صحيفة المثقف

الحبل والنار التي تسري

قصي الشيخ عسكراستهلال أول

في البدء النار كانت تسري وحدها

تأكل اليابس وتترك الأخضر للناس

ثم بدأت تأكل الأخضر واليابس

ميثولوجيا جديدة

رأى الحبل النار تسري فحلم في أن يقلدها

لكنه نسي نفسه فظنته النار أفعى

ميثولوجيا جديدة

ذهب الطائر أبو الحن باحثا عن النار التي احتكرها فرد واحد فجلبها لكنه أحرق ريشه في أثناء نقلها عندذاك اشفقت الطيور عليه وحسمت أمرها أن تكسوه حلية جديدة بإعطائة ريشة من كل طير ولم يمتنع إلا البوم المتعجرف صاحب القلب القاسي لهذا السبب حينما يظهر طائر البوم في النهار تصرخ فيه جميع الطيور زاجرة ومنها أبو الحن الذي يوبخه على عجرفته.

ميثولوجيا من بريطانيا

1

تذكر تذكر

الخامس من نوفمبر

المؤامرة والخيانة والبارود

لم يكن هناك من سبب للبارود

لكن لاأحد ينسى ذلك

إنها ليست المدينة الأولى التي هجرتها بعد بقائي فيها عشرة أعوام، عقد كامل نقضته كساحرة تركب مكنستها وتبحث عن مكان جديد، وهو ليس بأطول نهار عهدته من قبل، فيوم القديس هانس يطل علينا في الصيف.. بالضبط يوم الرابع والعشرين من حزيران حيث يبرز تموز بكل قوته من أعماق العالم السفلي فيغطي الأرض بالخضرة والحياة والنشاط عندئذ تشخص الدمى العملاقة معانقة الفضاء في الوقت نفسه تمتد ألسنة اللهب إلى السماء فترى النور يبرك على الأرض كالبعير ولايغادر.. كانت عيناي في هذه اللحظة تتابعان رحلتهما من الشرق إلى الغرب وكنت أعود متأخرا إلى الخبر الجديد فلم تفدني أيّة محاولة قط للسباق مع الزمن كأنني وجدت نفسي مثل خيط من المطاط مربوط إلى خشبتين تقتربان فأضيق أو أتمدد وأنكمش.

كنت متلهفا إلى هذه الليلة ليلة 24 من حزيران.

وإن كنت قد نسيتها قبل أن تطأ قدماي مدينة الألعاب وساحة " فورست فيلد".

غدا يحدث شيء عظيم.

العالم كله يتابعه من أقصاه لأقصاه فلا يحق لي أن أتجاهله وحدي!

فجأة برزت من مكان مجهول ليلة ُ تجمعت فيها النيران منذ عام 1605 فاستهلكتني تماما.. الجو بارد.. وتموز يلملم شتاته.. لفحة هواء تعري الأغصان عن آخر ماتشبث بها من ورق مصفر. ماذا بقي غير بيت ذي كوى تسري فيه النار؟ حقّا شعرت ببعض دفء حملته إليّ عن بعد ألسنة اللهب مع ذلك لا أغفر لنفسي الخطأ في كوني تركت النوم يسرقني والأرق يلوي عينيَ. كان كدس الخشب كبيرا وثمة على بعد في مدينة الألعاب صوت قويّ مدوٍّ يسبق ساعات اللهب.. الجميع يتساءل:

متى تشتعل النار؟

أحد العمال المسؤولين عن نار سوف تسري لحظة ما صاخبة الملامح يلتفت:

- ليس قبل التاسعة.

- أووه مازال الوقت مبكرا جدا!

نساء وأطفال وشيوخ وعشاق ينتظرون وأنا أنتظر بعد الساعة التاسعة التي ظهرت لي عرضا إحدى ساعات الصباح.

أسأل نفسي هذه المرة:

متى يتم النطق بالحكم فأمامي وقت طويل.

"كاي" أيها المتمرد لم أعرفك من قبل ولم تربطني بك أية علاقة لكني واجهتك الليلة مع النار، وسوف أواجهك مع الحبل حرقا بالنار أم شنقا. لايهم.. الموت واحد وإن تعددت أشكاله وألوانه.. خلال السنوات الماضية في أطول نهار يلتبس بالليل القصير شاهدت حرق الساحرات.. تمثال مثل تمثالك وكان سيادته هناك بعيدا عني في مدينة الشرق لم يرتق المشنقة بعد.. أطول نهار في الصيف يؤذن بحرق الساحرات.. مسيرات طويلة ومظاهرات ساخبة يراودها عطش شديد منتصف ظهيرة تموز القادم من عالمه السفلي.. لهيب جميل نلتذ بمراقبته ومن قبل شاهدت مدينة تحترق وشممت روائح لجثث مشوية.. مثلما أنتظر النطق بالحكم تنتظر النساء.. الأطفال... العشاق... كلّهم ينتظرون النار. الكدس الخشبيّ المحاط بأسلاك رأيته اليوم من بعيد. في البدء خلته كوخا قديما، وتذكّرت أنّ عليّ هذه الليلة ألاّ أسهر إلى ساعة متأخرة، ففي غد يتمّ النطق بالحكم. الحبل يعقب النار.. كنت أراقب الألعاب النارية التي انطلقت قبل سريان الحريق، وأنتظر الغد. بين توقيت مدينتنا ذات الضباب ومدينة ألف ليلة وليلة العجيبة ثلاث ساعات. سأترك النار بعد لحظات لأعود إلى منزلي. ففي هذه اللحظة المارقة أبصرت عدوّ الملك الإنكليزي يحترق داخل الكوخ. "كــاي" ذلك المتمرّد الكاثوليكيّ. براميل متفجرات مزروعة في القبو تحت الطابق الأرضي. عاش الملك.. عاش صاحب الجلالة.. يسقط الخائن. في اليوم ذاته أسمع في بغداد دوي انفجارات.. قتل.. حرائق.. سيارات مفخخة. دراجة ملغومة.. انتحاري يفجر نفسه بسوق شعبي. عملية النار الكبيرة أصبحت أمامي لعبة تشتدّ.. تتعالى.. وترتفع بعيدا.. تهم بعناق السماء. وأصوات الانفجارات تحيط بي كما يحدث هناك بصورة أخرى... احتفالية حرق الكاثوليك.. البروتستانت انتصروا. اكتشفوا مؤامرة البراميل. أنت "كاي" وريث أبيك الوحيد يتيم ذو أربع أخوات.. قبل أربعة قرون عرفتني ولم أعرفك.. أربعة آلاف كيلومتر تفصلني عن بغداد.. جبال وسهول وبحار وصحارى.. وأربعة قرون عنك.. رأيت صورتك وسط أصدقائك. أي فنان استطاع أن يلم شتات وجهك فيوصل إلي أنا نزيل القرنين العشرين والحادي والعشرين وجهك. كنتَ دائم الابتسام بشوشا فرحا بثروة أبيك الطائلة التي ذهبت إليك كلها من دون أخواتك حين بلغت الثامنة عشرة من عمرك، فلم اخترت الصفقة الخاسرة. ؟ لم هجرت مذهب أبيك والتحقت بزوج أمك.. المفارقات التي بدأتها يا" كاي" وصل إلي شررها عن بعد.. استطعت أن تهاجم وتقتل تبحر من أسبانيا ثم تعود لإنكلترا.. أيها اليتيم املأ براميل بالبارود وكدسها في قبو أسفل البرلمان، فهاهو سيادته يستطيع أن يقتل.. يقف في شارع الرشيد ويطلق النار على موكب السيد رئيس الورزاء الزعيم المحبوب.. يهرب إلى دمشق والقاهرة لكن المقصلة كانت ترفرف على رأسك:

- مااسمك؟

- كاي فاوكس

- رئيس جمهورية العراق

- اسمك اسمك

القاضي يسأل بانفعال فيرد:

- انت تعرف اسمي حق المعرفة

أنتما تلعبان بالنار وأنا وحدي أراقب اللهب من خلاله أرى الملك يحرق أعداءه وأنظر إلى الحبل.. البارود وحده يتكلم في الشرق والغرب خذ قليلا منه. استفد من إعلانات التلفاز.. تخلط المواد بدقة متناهية ثم توجهها أينما تشاء.. تلك تسمى أسلحة الدمار الشامل. القاتل واحد هناك شخص حاول نسف البرلمان على رأس الملك جيمس الأول وتابعيه المطيعين ثم مضى في سبيله ليلقي حفنة من الغاز على قرية صغيرة:

- صف لي بالضبط ماذا رأيت.

- سيدي القاضي صباحا...

- هل تذكر الساعة؟

يسعل العجوز المترهل الوجه ذو الفم الأدرد ويواصل:

- ربما الحادية عشرة.

- نعم أكمل.

- سيدي القاضي رأيت طائرة تقدم من جهة الشرق طائرة من طائراتنا.

- من أي صنف؟

- سيدي القاضي أنا رجل لاعلم لي بصناعة الأسلحة لكني أستطيع أن أميز طيراننا من طيران العدو قدوم الطائرة من الشرق أو الجنوب يعني أنها عراقية وقدوم أية طائرة من جهة الغرب يدل على أنها تابعة لطيران العدو.

- ماذا حدث بعد؟

- سمعنا صوت انفجار ثم فاحت من القرية المجاورة لنا رائحة تشبه التفاح العفن!

يعلق محامي المتهم:

- هذه رائحة ثوم!

أنا أيضا شممت رائحة العفونة بين النخيل. هو نفسه الذي سماه الناس فيما بعد الكيمياوي.. لقد كان الولد الشقي يكره "حميرة " تفتك بالنخيل وتفسد التمر. رآى أباه والآخرين يجلبون البودر الكيمياوي ويخلطونه بالماء.. ثلث بثلثين.. الكبار يتقنعون بالنظارات.. الواقيات على أنوفهم ويحملون فوق أكتافهم مرشات كبيرة يوجهون خراطيمها نحو العذوق:

- هذا هو الكيماوي إذن!

- هل أرش؟

يسأل الطفل أمه، فتجيب:

- مازلت صغيرا.

- متى أرش؟

- عندما تكبر.

حين يصبح صبيا يستبق الزمن.. يأتي بالكمامة والنظارة.. يتقنع.. يمزج الطحين الكيماوي بالماء.. يطوق النخلة بالفروند ويحمل المرش الضخم يتسلق كُرْبة كربة.. أما الولد الشقي الآخر فيقول له خاله الغني.. هاك المسدس.. هناك شخص لاأحبه.. كافر.. زنديق لايؤمن بالله يخرج من المقهى في ساعة متأخرة من الليل تستطيع أن توجه رصاصة نحو صدره لكن ذاكرة المحكمة تنسى واقعة المقهى وتتذكر حادثة الهواء الملوث بمادة كيمياوية غريبة وفي غد ينطق القاضي بالحكم..

هل هي المصادفة وحدها ؟

في بريطانيا تشتعل النار ويحتفل الناس بقتل "كاي فاوكس" في مطلع الشتاء.. العام الماضي كنت في الدانمارك.. حضرت احتفاليتهم.. آخر احتفال حضرته هناك.. كانوا يشعلون نارا عظيمة ثم يلقون فيها بدمية كبيرة تتقمصها روح ساحرة شريرة. رائحة تحمل عبق الماضي إلى الحاضر تلتهمها النار.. أطول نهار في اسكندنافيا تشهد نهايته حرق ساحرة كبيرة، وضعت يدي على كتفها وتابعنا الزروق الصغير.. اقتربت منها فاحتك جسدها بضلوعي وكان الزورق يمخر ماء البحيرة هادئا حتى وصل إلى جزيرة صغيرة تكدس فوقها تمثال الساحرة.. وضع صاحب الزورق المشعل أمامه واوقد النار ثم رماه فوق جثة الساحرة فتطاير الشرر ولعبت الريح بأعواد القش. كانت تتذكر مراسيم سابقة حضرتها في منتزه "بيسبه بياو" القريب من سكني هناك كدت أحتضن النار التي لم يفصلني عنها أي حاجز سوى الناس:

- العام الماضي كنت قريبا من النار ودفئها.. إنها بعيدة الآن!

- هل تشعرين بالبرد؟

لكن اليوم الذي يستبق عواصف الشتاء ليس بأقصر نهار هو ولابأطول ليل. يوم عادي تماما فيه أحرق الملك أعداءه. ليلة الأحد الحالي.. لاتهم السنة وترتيب الفصول أو طول النهار والليل. في هذا اليوم عرفت فقط أنّ الملك جيمس الأول اكتشف المؤامرة. 36 برميلا مملوءة بالبارود كانت كافية لتفجير البرلمان. يا "كــاي" الإيرلندي. قصتك تعود الليلة بأشكال أخرى في أماكن بعيدة عنك أمّا صديقتي الدنماركية الهادئة العذبة "دوغت " فتشير بإصبعها:

- أنظر إلى الشرر!

أكرر قولي:

- هل تشعرين بالبرد؟

- فقط رجفة في الكتفين.

أخلع سترتي وأضعها على كتفيها. كانت تحبني كثيرا. شهدت معها كلّ عام حرق الساحرات.

- لِـمَ الساحرات وليس السحرة؟

تبتسم وتقول:

- كنّ هنّ الأقوى وهنّ المتحكمات بكلّ شيء ولاتنس أن أول عبادة بشرية ظهرت على وجه الأرض وأول دين للرجل كانت المرأة.

- لكني أحب الساحرة الطيبة.

- الهيكس فيهن طيبات وشريرات بيد أن عدد الشريرات لايحصى لذلك نسي الناس الطيبات !

- هل قرأت عن واحدة طيبة؟

- بالتأكيد ثم لاتنس أن كثيرا من الساحرات أجبرن من قبل رجال الدين على اعترافات كاذبة لنتصور أنه عالم المؤامرة الذي يقتل 9 ملايين ساحرة مقابل 50000 ساحر فقط!

كم قلتِ؟

تسعة ملايين نعم...

فازدردتُ ريقي وابتسمت:

العجيب في الأمر أن المسيحية دين متسامح كيف بلغ الأمر..

فقاطعتني وهي تميل برأسها على كتفي وتغمز بعينها عن غنج:

إنهن حليفات الشيطان!

كيف تجبر شخصا على أن يعترف أنه ركب مكنسة ؟ الشيطان يظهر في قط أسود.. كلوا أطراف الأطفال الذين قُتِلوا على أيدي الغيلان.. قبلة على العضو الجديد.. نقش فوق الأرداف وفي الدبر.. تقديس العضو الذكري.. الانتصاب.. الفحولة.. الصلاة للفروج.. جنين مهروسٌ في جرن يُتَبـّل ويُخلَط بالعسل والفلفل وهذه السيور التي يُجلَد بها ردفا المرأة الجاثية كالقطة في الفراش عند مضاجعتها مصنوعة من جلد تيس ومخضبة بدمه.. إن هؤلاء يأكلون اعضاء الأطفال الأحياء ومازال الشيخ القط الأسود يصيح:أوقفوا الضوء فليفعل رجل مع امرأة وامرأة مع امرأة وليلتحم رجل برجل إن لم يكن فالأب بابنته أو الأم والأخت مع أخيها. كان ابنا آدم يضاجعان اختيهما ومن اللهاث تسلل رهط من أجدادي الذين نصبوا نيرانا فوق قمم الجبال وكان أيضا يسري عبر أعماق الجزيرة العربية إلى بيت امرأة رفعت راية لهم فعاشروها جميعا كل حسب دوره وبعد تسعة اشهر اختارت واحدا مهم فأصبح أبا لابنها.. لعلك تشمأز أو تسخط وربما تضحك حين تعرف أن معظم أجدادك الفاتحين كانوا من أبناء ذوات الرايات الساحرات.. كانوا عنيفين.. أقوياء.. أناحصان أنا عنزة.. أنا حمار، وما نادى به دعاة الشيطان من قبل أصبح شيئا مألوفا اليوم.. الديمقراطية.. حرية الرأي.. إذا كان الناس يزنون ويلوطون ويعاشر بعضهم بعضا فلم يحرقون الساحرات كل عام..  وهل نسوا الشقة التي أسكن فيها أنا الهارب من قرون الحرق.. المختبيء في مدن الضباب عن عيني تموز.. هناك في الطابق الثالث من العمارة ذاتها شقة تسكنها سحاقيتان نشرتا في لوحة الإعلانات عند المدخل الرئيسي للبناية عن حاجتهما لسائل منوي تتلقحان به فتصبحان أمين. إنه قداس المني ورغبة الأمومة التي تسري في البشر والحيوان والحشرات وأدق المخلوقات..  ليس بالضرورة أن أعرف أبي لكني أعرف أن أمي واحدة من آلاف النساء اللائي يُحرَقن الليلة. لست أنا أقول ذلك ولا"كاي" صديقي وعدوي الجديد أو أية ساحرة ولا شخص سوف يُحكَم عليه غدا أو الليلة وفق اختلاف التوقيت بين مدينتين فهي النار التي تتصاعد وحدها محملة بخطايا البشر ورغباتهم وشظايا الساحرات إلى السماء يقترب لهيبها مني فأشعر بالدفء وقد رأيت الحبل يسري قبلها أما أنا فربما دفعتني براءتي ذات يوم أن أصادق الشيطان نفسه.. رأيته في أحد الصبيان كانت أعمارنا بين الثالثة والرابعة لكن المشهد نفسه استعصى على الذاكرة فلم يفارقها.. كبيرنا جعل نفسه إماما علينا وراح يهتف بنا:

صلوا صلاة ابن آوى!

كنا نجيب بإصرار:

 لن نصلي

ثم يرجع وينادي:

صلوا صلاة الشيطان

فنقول ثانية:

أبدا لن نصلي

ثم يصيح بصوت مستبشر فرح:

صلوا صلاة ربكم

فنقول: نعم نعم نصلي

نصطف خلفه ونبدأ الصلاة.. ذات يوم شذ أحدنا قد أكون انا هو ذلك الطفل أو غيري فالمسميات لاتهم ولاتعني السنين والأمكنة شيئا.. حالما صرخ كبيرنا صلوا صلاة الشيطان انطلق منا صوت يقول نعم وانفرد عنا وهو يعوي ثم انهزم قبل أن نلحق به فننتقم منه شر انتقام ويبدو أنني نسيت تلك الحادثة حتى رأيت النار تتوهج بالقرب مني ليكتسح لهيبها كل نجاسات العالم وسمعت صديقتي الطيبة تحكي لي عن تسعة ملايين ساحرة أعدمت في أوروبا:

- في الماضي كن يُسلَخنَ وهن على قيد الحياة من أجل أن يلبس الآخرون جلودهن المدماة ربما لأنهن شيطانات جعلن من نجاسة البول والحيض والمني شرابا يعمل أثره في الحب والكره ولعل إحداهن لاذنب لها سوى أنها زوجة أب !

- طيب اسمعي عن ساحرة وقفت بوجه الشر.

- هل تذكرت؟

- هناك فتاة طيبة تعلمت السحر من باب الهواية لا الاحتراف. ذات يوم رأت ساحرا شريرا صار أفعى فتحولت إلى عُقاب وهاجمته كانت تنوي أن تقضي عليه لتريح الناس من شروره فانقلب إلى حب رمان فصارت ديكا. كلما تحول الشرير إلى شيء تصبح هي شيئا آخر أقوى منه إلى أن قضت عليه!

- قضت عليه وحده؟

في تلك اللحظة المتجلية من عام 1400 وعبر نسائم ألف ليلة وليلة وصل دفْء النار إلى وجهي ساعة آذنت الشمس بالمغيب فسمعت حسيسها ورأيت ألسنتها.. العام يعيد نفسه كلّ سنة في أطولِ نهارٍ ومن أجل ساحرة ٍتستوحي الدنيا تهويمةً ذات بهاءٍ ملونٍ وتتوقف الحركة: المطار يغلق. التجوّل يمنع. حالة طواريء. وأنا أغادر قبل عام مدينة كوبنهاغن إلى نوتنغهام. لم أشك في أنّ "دوغت " تقبل الهجرة معي. مادمت أستطيع أن أجد عملا في بريطانيا فهي تقدر أيضا. الحق إنّ سلوكي صدمها إلى درجة خرجت عن برودتها المألوفة واسترسلت في إزجاء النصائح. قالت هنا الأحوال أفضل. الضمان الاجتماعي. الحياة التي تعودت عليها. الأمان. هناك الصخب، والجريمة.. العنف.. والأهم إنها لاتضحي بعملها. أكدت أننا نظل أصدقاء يمكن أن يزور أحدنا الآخر.. بعد حرق الساحرات مباشرة غادرت إلى نوتنغهام، يبدو أنها كانت على حق فلم أدر أني سأودع الأمان. الكنار الصغير إسكندنافيا يوحي إليك ألا مشاكل في العالم. أحيانا أكتشف بعد عودتي أني نسيت باب الشقة مفتوحا ولم ينقص شيء مما في المنزل. قالت إني قد أشعر هنا بالغربة وأضيع في الضباب لكني في مكان آخر أعاني من القلق ثم اكتشفت أن الإنكليز المرحين وهؤلاء الآسيويين والافارقة يمكنهم أن يطردوا الكآبة عني مع ذلك من المحتمل أن يداهمني أي منهم بهدف السرقة أو من دونما سبب، وفي هذا اليوم رأيت من بعيد الآلاف يحيطون بالكوخ. يدعونني إلى احتفالية حرق. حين اقتربت لم أجد "كــاي" الكاثوليكي لكني سمعت أنهم يحرقونه الليلة، وقد تيقنت تماما أنه أحد السحرة فربما اعتاد الناس في هذه البلاد على حرق الرجال من دون النساء!

للمرّة الأولى أحسّ أنيّ محاصر بأكثر من حفل في وقت واحد وإن اختلفت الأزمنة والأمكنة والوجوه والألسن. القاضي النحيف الأسمر يطلّ من اختلاف التوقيت ويدعوني لحضور النطق بالحكم.

- هل دخلت السجن؟

- نعم!

- هل عذبت؟

- نعم!

- كم مرّة؟

- لاأذكر.

- هل قتلوا أحدا من أهلك؟

- جميعهم!

- أين؟

- في الدجيل!

- متى؟

- في الأنفال!

- أقول متى ؟ انتبه للسؤال!

- لاأذكر!

الإدعاء العام يعترض على الأسئلة. الأنفال هي تاريخ بحدّ ذاته. أصبح الناس ياسيادة القاضي يؤرخون بها. تقول شهادة الطبيب إنّ التعذيب أدى إلى إصابتي بلوثة وخلل، فلم أعد أميّز كوني كرديا أم عربيا من أهل حلبجة أم الدجيل أو البصرة، وعلى الرغم من منطق الإدعاء، وكوني مختلا عقليا، فقد استطعت أن أتحدث أكثر من لغة وأحصل على عقد عمل. المصادفة الوحيدة التي سرّتني وأزعجتني في الوقت نفسه احتفالية النار في أطول نهار، وصديقتي تعقب على سؤالي الساذج الغريب:

- اختاروا الساحرات كونهنّ أقرب إلى الطبيعة يلدن كما الأشجار وحيوانات الغابة، تخيّل ياعزيزي أميرا من الأمراء يلتقي في الغابة برجال سحرة سيكون المشهد باهتا لاحياة فيه.

- فعلا كم يكون مفتعلا لو التقى ماكبث في الغابة بعض السحرة!

- إذن هناك ساحرات طيبات أخبرن ماكبث بمصيره المحتوم غير أنه ساذج مثل أبيه آدم!

فقبلت جبيني وقالت:

- انتم لديكم احتفال بالنار أيضا!

- لسنا نحن بل الإيرانيون وشعوب آسيا الوسطى هم الذين يرقصون عند إطلالة الربيع فوق النار فلا يحترقون ولايحرقون بها تماثيل للساحرات إنهم يلهون بها لهو الصديق مع الصديق أما نحن فنحتفل على طريقتنا الخاصة بذلك اليوم الذي نسميه "الكسله " كل منا يحمل رأس خس ويروح يقضمه بلذة ونشوة كبيرتين!

لاأدري لم أطل القاضي قبل دقائق فجعلني أفلت مثل اللص من عيد الكسلة.. الشنق. الرمي بالرصاص، نار الخامس من نوفمبر شخصت تدعوني إليها في الليل بعد الكسلة بسنوات، و المحكمة تستدعيني صباح غد. ثلاث ساعات الفرق بين التوقيتين. يبدو أن بغداد سبقت بسحرها الجميل وجنياتها يقظتي.. معي الفضائيّات كلّها. 300 قناة تتحدّث عن منع التجوّل وإغلاق المطار. لديّ متسعُ من الوقت لايكفيني.. إن أذهب إلى البصرة فلا أجد شط العرب أو أذهب إلى شط العرب فلا أجد البصرة فأعرف أن الأماكن تختلف مثل البشر وأني دخلت الدنمارك خائفا فخرجت منها إلى بلد آخر مثقلا بالحرية التي افتقدتها وانا طفل صغير لأظل أحمل مرض أجدادي الهائمين دوما بالرحيل!

تلك السنة من حسن الحظ لم تكن الغيوم لتغطي السماء. بدت الشمس تستعد للغروب وحاملو المشاعل يقتربون من تمثال الساحرة. النار بدأت تسري إلى السماء ولم انتبه إلى يدها تنسل من ذراعي راحت تعدل سترتي التي ألقيتها على كتفيها أحميها بها من البرد في الوقت نفسه وجدتني بعيدا عنها أقف وحدي في منتزه "فورست فيلد" أتطلع بدمية أخرى يختلف شكلها عن دمى الساحرات. لم أتوقع قط أني سالغي أكثر من عِقد.. امحو زمنا تشبع في ذاتي.. عشر سنوات تمضي هباء منثورا.. فأعود إلى نقطة البداية. أقف في ساحة وأشاهد نارا في زمن غير الذي اعتدت فيه على رؤية النيران. ليلتها منحتني نفسها بحرارة.. شيء طبيعي أن نلتقي وأمر طبيعي أن نفترق.. وعلى الرغم من صراحتها معي شأنها شأن أية أوروبية إلا أنها بدت تلك الليلة أكثر صراحة مما هي عليه. كانت تتحدث معي وكأنها ترى فيَ صانعا للفحولة. إله قديم عثرت عليه مصادفة.. مع ذلك نامت نوما هادئا ويدها تقبض على ذراعي.. كنت أتطلع بوجهها الهاديء فأجد نفسي أهرب من الضباب والكآبة إلى بلد يعج بالعرب والآسيوين والأفارقة خلت أول مرة دخلت فيها لندن أنني في بلد شرقي لعله بغداد أو القاهرة أو بيروت.. مدينة شرقية هبطت من السماء أو التاريخ وربما الخرافة فاستقرت في شمال أوروبا:

- بريطانيا بلد الضباب لافرق بينها والدنمارك.

- نعم ياعزيزتي لكنها أكثر حيوية وأوسع صخبا فقد يلهيني الصخب وتأسرني والحركة !

 لندن أم الدنيا أما أنا فيمكن أن أعدني مدفونا في مدن شقراء.. ومن محاسن المصادفة أني عثرت على شخص لاأعرفه وبعد أيام تطلعت في اليوم المشهود الخامس من نوفمبر وألقيت عليك القبض.. جئت أحذرك.. إنه يوم إعدامك "كاي فاوكس".. ولدت عام 1750 في ابريل من عائلة بروتستانتية والدك مات وتركك مع أمك وأختين أكبر منك سنا وسرعان ماتزوجت أمك من شخص كاثوليكي ربما يكون هذا علة لتوالي المصادفات في وقت واحد بين بغداد ولندن بغض النظر عن فرق التوقيت.. ثم سرعان ما آمنت بالمذهب الكاثوليكي.. استلمت أموال والدك حين أصبحت في سن العشرين ثم بعد سنتين رحلت إلى اسبانيا.. هل كنت غبيا حين رأيتك تحرق أمامي وأنا أجهل من أنت.. لايهم فأنا أنتظر حكما آخر. مصادفة رأيت سيرة أجدادي أمامي. لعلك لاتعرف هذا عنهم.. إنهم أناس طيبون إذا كرهوا أحدا صنعوا له تمثالا من تبن وراحوا يصبون سخطهم عليه.. يسبونه.. يركلونه ويصفعونه وها أنا الآن جئت أحذرك حالما وقفت أمام النار على الرغم من أني رأيت وجهك الوسيم ذا الابتسامة الواسعة والشارب المعقوف مثل سيف ثم وجهك ذا العينين القادمتين من عصر مغولي ووجها آخر تبدو فيه مثل طير مشوه. فمك منقار وعيناك كرزتان جاحظتان.. أي شخص فيك أخاطب ؟ إني أدرك تماما أنك لست بساحر والحرق للساحرات اللائي يركبن المكانس ويضاجعن الشيطان والهررة السود أو يأكلن أطراف الأطفال الميتين. انت رجل انتحاري مثل هؤلاء الذين يلبسون الأحزمة الناسفة ويفجرون أنفسهم في بغداد ودمشق والقاهرة والمدن الأليفة الأخرى بالضبط تملأ براميل محشوة بالبارود في المخزن أسفل البرلمان وعندما يأتي جلالة الملك يحدث الانفجار العظيم أنت تُشنَق ودميتك تُحَرق كل عام.. مجرم ذو دمية ساحرة.. الوقت بداية الشتاء وانا وحدي.. تموز تركني ولملم أشلاءه منذ اشهر.. صديقتي الدنماركية رفضت الهجرة معي.. وجوه غريبة عني.. أناس لا أعرفهم.. كان هناك تمثال ومراسم حرق.. خشب وزيت وحارس.. بيني وبغداد ثلاث ساعات من الزمن القاسي أنتظر حكما آخر يصدر من هناك فجأة دميتك برزت أمامي من دون مقدمات.. فرصة ألتقط بها أنفاسي.. أتحايل على الزمن.. أستطيع أن أقضي نصف اليوم مع النار فأقف في مكاني لاأتحرك وعيناي شاخصتان إلى الدمية العملاقة!

مع ذلك أعترف لك أني شاهدت حرقك قبل أن أعرفك ربما هو الخطأ الوحيد الذي اقترفته دون أن أدري.

***

د. قصي الشيخ عسكر

........................

- الحبل والنار التي تسري، رواية مهجرية

- جزء رواية قصيرة تتناول إعدام الرئيس العراقي السابق سانشرها على حلقات في المثقف. الرواية طبعت في بيروت

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم