صحيفة المثقف

اغتراب اللغة في النص الصوفي والفلسفة

علي محمد اليوسفتعريف اولي: يعتبر كتاب الدكتور الشهيد عامر جميل الراشدي استاذ الفلسفة في جامعة الموصل، بعنوان (النص الصوفي/ دراسة تفكيكية/ ابو يزيد البسطامي نموذجا) من افضل الكتب في فرادة تناول موضوعه الفلسفي وصعوبته، دراسة اكاديمية منهجية عالية الجودة والتمكن والاتقان من ادوات معالجة موضوع فلسفي شائك يعالج موضوعة النص الصوفي في اشكاليته (اللغوية) المتعالقة مع التصوف والتفكيك معا، وعن هذه المهمة الصعبة يقول المؤلف (ان هذه الدراسة حاولت ان تكون رائدة في مجال تخصصها ولاسيما وهي تتناول نصوص ابو يزيد البسطامي من جهة والتفكيك من جهة ثانية، لما يعنيه هذا من قلة الدراسات وندرتها التي تناولت هذين الموضوعين مع غياب اي شاخص علمي يمكن الاستهداء به) ص12.وفعلا اجدها كذلك عن جدارة واستحقاق، اذا ما علمنا اشارة الباحث المؤلف الى صعوبة ربط التصوف بالتفكيك بقوله(وهذا ما يجعل الدراسات التطبيقية للتفكيك تكاد تكون معدومة). ص2، هذا على صعيد تفكيك النص الادبي والسردي، فكيف تكون الصعوبة في تفكيك النص الصوفي الذي هو نص لاديني ولا ادبي؟ إشكالية لغوية فلسفية متعالقة ليست سهلة.

النص الصوفي الملغّز المكتوب بعامة وليس في خصوصية شطحات نصوص البسطامي الذي يجده المؤلف متفردا عن غيره من المتصوفة، انه نص متسام متعال فوق الادراك العقلي من جهة، وفي تحرره من عرى الانشداد للطبيعة والوجود الانطولوجي والجمعي من جهة اخرى.كما يرى المؤلف ان البسطامي كان في طريقته العرفانية نموذجا متفردا وقدوة للذين جاؤا من بعده وسلكوا طرق الحال التصوفي الاشراقي وافادوا منه واخذوا عنه، من امثال الحلاج ورابعة العدوية وابن الفارض والسهروردي وجلال الدين الرومي وغيرهم.

والنص الصوفي يحمل اشكاليته اللغوية المنطوقة او المكتوبة ليس من اجل توظيف اللغة وسيلة تواصل تداولية تروم تعميم المعنى الاستقبالي لحالة المتصوف، وانما من اجل تعطيل متعّمد ومقصود في اعدام مثل هذا التوظيف الذي درجت عليه اللغة المنطوقة والمكتوبة في تداولية تعميمم النص قرائيا سيسيولوجيا كما في ضروب الادب والسرديات في توصيل المعنى او المراد.

فالمتصوف يروم بلغته المتعالية روحيا واشراقيا توكيد نفي ما يريد الاخرون استحضاره انطولوجيا حسيا وعقليا لغويا ايضا. (فالنص الصوفي يشكل ظاهرة في مجمل النشاط البشري اذ تعد مدونته خروجا على انتماء النص الديني والنص الادبي، فالكتابة الصوفية امكان واحتمال غير قار، وشعرية هذه الكتابة تفصح عن توتر دائم بين امكانية اللغة والعالم المتجلي الصوفي) ص5 من الكتاب.

وبهذا الفهم الاشكالي تكون اللغة التصوفية لغة اغترابية في منحيين فهي مغتربة في عجزها توصيل المعنى الاستقبالي العمومي التداولي المعهود بوظيقة اللغة اولا، ومغتربة ذاتيا في تساميها الروحاني الذي تجد اللغة نفسها فيه من خلال تجربة المتصوف قاصرة في بلوغ مراحل متقدمة في رحلة عبورها مدرجات الحال العرفاني نحو الاقتراب من المطلق الروحي في توازي التجربة الصوفية مع النص اللغوي المنطوق او المكتوب المنفرز عنها والملازم لها ثانيا.

التفكيك اللغوي

نجد من المعاد ان نشير الى ان التفكيكية التي جاء بها دريدا ليست فلسفة قائمة بملامح ثابتة بذاتها، ولا هي منهج في التفكيك والتاويل والاستدلال في البحث الدائب عن (فائض المعنى) الذي تتركه القراءات المتتالية المتعددة للنص. فهي خارج هذه الانماط الاصطلاحية لتكون كما يشير المؤلف على لسان دريدا ان (التفكيكية استراتيجية) طويلة الامد، او بتعبيرنا هي آلية تفكيك نظرية تسعى تقويض ذاتيتها باستمرار في تعالقها بالنص المكتوب تفكيكيا.كون الاستراتيج في المصطلح المتداول محكوم بغائيات بعيدة تجعل منه مركزية محورية ثابتة يرفضها قطعا التفكيك في اعتبارها محور ارتكاز افتراضي وهمي يتوجب ان يطاله التفكيك ايضا.

فالتفكيكية لا تقر بأية ثوابت او مرجعيات او مرتكزات مثل العقل، الذات، الوجود، الموضوع، السرديات الكبرى وتعتبرها جميعها من صنع مخلفات الميتافيزيقا المتوارثة القارة عبر العصور، لذا يكون التفكيك انحلالات متعاقبة للنص، تثري نفسها ضمن صيرورة من التاويلات والتحولات غير المنتهية في سعيها تحقيق (فائض المعنى) الذي تتركه لغة النص دائما بعد كل قراءة جديدة، الفائض الناتج من اختلاف وتعدد القراءات التداولية للنص التي تتوسم بالقادم القرائي افضلية مجاوزته للماثل قيد التفكيك والمجاوزة والنفي المطلوب تفكيكيا.

كما ذكرنا ان التفكيك لا يقوم على محورية تمثّل مركزا استقطابيا حتى لو كان هذا المركز هو الانسان ذاته فهي لا تؤمن باشياء او موجودات خارج سلطة النص كتفكيك (لغوي)، وفي هذه النقطة ربما يبدو التقاء البنيوية مع التفكيكية واردا لاول وهلة لكنه في الحقيقة غير ذلك، اذ ان البنيوية نادت ان (لا شيء خارج النص)، وقد تجاوزت التفكيكية هذا الادعاء البنيوي في مفارقة اختلافية ان لا شيء ذو اهمية خارج سلطة (اللغة) بعامة في تفسير كل شيء، وفي اعتبار التفكيك يطال كل شيء ولا شيء معا.

واذا كان رولان بارت قد بشّر بموت المؤلف فان جاك دريدا بشّر بموت النص، من خلال ان التفكيكية لا تقّر بمرجعية ثابتة يمكن الاحتكام لها في مجرى تاويلات وتفكيك النص في استهداف تحقيق فائض المعنى الذي تتركه اللغة المكتوبة تفكيكيا على الدوام .وانكرت التفكيكية على البنيوية انها تفترض سلفا مركزية المعنى الذي يتحّكم بالبنية او النسق، وبرأينا هنا ان البنيوية كانت مصيبة في تثبيت حاكمية وسلطة المركز الذي يكون هو صمام الامان الذي يجعل من الحقيقة امرا مقبولا ليس في المطلق وانما في مثول النص للقراءة التداولية المنتجة على عكس التفكيكية التي تركت مستقبل النص مبهما متواريا لا نهائيا خلف لعبة اللغة المخادعة.

ويذكر الباحث عبد السلام المسدي ان الناقد البنيوي لا يكترث لشيء خارج النص، لا بالمؤلف وسياقه النفسي، ولا بالمجتمع وضروراته غير الثقافية، ولا بالتاريخ وصيرورته ويصب جام اهتمامه على العناصر التي تجعل الادب ادبا فقط، تلك العناصر الشكلية الماثلة في النص، التي تحدد جنسه الفني، وتتكيف مع طبيعة تكوينه، وتحدد مدى كفاءته في أداء وظيفته الجمالية. (المسدي قضية البنيوية).

من جهة أخرى مناوئة لهذا الطرح نجده في عبارة شكري عزيز: كون اللغة مادة الادب لا يعني ان الادب هو اللغة، فالحجر هو مادة التمثال، لكن التماثيل ليست مجرد احجار، ومن العبث ان نعرّف التمثال بانه جسد حجري، كما يرغب رولان بارت ان الادب جسد لغوي لا اكثر.فاللغة لا تكتفي بهويتها الذاتية المعلن عنها بالبلاغة والنحو وشكل التعبيرات الأدبية، وانما هي وسيلة فكرية تطال الوجود الانطولوجي برّمته كاملا في محاولة اللغة التعريف به وان تكون جزءا فاعلا منه.

كما عارض نعوم جومسكي كلا من البنيوية والتفكيكية في اتجاهه المسمى البنية التحويلية التوليدية بوجهة مختلفة قوله:ان الانسان المتكلم هو الموّلد للكلمات والعبارات وله الدور الفاعل في صنع اللغة وإيجاد توليدات جديدة لا تنتهي.(صلاح فضل/ نظرية البنائية). هنا جومسكي يعتبر ان اللغة هي افصاح الوجود عن نفسه ضمن ديناميكية الحياة وجريانها الحيوي المتدفق غير المحدود.

ولما كانت الدراسات البحثية في التفكيك هو اعتبار ان الاستراتيجية الافتراضية الوهمية هي الآلية المستمرة في التفكيك، لذا يكون من حقنا ان نعتبر هذه الآلية نوعا من الجدل الديالكتيكي الذي يحمل المغايرة مع الجدل الماركسي في استحداث الظاهرة الجديدة عبر قوانين الديالكتيك الماركسي المعروفة في وحدة وصراع الاضداد، وتحول الكم الى كيف، وقانون نفي النفي .

هذه القوانين الثلاثة التي تقوم على نقائض اصطراعها وتضادها ونفي ذاتها باستمرارية في حكمها المادة والتاريخ والوجود الانساني، وهو ما تسعى له الجدلية التفكيكية تطبيقه في الاشتغال على لغة النص خارج مفهوم وآلية الجدل الماركسي المادي الذي تعتبره من مخلفات الجمود المتوارث القار في الفلسفة والمدونات التاريخية والميتافيزيقا .ان هذا التفكيك الجدلي يحمل كل متناقضات اندثاره لاحقا ايضا في تحولات لا نهائية، اي تحولات النص في استمرارية تجاوزه غير المحدودة في تعاقبات التفكيك عليه، ويوجد هناك فرق كبير بين الجدل الماركسي الذي يشمل كونية الوجود الإنساني المادي في الطبيعة والتاريخ وفي كل شيء، وبين ديالكتيك التفكيكية الذي يقف عند حدود جدل النص لغويا فقط وعلى مستوى التجريد الفلسفي المنطقي.

لقد عبّر هيجل قائلا ان طبيعة الواقع يمكن ان تستنبط من الاعتبار الوحيد القائل بأن الواقع يجب ان لا يتناقض مع ذاته. وهذه العبارة تناقض الديالكتيك الانطولوجي الذي وضعه هيجل في حركة الجدل المادية الثلاثية في عملية استحداث الظاهرة الجديدة، وحدة تناقض الاضداد في قوانين الديلكتيك الثلاثة التي مررنا بها.

واذا كانت البنيوية نادت لا شيء خارج النص، وان خيانة اللغة متمثلا في عجزها ونقائصها التي تسمها بالمراوغة والخداع دوما، نجد دريدا (يعتبر اللغة اصل كل الفنون) وانه لا شيء خارج (اللغة) وليس خارج (النص) كما تدعو البنيوية، والتفكيك يعتبر النص المكتوب لا يتحدد بوجود انطولوجي مجازي مؤقت لا بمواصفات الثبات ولا بمتغيرات الصيرورة الدائمية في اماتة النص واستحداث احيائه ثانية وهكذا، (فالتفكيك هو الوعي بتقادم المعنى وارتداد دائم لتطابق الوعي مع مقولاته). ص 12 (والتفكيك استراتيجية تمتلك صفات المنهج ولكن بخصوصية واعية لمخاطر سكونية المنهج، مما يجعل صفة الاحتمال اهم خصائص المنهج، فالشك يسكن قلب الحقيقة ان لم يكن جزءا منها) . ص 10

أبو يزيد البسطامي والتفكيك

تعتمد نصوص البسطامي (على ذاكرة المعجم الصوفي الذي يتتبع أصول الكلمة ودلالاتها حسب أحوال ذائقيها) ص56، وذائقيها هم أصحاب أحوال الشطح الصوفي وليس عامة الناس.(ما يجعله نصا مفارقا لانتمائه باستمرارغير منتسب سوى لنفسه بالرغم انه يفكر بكونه يمتلك وجودا قارا، فوجود الكتابة الصوفية ليس من اجل اثبات وجودها بل من اجل نفيها)ص58.

ان ذاتية النص الصوفي واستقلاليته هو سيد الموقف في أحوال الشطح التصوفي المتسامي في معارج العرفان والاشراق، فالكتابة الصوفية ذات خصوصية فردانية لا تعبأ بالوجود الانطولوجي العقلاني والحسّي، فهي تداعيات لا شعورية منجذبة في عاطفة جيّاشة لتجربة حب وانجذاب تتعطل فيها اللغة المنطوقة او المكتوبة في عجزها البوح عن اسرارالتجربة وخفاياها وما تحمله من مشاق لا تخلو من الغبطة الروحانية اللذيذة التي تتلبس المتصوف خارج سطوة العقل ووصاية المدركات الحسية وقيود اللغة المألوفة.

وعندما تكون الكتابة الصوفية قاصرة معطّلة قصديا يصبح من المهم نفيها ومجاوزتها، فهي حتما تلتقي بالتفكيك في سعيه نفي كل ثبات او مركزية مرجعية ضالة تقوم على خيانة وخداع اللغة، وفي هذا ينتفي النص المكتوب متعينا وجوديا لأن اثبات الكتابة الصوفية نفي بالصميم ان تكون التجربة الصوفية لصاحب النص صادقة ورحلته العرفانية مخصّبة منتجة في مسالك الحال والعرفان. ولا معنى لها في معرفة الاخرين شيئا عنها.

بالمعنى الذي مررنا به يكون معنا التقاء الكتابة الصوفية مع أي نص تفكيكي يسعى نحو نفي الثبات في نشدان التقادم (فالتفكيك هو الوعي بتقادم المعنى، وارتداد دائم لتطابق الوعي مع مقولاته) ص21بمعنى كما ان نفي التفكيكية لأي ثبات هي غاية معالجة كتابة أي نص في استجلاب تقادم فائض المعاني الجديدة منه التي تخّلفها اللغة وراءها على الدوام بنوع من المخاتلة والتضليل المضمر الذي يعبّر عنه بخيانة اللغة، كذلك تكون الكتابة الصوفية او الصوتية الشفاهية هي نفي دائم ليس بتقادم معاني اللغة وانما بتقادم المعنى المتجدد في رحلة الاشراق والعرفان التصوفي دائب السعي والحركة والانجذاب التي تمثل خصوصية وفردانية التجربة الصوفية فقط.

يطرح المؤلف مسألة مهمة بأن الكتابة الصوفية تختلف عن النص الديني وعن النص الادبي، اذ لكل من هذين الضربين من فنون القول والكتابة ميزات ومحددات وأساليب وجماليات متواضع عليها لا يتوفر عليها النص الصوفي بل هو ينأى بنفسه عنها ولا تشكل لدى صاحبه المتصوف اهتماما في نقل تجربته الذاتية المتفردة (فالامتاع والتسلية والتاثير علل تفقد مقاصدها في الكتابة الصوفية، لتغدو معها كتابة ابي يزيد البسطامي كائنا لا زمنيا، كتابة تعاني انفصاما مستمرا في كينونتها وتعاليا دؤوبا على كل سكون يدفعها نحو الاكتمال، لان العلاقة بين الكتابة والزمن علاقة اقتصادية) ص58-61، ونختم قراءتنا لكتاب الشهيد عامر الراشدي القيم بهذا الهامش التوضيحي التالي الذي يعرض تعالق النص الصوفي مع كل من الفلسفة والادب والجنون.

لغة التصوف والفلسفة وهذاءات الجنون:

أهم انواع التعبير اللغوي التي يمتزج فيها الادراك العقلي مع اللاشعور المتسامي نحو المثال والحلول في الذات الالهية، هي لغة الخيال التصوفي، فالمتصوف او العرفاني ينطلق بحسب رأيي من منطلق أن أردأ انواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه واستيعابه..والعواطف والوجدانات العميقة الّثرّة المتسامية تعجز اللغة التعبير عنها.

من هذا المنطلق يعتبر تعطيل فاعلية اللغة التواصلية مع الآخر قاصرة تماما في حال مرور المتصوف بتجربة الكشف الاستبطاني وحالة التسامي الذي يّشل الحواس والادراك الواعي للعقل، اللغة التصوفية تأتي على شكل مرموزات وشطحات لغوية فكرية تخييلية منجذبة نحو التعالي على/ فوق الواقع الحسي والتعالي على العقل أيضا. لغة المتصوف غائبة تماما عن مجريات الحياة والمحيط والوجود الانساني الاجتماعي للآخر بجميع اشتمالاته المادية، ما عدا الشحن الوجداني العاطفي اللاشعوري المرتبط بأمعان ورغبة التدرج في معارج الكشف نحو المثال المتسامي ونشدان الوصول الى مراتب متقدمة من الخالق والذات الالهية. لغة التصوّف ترتبط بحالة اللاشعور في تغييب الوعي والحس المادي ليلتقي بهذاءات المجانين الى حد ما مع فارق انه في بعض الحالات التصوفية كما هي عند ابن عربي والحلاج والنفري وابن الفارض والسهروردي وغيرهم، فهي(لغة) تحمل مدلولات تواصلية فلسفية مع الآخر يتداخل الوعي الشعوري والادراكي بتسجيلها . في حين تكون مثل هذه الفعالية التواصلية بقدرات اللغة والتعبير معدومة تماما في هلوسة وهذيان المجنون، وهذا ينطبق ايضا على الكثير من التجارب التصوفية غير الناضجة في عجزها اللغوي.

كلا التعبيرين اللغويين لغة التصوف وهذاءات المجانيين يتقاسمان صفة لغة الخيال اللاشعوري غير المنتج انطولوجيا ماديا في تغييب الوجود الواقعي العقلاني، وأعدام فرص التواصل بالآخر.

لغة التصوف تلغي الفاعالية الواقعية العقلانية في جانبين: تلغي فاعلية الوجدان المنتج – ماعدا استثناءات تجارب تصوفية ناضجة غير مبالغ بها ولا مفتعلة مجال اشتغالها التعبيري الشطحات التصوفية اللغوية على شكل ومضات حكمية واقوال ملغزّة وفي مجال قول الشعر الملغّز ايضا، وأعدام رقابة العقل على اللغة المنطوقة تصّوفيا، يتجلى ذلك في عدم قدرة المتصوف ضبط تداعيات اللغة التعبيرية المنطوقة عنده، بمنطق لغوي نسقي منظّم يستطيع التواصل مع الآخر بعيدا عن شطحات التفكير وتداعيات اللاشعور في توصيل التجربة الذاتية من خلال امكانية المتلقي فك مرموزات اللغة الاشارية، بما يخدم تجربة المتصوف والمتلقي معا.

الجانب الثاني من الألغاء في لغة المتصّوف يتمثل في تخريب الاخصاب التخييلي المنتج ماديا وليس التخصيب روحيا، في عجز التعبير التصوفي، وفي اللقاء مع هذاءات المجنون في عجزهما المشترك أن يكون تعبيرهما اللغوي لغة تواصل يعّتد الأخذ بها، فقط باستثناءات تجارب تصوفية متقدمة يمكن ان يكون التواصل التصوفي مع المجتمع متحققا فيها اشرنا لها سابقا.

اذن ما الفرق بين غطرفة وهذاءات المجنون، وشطحات المتصوف اللغوية التعبيرية !؟

هذاءات المجنون وهلوسة الانفصامي المرضية تصدر عن غياب تام لتداعيات الشعور التخييلي الحلمي المنتج في الإحساس بالواقع، بخلاف ما نجده عند المبدع والفنان من تداعيات الشعور الخلاق، فهي عند المجنون تخيّلات لا شعورية مكبوتة انفصامية تفصح عن نفسها، في تعبيرات مشّفرة ناقصة المعنى المفهومي، سائبة غير منظمة ولا منضبطة سطحية وانفعالية هستيرية، غبر مفهومة ولا متسّقة تعبيريا، طلاسم لغوية مغلقة على عوالم خيالية مرضية انفصامية لا رابط لها مع الاخرين والواقع او المحيط.

الخيال اللاشعوري عند المتصّوف يطرح لغة مفككة أيضا لا تعطي فهما ومعنى منظّما في ادعاء ان التجربة الصوفية فوق اللغة وفوق ادراك الاخرين لها، ومن هنا تلتقي لغة المتصوف مع هلوسات المجنون، ويفترقان كليهما عن لغة الخيال الابداعية المنتجة كما نجدها عند الفنان او الاديب الذي يعود الى الواقع من رحلة الخيال بحصيلة فكرية او فنية. في حين يبقى زعم المتصوف ان تجربته هي فوق الوصف او انه لا يستطيع التعبير عنها بالكلمات.

يقترب هيدجر في تناوله وظيفة اللغة في التجربة الصوفية، انها لغة رمزية صعبة وعسيرة في التعبير عن تجاربهم ومعاناتهم التصوفية، اذ يعجز المتصوف نقل او تمييز الوجود، عن نسيان الوجود الحقيقي، اذ يقع المتصّوف في حالة من تغييب الوجود عقليا وحسيا، ويعيش حالة من المثالية العرفانية في تجربته الذاتية الصرف.اما افلوطين فيقول ان الصوفي يجد صعوبة في استخدام اللغة اثناء التجربة الصوفية لكنه يستطيع استخدامها بعد التجربة عندما يتذكرها.

كما يعيب براتراند رسل على المتصوفة عقم وعجز اللغة عندهم، بانها عاجزة ان تقول شيئا يعتد ويؤخذ به.كما ان العلم من وجهة نظره أيضا يسخر من اللغة التصوفية سخرية لاذعة.ويتراجع براتراند رسل في أهمية التصوف في كتابه الفلسفة الغربية المعاصرة قوله (لقد شعر عظماء الرجال من الفلاسفة بالحاجة الى العلم والتصوف معا، وان وحدة المتصوف مع رجل العلم تشكل اعلى مكانة مرموقة).

وفي المنحى ذاته يذهب جورج باتاي (ان التجربة الايروسية- الشبقية تتوازى مع التجربة الصوفية في كونهما فيضين لا تستوعبها اللغة).من هنا يمكنني التذكير بأهمية العبارة التي اورد تها سابقا حين أشرت ان المتصوف ينطلق من واقعة أن أردأ انواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه واستيعابه.على أعتبار أن التجربة الصوفية هي غوص في مسالك الكشف الاستبطاني المتسامي المتعالي، التي تنعدم معها ان تكون اللغة ذات جدوى تواصلية مع الآخر.هنا بحسب هذا الفهم لانستغرب ربط جورج باتاي بين التجربة الصوفية والتجربة الجنسية والتقائمها في أن اللغة بكلتا التجربتين تتماهى في العجز واستعصائها تحقيق التواصل بالآخرلغويا.

أما الشاعر المفكر ادونيس فيعتبر لغة التصوف (الاسلامي) هي لغة استكشاف معرفي في الدين والفلسفة والوجود.وأن السرياليين أخترعوا الكتابة الاوتوماتيكية— يقصد بذلك كتابة تداعيات اللاشعور--- والغاء العقل واستخدموا لذلك المخدرات. ويضيف ان المتصوف الغى رقابة العقل بالسيطرة الذاتية على الجسد .وسميّ آنذاك الكتابة (الهيا سماويا) وهي ذاتها الكتابة التي نادى بها السورياليون. (اندريه بريتون في الشعر، وسلفادور دالي في الرسم والتشكيل، والى حد ما ادب اللامعقول عند صوموئيل بيكيت.).

هنا ادونيس استخدم عبارة الغاء العقل عوضا عن تغييب تداعيات اللاشعور الحلمي المنتج في كتابة الشعر وانتاجية الفنون التشكيلية كما في السريالية والتجريد الفني. وهذا الخيال الانتاجي الخصب عند الفنان او الاديب يختلف جذرياعن المخيال المعّطل غير المنتج عند المتصوف، الذي يتأرجح بين تغييب الرقابة العقلية والحسّية، وبين تداعيات اللاشعور عندما تكون اللغة أقرب الى الهلوسة والهذاءات عند المجنون. بأختلاف بسيط أن المتصوف يعي عجز اللغة عنده في تحقيق التواصل مع الآخر، وقدرته أحيانا على البوح بافصاح تعبيري لغوي يتجاوز هذاءات المجنون المغلقة.بينما هي غير ذلك عند المجنون في هذاءاته بلا معنىى ولا ترابط مفهوم.

اما المفكر محمد عابد الجابري يرى أن الحقيقة في التصوف الاسلامي هي عندهم ليست الحقيقة الدينية، ولا الحقيقة الفلسفية، ولا الحقيقة العلمية، بل الحقيقة عندهم هي الرؤية السحرية للعالم التي تكرسها الاسطورة. وأن العرفان (التصوف) يلغي العقل، ومن حق العقل الدفاع عن نفسه ليس بالطريقة السحرية بل بالتحليل العقلي.

اود توضيح نقطة مررنا بها سريعا، ما هو الفرق بين لغة الابداع الادبي - الفني ولغة التصوف!؟

أن فرويد تعامل مع الخيال بوصفه مصدر الألهام وخزّان الابداع، وكشف تأثير اللاشعور في السلوكيات المنحرفة والسلوكيات السّوية.

برأينا الفنان كالعصابي المريض او المنفصم الشخصية كلاهما ينسحبان من الواقع المحسوس والمدرك عقلانيا الى دنيا الخيال غير المحدود، بخلاف جوهري مهم جدا ان العصابي المريض لايستطيع العودة من رحلة الخيال الى واقع الحياة والمجتمع ثانية، وأن ما يبتدعه له الخيال من واقع وهمي يتصوره ويتعامل معه انه الواقع الحقيقي والحياة السوّية. في حين ان الفنان المبدع او الاديب صاحب الفعالية الابداعية يستطيع العودة ثانية من رحلة الخيال الى واقع الحياة، وبحصيلة ابداعية فنية مميزة على شكل انتاج ادبي او فني او غيرهما.

علي محمد اليوسف/الموصل

...........

الهوامش:

(1) (لتفصيل اكثر ينظر كتابنا / فلسفة الاغتراب في طبعتيه الاولى عن دار الشؤون الثقافية بغداد 2011، والثانية دار الموسوعات العربية بيروت 2013.الفصل الخامس: الاغتراب والصوفية./ والفصل السادس:الاغتراب في الوجودية الحديثة).

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم