صحيفة المثقف

الحداثة ومقاربة المنجز الشعري العربي

علي محمد اليوسفاصبح اليوم بمقدورنا، تعريف الهوية الشخصية الشعرية، او تحديد ملامحها ومضامينها وأُطرها التعبيرية الجمالية الخاصة بكل شاعر صاحب تجربة مميزة، بعيداً عن المرتكزات الثابتة القارة كلاسيكياً، القائمة على وحدة جدلية الشكل والمضمون، او وحدة القافية وتنوعها، او الايقاع الموسيقي – الغنائي للنص، او الوزن العروضي الموروث، او الثيمة التي يشتغل عليها النص الشعري.

لقد دخلت هذه الوحدات البنائية للقصيدة بعد كسر العمود العروضي للشعر العديد من تجارب التجديد الجادة والفاشلة على السواء، في المشهد الشعري العربي، وتداولية الشعرية منذ عقود بداية انطلاقتها التجديدية عندنا، نهاية عقد الاربعينيات وعقد الخمسينيات من القرن العشرين. واثبتت التجربة والزمن ان ذلك التجديد الشعري محكوم بالتبدل والتغيير المستمرين، وبالمجاوزة ايضاً، حين وجدنا ان حال النص الشعري قصيدة النثر او القصيدة الحداثية الجديدة، لم تعد بمقدورها المطاولة التداولية القرائية المرضية المقبولة، بخاصة بعد وصول قصيدة النثر الى طريق التجريب الكيفي المسدود امامها، وما تلاقيه من اشكاليات خلافية حولها وسط الكم الكبير من المنتج المهمل الهابط فنياً وجمالياً الذي لاقيمة شعرية له، نجد من المعاد القول ان كل ذلك التجديد الذي هيمن على المشهد الثقافي الشعري في حينه، كان اضافة تجديدية بأسم الحداثة، استنفدت ذاتها، رغم مجاوزتها بأجوائها ومعماريتها الفنية وتجاربها التجديدية، لكلاسيكية النظم العمودي .

والمهم الآن ان ذلك التجديد اصبح جزءاً من الماضي في مشهد الشعرية المعاصرة او في توثيق وتدوين او تورخة الشعر العربي، واصبح ايضاً هو الآخر بحاجة الى مجاوزة والى تجريب طفرات نوعية، بعد انهيار وتهاوي وسقوط تجارب شعرية لرموز معروفة أخذت تراوح في مكانها، وتجتّر نفسها بتكرار سقيم، سطحي ولا تقوى على التقدم خطوة نحو الامام، وبالذات في تجارب كتابة قصيدة النثر، التي جعلت امام مواجهة عقمها التجديدي، أن يرتد العديد من شعراء التجديد للعودة الى كتابة قصيدة العمود، وان كان على مضض، وتماشياً مع ما يرغبه الوسط الاستقبالي للشعر لأعادة بناء امجاد شاعرية الخطابة ومنابر الالقاء، وايجاد قاريء متلقي يأنس الشعر الغنائي او الالقاء الحماسي ويطرب له.

وبحكم الضرورة التاريخية في التغيير، والسيرورة التطورية المتحركة على الدوام حدثت مجاوزة الحداثة في الغرب، فظهرت مدارس وتيارات البنيوية والتفكيكية والتاريخانية والتأويلية وغيرها من دراسات في التناص، والالسنية، وموت المؤلف، وحضورالمتلقي الفاعل المشارك عضوياً في صناعة النص، وانطلاق علائقية وحدة النص – المتلقي، كعلاقة تحديث بنائي في تأكيد الحضور الفاعل والمشاركة الفاعلة للمتلقي بالنص، والدعوة الى اعادة تفسير النص على ضوء هذا التعالق والتواشج مع المتلقي ..وكالعادة بدأنا الهرولة نحو الاقتباسات والاستنساخات عن غير دراية، ولا تخصص معرفي مدروس، تحت لافتة تلاقح الثقافات وجدلية المعرفة وتبادلها، التي اصبحت بحكم تكنولوجيا الاتصالات الحصول على المستجد والجديد عالمياً، اسهل من مطالعة صفحة في جريدة او كتاب !!

اذن دخلت أطروحات وفلسفة ما بعد الحداثة الشعرية الغربية على يد أبرز قطبيها " ليوتار" و" بورديار " اللذين ذهبا بعيداً في تغطيتهم لفلسفة ومفاهيم ما بعد الحداثة ليس على صعيد الادب والفنون فقط، وانما على صعيد الفلسفة، السياسة، والاقتصاد، والتاريخ، والمعارف، والتربية، والعلوم، والعمارة، والهوية، والاقليات الاثنية المهمّشة .. وهكذا، فكانت معظم تلك الدراسات في المناحي المذكورة، وبخاصة في مجال الادب والفن، مرآة انعكاس عندنا لما في يد غيرنا ورغبة تداوله، وجاء المنتج الادبي، والفني، والشعري تحديداً بمفهومات جرى تعريبها ومحاولة تطبيقها، وتسليعها في ثقافتنا كما هي عند الغرب، وهي مفاهيم تتجاوز السائد المتعارف عليه بأسم الحداثة، والاعتياش على فلسفة ما بعد الحداثة وما تحمله رغم التقاطع الحاد، اجتماعياً، ثقافياً، وطبقياً اقتصادياً في تطبيق مفاهيم ما بعد الحداثة الاورو-امريكية في مدارسها ومناهجها واطروحاتها الفلسفية عندنا عربياً .

اذن ما بعد الحداثة انبثقت في الغرب بتعالقها المفاهيمي والابداعي والتطبيقي مع الحداثة بمفاهيمها الايقونية القارة والاقنومية في تمجيدها العلم والعقل . ونادت ما بعد الحداثة بالتحرر من تلك الاقانيم التي اعتمدتها الحداثة عقوداُ من الزمن منذ بدايات عصر النهضة والانوار، كتجديد غير مسبوق يحسب لها يقوم على توظيف الاسطورة والميثولوجيا والرمز التاريخي، والبدائية في الفن، .

كل هذه الثوابت الحداثية، شنّت عليها ما بعد الحداثة هجوماً لاذعاً في مختلف ميادين الحياة، ولم يعد للاسطورة والرمز والميثولوجيا تلك القداسة، ولا ذاك البريق الذي كان الشعراء يحرصون ترصيع قصائدهم ونصوصهم بها كجواز مرور تزكية للنص في ان يأخذ صفة وسمة الحداثة . .في وقت دخل العالم براثن اخطبوطية العولمة، اتصالياً، معرفياً، سياسياً، اقتصادياً، تكنولوجياً ...الخ .

لا حاجة لنا تأكيد احتضار الحداثة في المجتمعات الغربية، التي سببت لنا بحكم التبعية التقليدية، اصابة حداثتنا العربية الادبية بعدوى الايدز القاتل واحتضارها المرتقب الحتمي بعوامل تأثير الخارج، وعوامل اسقاطات الحاضر الداخلي لدينا المتقاطع بلا حدود معها .

ومن رحم الحداثة الادبية التي وضع لبناتها الاساس، وربما قبلهم غيرهم، ت.س.اليوت، أزرا باوند، وايتهيد، وريتشاردز مع اخرين، دخلت مصطلحات ومفاهيم ما بعد الحداثة، تؤكد على المخيال المخصِب، والحدس، واللاشعور، والتداعي، والذاتي، والهوياتي، والنفسي، والبيئي، والسلوكي، وعلى الصعيد السياسي بشرت بانحلال ما يسمى الانساق الكبرى – الايديولوجيات – وفي الشعر دعت الى تفكيك النسق اللغوي المعتاد، كذلك وجوب غياب العاطفة الجيّاشة، والوجدانيات، واخيراً وليس انتهاءً، اكدت اهمية/ القيمة المعيارية للقارئ المتلقي، الذي من دونه لا معنى ولا ضرورة لكتابة نص، كما وردتنا في اطروحات ليفي شتراوس، دوسيسير، باختين، جاك دريدا، رولان بارت، فوكو، نعوم جاموسكي ..الخ . كل ذلك جعل من القصيدة الشعرية او النص توليفة جمالية لجنس ادبي من التعبير اللغوي المتفرد بخصائصه اللامحدودة، وعوالمه المفتوحة بلا نهايات، لكنه حافظ على تداخله الوثيق ببعض مفاهيم الحداثة غير المنحّلة، كتجديد لا يزال له حضور في بنية النص الشعري، وهو ما فرض على النقد الادبي الناجح تحديداً، ان يتناول خاصية واحدة محددة في تفسيرها وشرحها، وفك شيفرات النص ومرموزاته، ومحمولاته التأويلية والدلالية والسيميائية . او أن يعمد النقد لرصد زاوية تناول او اكثر بمعزل / او بالتداخل مع غيرها من مشتركات ومقومات تأسيس الحداثة لهوية الخلق الشعري العربي .

يرى " ليوتار " : الفنان او الكاتب ما بعد الحداثي هو في موقف الفيلسوف، فالنص الذي يكتبه، او العمل الذي يخلقه، لا يحكمه من حيث المبدأ، قواعد محددة مسبقاً، ولايمكن الحكم على هذا العمل، من خلال تطبيق قواعد معينة على هذا النص او العمل، فمثل هذه القواعد هو ما يبحث عنه العمل الادبي او النص .

ومن مميزات ما بعد الحداثة، ان مفاهيمها ليست مصطلحات معجمية مسّلماً بها، متفقاً عليها، بل هي مفاهيم متغيرة في تكسيرهاوتفكيك الشكل والمضمون، وتحتمل خلق اشكاليات في التفسير والشرح والتطبيق في الادب والفنون، كما يُختصر التداخل الاندماجي العضوي ما بين الحداثة وما بعد الحداثة لصالح خلق تطرّف قسري لما يجب ان نعتبره نتاجاً ما بعد حداثي، وليس باعتبار ما بعد الحداثة تحقيباً زمنياً تاريخياً متجاوزاً الحداثة، فبعض النصوص التي تتسم بالواقعية مثلاً، في حال اضفاء وادخال حالة من الارباك والشك والتشتت والتفكيك عليها، ومحاصرة المتلقي، ان تصنّف ما بعد حداثية .

من هنا يعد الشاعر الحداثي العربي بنصوصه الشعرية التي تقوم على مرتكزات حداثية وربما ما بعد حداثية، فهو بثقافته الثرّية المتعددة يستفيد من اللغة العربية، والموروث الشعري العربي في أغناء تجربته، بلغة رصينة خالية من سقطات الاخطاء المرافقة لمعظم نصوص الشعراء الشباب، وهذا يمكنه من سبك مفردة وعبارة شعرية متماسكة مكثفة حادة تستلب من القارئ المتلقي الانشداد والتوتر والادهاش في تنويعات لغته الشعرية بعيداً عن النص المكرر المألوف الذي نصادفه كثيراً، ونصوص الشعرية ايضاً تستبدل الايقاع العالي المعتاد في الشعرية الغنائية او النصوص المسجوعة بلازمة تقفية واحدة او متنوعة، يستبدل هذا بما يطلق عليه جبرا ابراهيم جبرا " موسيقى الافكار " اي الايقاع الداخلي غير الزاعق، ولايهتم بالصورة الشعرية الدارجة المألوفة المتداولة، بل يجنح في نصوصه الى الغرابة وتشكيل عبارته الشعرية بمغايرة مقصودة، مستفيداً من مواصفات النص الحديث التي جاء بها الناقد الامريكي ايهاب حسن في توصيفه لمصطلحات ما بعد الحداثة الادبية والفنية، التي تتسم في الشكل التعبيري المفكك المنفتح، معكوسا ومضادا الشكل الترابطي المعهود في اللغة الشعرية وانسيابيتها العفوية، كذلك فهو يتلاعب باللفظة اللغوية الشعرية، في سياق من التشتت البنائي الجمالي ليعطي القارئ، لغة شعرية واسلوب تجديدي، يقود بها عمداً القارئ غير المتمكن غير الحصيف، لما يسمى بـ " القراءة الضالة " في عدم فهم واستيعاب مدلولات النصّ الشعري، ويمكننا الركون الى ان نصوص شاعر الحداثة عصية على التلقي، واستجابة الاستقبال العفوي الكسول، لكنها نصوص شعرية جمالية تستوقفنا، لما فيها من تنويعات الاشتغال على تفكيك النسق اللغوي بلغة صادمة لذوق المتلقي السطحي، يدأب الشاعر على توظيفها شعرياً، في قصدية أحداث اشكاليات قرائية في دراسة وتناول التجربة المتفردة، فهي نصوص شعرية تختصر التداخل الاندماجي العضوي بين الحداثة وما بعد الحداثة لصالح التطرف القسري المرغوب والذي يسعى الشاعر تحقيقه . كما نلاحظ ايضاً في نصوص الما بعد حداثوية انها ليست نصوصاً تحقيبية تاريخية في التوثيق للتدليل على مجاوزة اللغة الشعرية للتجديد المتواضع عليه منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وكان الامر نتيجة مأمولة ومتوقعة من شاعر نهم القراءة ومتابع ذكي وجاد في ايجاده مساحة تجريبية جديدة في المشهد الشعري السائد، ومن جهة ثانية تسعف مقدرة بعض الشعراء على الترجمة والكتابة والقراءة في اللغة الانكليزية او الفرنسية، الاطلاع على الاجناس الادبية المختلفة عالمياً، فنجد في نصوص الحداثة الشعرية استيعابا لمعطيات عصر العولمة، بما يفيده بالاقتباس الاسقاطي، المفروض لعصر يتسم بكل ميادين مبادئ الحداثة في اشتغالاتها المختلفة، وايضاً فيما يطلق عليه انحلال السرديات الكبرى، واحتضار الايديولوجيات. وتحويل ما بعد الحداثة المعرفة الى سلعة استهلاكية، كما يشير لذلك رائد تنظير وفلسفة الحداثة " هابرماس".

 

علي محمد اليوسف/الموصل

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم