صحيفة المثقف

الثّورةُ مبادئُ وروحٌ

قبل البدء: الحديث عن السياسة ودهاليزها وحتى جزئياتها ليس من شأني. أرى السياسةَ بالنسبة للمرأة جرثومةً تلوّث أنوثَتها، وتُحدِثُ هجانةً في سلوكها وخُلقها وحتى على ملامحها الظاهرة، وطريقة تعاطيها مع الآخر، فتبدو كثيرة الشبه بالرجال شخصاً وشكلاً بحسب التجارب التي رأيناها. المرأة دائما تبدع في المجالات التي تحاكي ذاتَها، فذات المرأة غير ذات الرجل. لكن على أية حال، العالم تبدّل والمرأة دخلت الحياة من كل أبوابها، وأعلمُ أن المرأةَ تتمتع بطاقاتٍ تفوق الرجل أحيانا، وأعني هنا الطاقات النفسية والعصبية التي تؤهّلها دوما للاهتمام بالتفاصيل الصغيرة الضرورية جدا في أداء أي عمل؛ وهي عندها أعلى منها عند الرجل، فالرجل يتفوق عليها بطاقته الجسدية العالية وقدرته على تحمل الأعباء الثقيلة التي تنوء من حملها في الحياة.

البدء؛ لم أنتمِ الى اليوم لأي حزب أوتيار إسلامي أو غير إسلامي. لم نرَ خيراً من الأحزاب على اختلافها؛ على امتداد دام لأكثر من ستين عاما، وإن كنتُ مؤيدةً لها في حدود رفع الظلم عن الحياة والناس، إن كانت قادرةً على ذلك. وهذا مامنحني الحرية في الكثير من المواقف والمشاهد في حياتي؛ في التعبير عن رأيي بكل صدق وصراحة، فأنا حرةٌ في تفكيري ولايتدخّلُ أيّ أحد في آرائي. الانتماء لحشد ما، ولاأعمّم في الغالب يكون فيه تملّقٌ وتزلّفٌ، وهذه الخصلتان تجر معهما الكذب والزور والتزييف، وهي خصالٌ تتقاطع مع طبيعتي، لأنّي لم أتربَّ على هذا.

صورة جيفارا استفزتْني واستوقفتْني واستحثّتْني على الكتابة.

337 جيفارا

للوهلة الأولى بدت أمامي صورةَ عاملِ بناءٍ، لكن فوجئت به يمارس عملَ مواطن من الطبقة السفلى، وهو وزير الصناعة؛ واستمر في نضاله حتى ضحّى بروحه من أجل قضيته. سأله أحدُ رفاق دربه: الى متى ستبقى تقاتل بعد أن كنت في فنزويلا والمكسيك وانغولا وكوبا.. الى متى؟ قال: الى أن يتمكن كلُ أطفال العالم أن يشربوا كوباً من الحليب كل صباح.[1]. نظير معنى قوله قول الإمام علي (ع) صوت العدالة الإنسانية في كفاحه مع الفقر: (لو كان الفقرُ رجلاً لقتلتُه).

الروحُ الحيةُ هي شرطٌ واجبُ الوجود لحفظ ِالمبادئ، وهي رافدُها ومَعينُها الأول. الإنتماءُ أولا يبدأ من الروح وينتهي اليها. فالمبادئ تستقي دوما من روح حاملها؛ فهي ليست نظريات موجودة في الرأس يتفاعل حامُلها معها بمشاعرَ ملتهبةٍ ومن ثم تنطفىء فيما اذا اصطدمت بالمصالح الشخصية. كيفما تكون روافدُ المبادئ اذا لم تجد لها أرضاً صلبة لتبقى منتصبة، فستنهار سريعا. من تنطفىءُ لديه المبادىء، لايحملُ روحاً صلبة.

الثبات والوفاء للمبدأ كما عبّرتُ شرطُه تسلّحُ صاحبه بروح صلبة، وليس شرطُه انتماءَ صاحبه لحزب أو تيار ما، فالانتماء للروح أولاً، وهو الأساسي، ومن ثم لتيار ما إن وُجد، وهو ثانوي.

أحيانا يكون الانتماء لتيار ما بالإكراه، وهو انتماء سلبي؛ حين تكون حياةُ أي أحد مهددةً بالخطر، فينتمي وهو غير مقتنع تماما بالانتماء الجديد، الذي لا يشابه مبادئَه بقدْر ماهو مؤمن تمام الإيمان بقيمٍ ومبادئَ حملتْها روحُه بالخفاء ولايريد التخلي عنها، فانتماؤه هنا لروحه أيضا، وهو انتماء صحيح، لأن القوة هنا لروحه لا لغيرها، وكما عبّرت فإن الإنتماء ينبع من الروح وينتهي اليها. وانتماؤه للتيار هنا هو ثانوي لاقيمة له.

المبادىء أقوى من الإرادات والمصالح والرغبات (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)[2]. تُمتحن الروح حين تواجه الأهواءَ فإن استسلمت لها فهي غير مؤهلة لحملِ المبادئ، والمبادئُ مهددةٌ بالخطر دوما، اذا لم تلقَ روحاً حية تحملها على المدى البعيد (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا)[3].

هذه لافتات ناطقة حية للروح الفولاذية القوية، روح سيد الثائرين الإمام علي (ع) القائل: (هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي الى تخيّر الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لاطمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى)[4].

والإمام الحسين (ع) القائل: (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولاأقر إقرار العبيد)، (ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركّز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات من الذلة...) والسيدان الشهيدان الصدران؛ الأول محمد باقر الصدر (قده) القائل: (يا أبناء علي، عجبا، نحن عُرضت علينا دنيا هارون الرشيد فرفضناها؟...)، وهو الزاهد في الدنيا ومافيها، (كان يرفض أن تدخل الفاكهة الى منزله ما لم تدخل الى منازل كل فقراء النجف)![5] رحل ولم يترك فلسا واحدا لأسرته. ومحمد محمد صادق الصدر (قده) القائل: (إن أغلب الناس سوف ينهارون تجاه الظلم والإغراء ولايبقى من ذوي الإخلاص الحقيقي الاّ القليل). والثائر المخلص جيفارا، وهو القائل: (أيها الساجدين على عتبات الجوع ثوروا فإن الخبز لايأتي بالركوع). هكذا يكون الشرفاء، وغيرهم من ثوار العالم الأحرار على اختلاف مشاربهم، الذين ثأروا لرفعِ الظلمِ وبسطِ العدلِ في ربوع بلدانهم، وهو القاسم المشترك لكل ثوار العالم، برغم اختلاف منابعهم التي يستقون منها وقودَ ثوراتِهم.

علي والحسين عليهم أفضل الصلاة والسلام هما من أهل بيت النبوة، ومهبط الوحي ومعدن الرسالة، وهذه هويتهما وكفاهما بذلك شرفا وفخرا. والسيدان الصدران لم يكونا منتمييْن لحزب ما يوم ثارا على الظلم. أما جيفارا فهو منتمٍ لروحه القوية العصامية، فمكث وفياً لمبدئه حتى حين بلوغه السلطة. في مقولة شهيرة له مفادها هو: الثورة لاتحتاج الى عقلٍ وجسدٍ فقط، الثورة أيضا تحتاج الى روح.

في بلداننا إذا تفضّل مسؤولٌ وسلك سلوكَ جيفارا؛ فسلوكُه طارىءٌ، لحظيٌ، تمثيليٌ، تجميليٌ، يكتنفه الرياءَ والعجبَ وحتى الكذبَ أحيانا، الاّ ماندر. أما سلوك جيفارا في الصورة فهو سلوك مسؤولٍ مناضلٍ، عفويٍ، حريصٍ؛ يدعوك المنظر الصامت لأن تلمسَ بين يديك حرارةَ قلبه؛ خصوصا وهو عارٍ عن اللباس، لحرصه وجدّه واهتمامه الشديد بقضية أمته.

نظائرُ جيفارا أخوانُنا رفاقُ الأمس عشّاقُ المبدأ كانوا ناكرين لذواتِهم، لأنها ذائبةٌ في المعتقد والفكرة... مستميتين، مازالوا في خط الله والدفاع عن المبدأ؛ فحملوا السلاح وتسلّحوا بقوةِ الإيمان بإخلاص، ليبيدوا رؤوسَ أفاعي الظلمِ والكفرِ والضلال، وليحكّموا شريعةَ الله في الكون كله (من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدلوا تبديلا..)[6].

ورفاقُهم رفاقُ اليوم حين اعتلوْا عرشَ السلطة، الذي ناضلوا ببسالةٍ من أجل بلوغِه، وسالت من تحته أنهارٌ من الدماء، رافعين شعارَ (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)[7]. فلم يحكّموا شرعَ اللهِ في سلوكِهم فضلاً على بسطِه على مرافق الحياة، وهو شعارٌ كبيرٌ لم يقوَ على النوْء به الاّ الأصفياء، بل ذابت في رؤوسهم الفكرة؛ فطفقوا ينقبون عن نرجسياتهم التائهة في ذواتهم، التي افتقدوها يوم كانوا مناضلين!!!

وقعوا في فخّ السلطة واغراءاتِها ونسوْا قضيتَهم التي ناضلوا من أجلها، وأعطوْها فصولاً مهمة من حياتهم لايُستهان بها، وتضحياتِ رفاقِ الدرب، ودمائِهم لتثبيتِ العدل ورفعِ الظلم والحيف عن الناس. السلطةُ مقبرةُ الأحزاب، حيث تتشظّى الأحزابُ أولا؛ ثم تنطفىء وتموت، ومايتبقى منها هو حقيقةُ المنتمين بعد أن تموتَ في رؤوسِهم المبادىء وتتعرّى نفوسُهم (قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرّأنا اليك ماكانوا ايانا يعبدون)[8]، حينئذ تتلقّاهم دنيا هارون الرشيد، فتعانقُهم (أمطري أينما شئت فسوق يأتيني خراجك) و(الناس عبيدُ الدنيا والدينُ لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه مادرّت معائشهم فإذا ما محّصوا بالبلاء قل الديّانون) – الإمام الحسين (ع).

الجميل أن أخوتَنا أخوةَ القضيةِ الواحدة والوجعِ الواحد، حين تسلّموا السلطة، أخرجوا من قلوبنا روحَ التعصب للحاكم المؤمن الملتزم، الذي كان بنظرنا سيحكم بما أنزل الله، وهو تفكير ساذج، مثالي لاوجودَ له على أرض الواقع، لأن برأينا أنه كان مخلصاً لله وللمبدأ وسيطبق تجربة حكم الله. كذلك فإن أبناءَهم تخلوْا عن معتقدات آبائهم لأن الجيلَ الجديدَ كما نعلم جيلُ المعلومة السريعة، وهو جيلٌ نابهٌ، ناقدٌ، ذكيٌ، وهي نتيجة حتمية استخلصها جيلُ الأبناء بعدما عاش تجربة الإسلام السياسي المرة ونماذجه الفاشلة في بسط العدل والخير والسلام ولو على بقعة صغيرة من بقاع الوطن الكبير، حتى لو استثنينا من جيل الأبناء من حافظ على الحد الأدنى من قناعات الآباء لحاجة في نفس يعقوب؛ لكنه لايخلو من انتقادات لهم، حتى لو لم يبْدها أمام الملأ (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلاّم للعبيد)[9].

أتذكر مقولةً قرأتُها لأحد الدعاة الشهداء قبل أكثر من عشرين عاما في صحيفة نشرت صورتَه قائلا: كأني برفاق دربِنا الأحياء الباقين، يفترشون صحيفةً نشرت أسماءَنا وصورَنا نحن الشهداء، على الأرض ويأكلون عليها، ثم يرمونها في سلة المهملات، أقول: هذا غيض من فيض مافعلوه رفاقُ الدرب، فقد عبّروا عن مبادئهم بالتُرَّهات والأوهام التي لاعلاقة لها بالأرض والحياة.

ألبومُ صورِهم؛ يوثّق تاريخاً حافلاً بالأمجاد والبطولات، والمرابطة في معسكرات الجهاد ضد الظلم والطغيان. شعورٌ مؤلمٌ يعتريني حين أتصفّحُه؛ بعضهم مضى الى رحمة الرحمن باختيارٍ منه جل وعلا، والبعض أبقاه الله بحكمته، أرى فيه رفاقَ الأمس بمعية بعض من رفاق اليوم جمعهم حبُ الله وأصالةُ المبادىء والإخلاصُ والمضي على الدرب مهما كلف الثمن، وفرّقهم حبُ الدنيا، والأهواءُ والمصالحُ ...ياللمفارقة!!!

نفس الحالة موجودة أيضا في حملة الإيديولوجيات الأخرى، حيث يقعون في فخ السلطة وفتنتها، فيتخلوْن عن المبادىء ويلتفون حول الذات والمصالح والأهواء الشخصية، وينسوْن دماءَ رفاق الدرب، الا ماندر منهم.

هم ليسوا مطالبين حتى بالالتزام والاتزان في سلوكهم، فالالتزام والاتزان منبعُهما الأول النفس وما جُبلت عليه والتربية الأولى، والثاني القانون الصارم إن وجد؛ بقدر ما يعون حجمَ المسؤوليات المتصدّين لها وثقلَها وأداءَها بإخلاص، وبقدرما يجدون اسلوباً حضارياً منا سباً للإعتذار عن عجزهم عن أداء مهامهم، أو الإستقالة. الناس هم ليسوا بحاجة الاّ الى تحقيق أبسط حقوقهم الحياتية البديهية، فالحريات الشخصية موجودة... حملةُ الأديان يمارسون طقوسَهم علنا، وحملةُ الإيديولوجيات الأخرى أيضا يمارسون حرياتَهم بالكامل، ولم يعودوا مضطهدين كسابق عهدهم أيام الديكتاتورية.

(الإيمان ماوقر في القلب وصدّقه العمل). دينُنا دينُ العملِ وخدمةِ الناس، وطنُنا؛ ماأحوجَه للعناصر الكفوءة المخلصة القادرة على حملِ خشبةِ خلاصِه من مستنقع الضياع والفوضى والفساد والعبث واللاجدوى، كيفما كانت اتجاهاتُها بشرطِ الأخذِ به الى شاطىءِ الحياة الكريمة؛ و (رحم الله أمرءاً عرفَ قدْر نفسِه).

(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد)

لاتشرقُ الروحُ الاّ من دُجى ألمٍ   هل تزهرُ الأرضُ الاّ أن بكى المطرُ

 

بقلم: انتزال الجبوري

سكرتيرة تحرير مجلة قضايا اسلامية معاصرة

.............................................

[1] أقوال جيفارا عادة أستلُّها من مواقع ألكترونية تبعث لي بوسترات مختلفة في مواضيعها، فأحفظ الصورة وعليها القول، دون أن أحفظ اسم الموقع الألكتروني.

[2] آل عمران – 142.

[3] الإنسان – 27.

[4] نهج البلاغة.

[5] نقلا عن السيدة أم جعفر الصدر، في مذكراتها (وجع الصدر).تأليف: أمل البقشي.

[6] الأحزاب – 23.

[7] المائدة – 44.

[8] القصص – 63.

[9] آل عمران – 182.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم