفة في ضريح جدّي نحن الثلاثة ومعنا علبت كبريت؟

ـ ماالذي ذكرك به في مثل هذه السّاعة؟

ـ كلما قابلت ابن المسعود تذكرته. اليوم بالذات وهو يسقي الحصان، على جرف النّهر الأعمى.

ـ من يدري لعله يدرك بعض الغيب، فالمجانين يرون مالايراه العقلاء.

ـ وقتها ادعينا أننا جئنا نقرأ الفاتحة على روح جدّي والحقيقة كنّا نبحث عن الاسم الأعظم الموجود في القرآن الذي لايناله الحرق.

تغيّرت سحنتها فجأة، وكتمت شيئا مجهولا أهو الغضب أم الخوف. الله وحده أعلم:

ـ أكنت تكذب عليّ إذن وفي الضّريح؟

ـ كانت تلك هي الأولى، والأخيرة، ولم أفكر بعد بإعادة الكرّة، فتخلينا أنا وحسن عن الأمر، ويبدو أنّ ناصر المسعود فعلها، فجاءت تلك عاقبته.

ـ دفع الله ماكان أعظم. لو أخبرتني حينها لضحّيت لك بفدية، ولعلّنا خسرنا في السّابق بسبب هذا الفعل، لكنني مع ذلك سأضحّي.

وعادت ملكة الليل، وهي تحمل صينيّة العشاء، لتقول من جديد:

ـ ناصر المسعود ركب البعير، فسقطت طائرة الرّئيس، وهذه المرّة لمس الحصان المشوّه، فماذا عسى أن يحلّ بالرئيس؟

ظهر الجواب واضحا على ملامح الدّاهية التي بدت صباح اليوم التالي بأسوأ حال. والغريب أنّها لم تكن لتشكو خلال عمرها المديد من أيّ مرض، ولم تزر الطّبيب قطّ، أو تتناول دواء ما، ماعدا إبرة المخاض قبل عشرين عاما، فقد مرّت سنواتها من دون دواء، كأنّها ملاك مخلوق من جسد شفاف لايناله المرض ولايطاله التعب، تلك الليلةـ بعد إطلاق رصاصة الرّحمة على الحصان ـ صحت من ألم حاد في أسنانها. كادت تصرخ، وهمّت أن توقظ ملكة الليل، غير أنّها تحاملت، وكظمت وجعها. في صباح اليوم التالي شوهدت بفكّ مشوّه بسبب الانتفاخ، وشفتين متورّمتين، في البدء ارتأت أن لابدّ من زيارة طبيب الأسنان، وقالت تروي حكاية مرضها الغريب لملكة الليل وعبد:"إنّها كفّ أبي"كانت تتحدّث والكلمات تخرج مشوّهة:"كفّ جدّك ياولدي"، ولو كانت الضربة بغيرها لأردته قتيلا. ماذا فعلت الداهية؟هل أعطت حقّ اللّه؟ وهل تابعت أخبار ابنها عبد أم هو الزّمن الذي جعلها تتقاعس، وكان لايقرّ لها قرار حتى تدرك الأشياء وتعرف أخبارها. استعاذت بالله من شرّ أمس. قرأت المعوّذتين، وفكرت في الحصان المسخ الذي ظهر في هذا الوقت، كأنّه اختارها لينشر إليها العدوى فتكون عبرة للشامتين!وبدلا من أن تكشف نفسها من خلال خروجها إلى طبيب الأسنان فيراها الناس بغير فكها وشفتيها، بدلا من الفضيحة والشماتة وإن لاشماتة مع المرض فكرت أن تفوّض أمرها لله، فوضعت القرآن تحت وسادتها شأنها كلما ظهر في الدنيا شيء غريب يستعصي على الإفهام، ولأنّ الحصان مرّ بكلّ البقاع، ولم يتوقف عند الضريح، فقد رأيتُ الوليّ، واللهِ كأوضح مايكون، وأوّل مانطق فمي قبل عيني وقلبي. سألته:

ـ إنّ دعاءك عند اللّه مقبول فلِمَ لاتدعوه أن ينتقم من الحكومة؟

وسكتت برهة، ثمّ واصلت، ولمّا يزل عبد وملكة الليل ينصتان إليها خاشعين:جدّك الذي كان يهابني، وهو حيّ، تجرّأت روحه الطّاهرة، فهوى براحته على فمي، وعيناه يتطاير منهما الشّرر، ليقول لي ناهرا:من يحكم خلق الله السيئين غير الخنازير والقرود إذا انتقم الله من السفاحين والقتلة. أوصل بك الغرور ياداهية لتعلمي الله؟!كفى قلة أدب، ياداهية، ولاتتدخّلي فيما ليس لك به شأن.

وإذ حلت نهاية الحكاية، بالصّمت الطويل ثانية، اندفع عبد:

ـ لاتتعبي نفسك بالكلام ياأمّي.

وأشارت إليه ملكة الليل أن يخرج في استدعاء سيّارة تقلها إلى العشّار للعلاج، وحالما شعرت الداهية أنّهما تجرّآ على صمتها، قالت دون أن تتعثر شفتاها بالكلمات:

ـ لاداعي. بدأ الألم يخفّ!!

ـ ألم تطلبي بنفسك الطبيب؟

ـ لاأُنكر أنّي فكرت، لكن مادام جدّك قد صفعني، وبذمتنا نذر سابق كشفت عنه أنت من غير أن يذكرك أحد، فلاداعي للطبيب، ولتكن الإبرة التي زرقتني بها ابنة لاوي لتسهل ولادتك هي آخر عهدي بالأطبّاء. نعم لاداعي لذلك.

يقول عناد أم مكابرة؟وهي لاتخجل أن تبوح بسنّها فكثيرا ماتكرر الشّيب وقار، لكنّها مازالت تعاند الزّمن، كأنّها صبيّة ذات أربعة عشر عاما. كانت تلتفت إلى ملكة الليل، وتضيف:

ـ أحضري أحد الخرفان، فلابدّ من التّضحية قبل فوات الأوان.

ولم تغادر البيت، ورفضت أن تقع أيّ من العيون عليها إلى أن يشفى فكها المتورّم، وكان عبد وملكة الليل يُشرفان على نحر الخروف جنب الضريح، ويوزّعان لحمه على بيوتات القرية، لتحلّ البركة على نهر جاسم.

تلك الأيّام شاع أنّ الداهية صامت بضعة أيّام عن رؤية بني آدم والحديث معهم!!

ـ 7 ـ

أخيرا

بساعات قبل رجوع حسن رأت نهر جاسم القتل في كلّ مكان، هكذا فجأة، بين الممكن والمحال انكشف الغموض، ووقعت العيون والآذان على الصّور، والأصوات في التلفاز والمذياع. عرفوا أنّ مؤامرة كبيرة أخفقت، وأنّ هناك دولة مجاورة تعاون معها المرتدّون لإسقاط الرئيس. المؤامرة، هذه المرّة، قادها كما يزعم التّصريح الرّسميّ، أعضاء كبار في الحزب الحاكم. مادام الخونة بعثيين، فقد فهم القاصي والداني من هي الدّولة المجاورة. ولاح في الأذهان أنّ مشروع الوحدة سوف يؤول إلى زوال. واتضح للداهية الآن سرّ سفر العمّ النّمر المفاجيء إلى لندن، واللغز الذي اكتنف تصفية أملاكه. كان الرجل، كما شاع، يرتبط بعلاقات وثيقة مع المسؤولين الكبار في البصرة وبغداد من المحسوبين على الرّئيس السّابق، لكنّ الثعلب يشم الخطر عن بعد. قبل أوانه. وربّما غلب على ظنّ بعضهم أنّ عددا من المسؤولين الذين عجزوا عن الهرب وحُوكموا فيما بعد كلفوا الثعلب أن يحمل معه بعض أموالهم لقاء عمولة تقاضاها. امّا أكثر النّاس إظهارا للشماتة، فكانت الداهية التي علقت على نجاة النّمر بأنّه كلب انكليز. صناعة بريطانيّة. الحادث المشهود ترك طابعه على قرية نهرجاسم، فليس من باب المصادفة أن يخيّم التشاؤم من جديد، لموقع نهرجاسم القريب من الحدود، وحين عاد حسن، عرف القاصي والداني أنّ الدولة اختارت بعثيين من كلّ المحافظات ليعاقبوا الخونة. العراق كله مارس القتل، ونهر جاسم وجدت نفسها تطلق النار بيد ابنها حسن. هذه اللعبة البريئة التي داعبت خيال الصغير ذات يوم، فتلقفها كما يتلقف الكرة، وإذا بالاختيار يقع عليه ليقتل!!النّبؤة كبرت، والداهية معتكفة حتّى خفّ وجعها، وخفت الورم عن شفتيهاوفكها. لم تكن الحرب جديدة عليها. رأتها في أثناء طفولتها. عاشرت الموت. مهما بعدت عن المأساة، يبدو أنّها أصبحت أكثر قربا منها، غير أنّ صوت وحيدها لمّا يزل يلحّ في أُذنها:

ـ ياداهية لنرحل مؤقتا.

مقتنعة أم لتؤكّد:

ـ أكثر من الحشود التي وقعت بين عبد الكريم وشاه إيران أيام زمان ولم تقع الحرب.

ملكة الليل تؤكد أيضا:

ـ يُقال إنّ الشّاه ترك سلاحا يستطيع أن يمحق به كلّ الدول العربيّة مجتمعة فمن يجرؤ أن يتحرّش بإيران.

كلّ ذلك يمكن أن يكون كلاما لكنّها راحة البال التي امتحنها الله بها في أحلك الأيّام، والطفلة القادمة من حرب لاتعي ملامحها القاسية إلا عبر أبيها وأخيها. تدرك أنّ في الأفق حربا مدمّرة، ولاتريد أن تصدّق نفسها. إنّها ليست متأكدة من الزّمن فقط. ربّما تقع الحرب بعد دقائق أو قرون، بل تخجل أن تزور قبر أبيها الوليّ بوجهها المشوّه، ولكي تتأكّد من مخاوفها، انتظرت إلى الخميس حتى زال الورم تماما، ولم تعد تخشى من شماتة الكارهين. ذهبت إلى الضّريح. أشعلت الشّموع، وجلست تتملى خواطرها. الخجل ممّا بدر منها في الحلم، وقد حدثت نفسها ألا تتكلم بعد الآن. الرّؤيا وحدها تكفي، وأمامها عجب الأشياء: النهران الأعمى والكودي يعانق كلّ منهما الآخر. نهر شطّ العرب التحم بالمالح قادما من جهة الشّمال. المشاهد تكدّست وجثمت ساكنة أمامها. حشرات من حديد. بعوض غريب. ذباب. جعلان. صراصر. نمل. عقارب من حديد. حمرة تلوح من بعيد على وجه الأفق، وفوق المياه. وسط ذلك العالم المليء بالحشرات المعدنيّة الكبيرة، راحت تسأل عن أبيها أين هو كأنّه لم يمت أو ظنته حيّا إلى هذه الساعة الموحشة بالأفق، والمتوحّشة عن البشر، وحين التفتت من دونما كلام، كان لها ماأرادت. وجدت المعتوه أمامها. التفتت باتّجاه آخر، فوقع على عينيها وهو يسبق التفاتتها، فيشخص في كلّ مكان، ثمّ فاجأها بنطقه الواضح القويّ العذب:

ـ هل دعوتني ياداهية؟

ـ بل دعوت أبي.

ـ أنا أبوكّ!

ـ إنّي أعرف أبي.

ـ أجئت تسألينني عن الحرب؟

لافرق بين المعتوه والوليّ، وبينها أو حسن، والمختار، وابن النّبهان، الموتى والأحياء يسألون عن شيء ما. مجهول. معروف. أصبحوا أشبه بالمجانين. الحرب. من عهد آدم وهو الشّجار باق إلى اليوم، والوليّ الذي ترك الحرب يوم كانت الدنيا غضّة طريّة لايجيب، وهو يعرف أن لاأحد يسأل عن الأمان ومتى يحلّ على الأرض ؟ اليوم رأت مالاتراه عين حتّى كادت تنفجر من الغيظ:

ـ هل تحدث حرب؟متى؟ أريد أن أعرف. أخبرني؟

نظر إليها نظرات غريبة مبهمة غموض الساعة التي هي فيها، وغادر المكان. القبر. كان حقّا المعتوه. وقد ازداد اللغز غموضا. هل كلمته نائمة أم في حالة صحو، ومع التفاتها، وعيناها تتعقّبانه، وهو يهرول إلى مكان ما تناهت إلى سمعها أصوات خشنة حادّة، ورأت عبر الفضاء المترامي من طرف البرّ حركة لناقلات ودبّابات، وسمعت أزيزا في الجوّ، فاستعاذت باللّه من الشّرّ القادم، وأطفأت الشّمعة، ثمّ غادرت المكان، ومن حولها، عن بعد، عند طريق البرّ، على الحدود، تزداد كثافة الأصوات، وحركة النّاقلات المتوجّهة نحو الجنوب والشّرق.

 

د. قصي الشيخ عسكر

...........................

حلقة من رواية: نهر جاسم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم