صحيفة المثقف

الديمقراطية المزيفة (؟)

محمد العباسيقبل الحديث في الجانب الانتخابي الذي يمثل رمزاً للممارسة الديمقراطية، لننظر في ماهية ومكنون معنى الديمقراطية.. ربما يتفق أغلب الناس ممن لهم حس ثقافي وإطلاع عام على حقوق الإنسان أن الديمقراطية لا بد أن تعني المساواة بين الناس.. ولا بد لأي ملة تتدعي الديمقراطية أن تتسم بدرجة عالية من الشفافية والمصداقية والعدالة الاجتماعية وتطبيق القوانين المتفق عليها بكل بنودها على الجميع دون استثناءات ولا امتيازات ولا حتى حصانات خاصة لثلة من المجتمع ممن يقبعون في قمة الهرم الاجتماعي ! بل تفرض علينا الديمقراطية عدم وجود تصنيف هرمي لأفراد المجتمع.. ولا يجب تصنيف البشر حسب العرق والنسب والدين والمذهب، وهكذا.. ولا يجب تصنيف المجتمع بناء على الوظائف والألقاب والمراكز.. فالكل يعتمد على الكل ولن تسير الأمور الحياتية بينهم، فعمال نظافة الطرقات أكثر أهمية وربما يمكن القول بأنهم "أشرف" من أصحاب السيارات الفارهة ممن يلقون بقاذوراتهم من سياراتهم عند كل إشارة وقوف.

ففي كافة ديمقراطيات العالم الحر والمتقدم تكون الشفافية والعدالة والمساواة بين جميع شرائح المجتمع أساس النظام وميزان التناغم المجتمعي ومنبع الرضى والأمان وتحقيق السكينة والكرامة. غير أن تطبيق النظام العادل يعتمد على فئات من المجتمع تملك العلم والخبرة في سن القوانين حسب المعطيات والمفاهيم المعتمدة عالمياً مع ما يتناسب معها من تطويع يناسب خصوصيات كل مجتمع بشكل عام.. فيتم وضع الدساتير والقواعد العامة لتسيير أمور المجتمع أو الدولة لتكون الفيصل في كل شيء دون تفرقة بين المواطنين، ويكون هناك مساواة في الحقوق والواجبات وتسود بين الجميع روح المنافسة الشريفة والشفافة في كافة مناحي الحياة.

وهنا تحتاج كل أمة لنوع من الانتخابات الحرة النزيهة لاختيار الأفراد القادرين على إدارة دفة الحكم وتمثيل كافة المواطنين والتكلم باسمهم جميعاً ورعاية مصالحهم وحماية حقوقهم.. ويفسر الأستاذ "عبدالله مكاوي" في موقع (صحيفة الراكوبة) السودانية: "الانتخابات واحدة من آليات الديمقراطية، أو ابنة شرعية لبيئة الحريات العامة. وتهدف لحسم التنافس بين المشاريع السياسية المطروحة، لاستقطاب وقبول وتأييد الجمهور وتالياً الحصول علي أصواته للوصول إلى الحكم عبر الشرعية الانتخابية أو الرضا العام. أي الشرعية تقتضي التفويض الشعبي من جهة، واحترام الدستور أو الإطار القانوني المتفق عليه وطنيا".

فمثلاً ما هي حاجة أي مجتمع للعمليات الانتخابية الرئاسية أو النيابية أو البلدية وغيرها من تجمعات تشريعية وتنفيذية؟ المفروض لكل ملة أن تختار من بينها أفراداً لتمثيلهم وخدمتهم ومتابعة شئونهم الحياتية والسياسية وعلاقاتهم الدولية والمحلية.. لكن هل هذا ما يحصل نتيجة الممارسات الانتخابية في أوطاننا بشكل عام؟ لنأخذ الوضع في مملكة البحرين في تجربتها النيابية كمثال لتجارب منطقتنا الخليجية بشكل خاص ووضعنا العربي بشكل عام.. فحين تقدم ثلة من المواطنين الكرام وترشحوا من أجل خدمة الوطن في باكورة تجربتها الديمقراطية الحديثة وتسابقوا تلك المسابقة الشريفة لنيل شرف تمثيل المواطنين في المجلس النيابي، كان الكل على علم ويقين بماهية الشروط والتوقعات والمكافئات الموعودة.. شاءت الأصوات أن تختار رجال ونساء من كافة التوجهات.. وهم بلا شك أشخاص أعزاء لم تكن تنقصهم "الشهامة".. فالكل وعد ليعمل من أجل رفعة شأن المواطن ورعاية حقوقه وحل مشاكله وتحقيق تطلعاته.. الكل تعاهد على هذا العمل النبيل.. وكنا قد تصورنا في البداية بأن العمل النيابي سيكون أشبه بالعمل الوطني التطوعي، البعيد كل البعد عن الأنانية والنرجسية.. ولم يخل بالبال قط أن ينصب اهتمام الأخوة النواب فيما بعد على غير شئون المواطنين وتنصب جل اهتماماتهم على تثبيت مواقعهم ومصالحهم الشخصية والمكتسبات المادية، الآنية منها واللاحقة.. فمن الواضح أولاً أننا "انشغلنا" بشعارات الديمقراطية والانتخابات، في وطن كانت فيه أبواب شيوخنا دائماً مفتوحة للجميع.. فما كانت لنا حاجة لمجالس بلدية ونيابية وشورية تكلف ميزانية الدولة مبالغ فلكية والمردود يكاد يكون "صفراً".. وثانياً، ربما نكون قد اكتسبنا صفة الدولة الديمقراطية عبر التصويت على الميثاق وإجراء الانتخابات وتمثيل الشعب تحت ضغوطات "دكاكين حقوق الإنسان" من حولنا، لكننا لم نزل نجهل أساسيات الممارسة الديمقراطية والإيثار والشفافية والمحاسبة وتطبيق القانون بعدل وسواسية.

ربما نعتقد بشكل عام أنه بعد عهود أقدم الديمقراطيات المتمثلة في بريطانيا العظمى باتت الولايات المتحدة هي رمز الحريات والحقوق والانتخابات النزيهة في عالم اليوم.. لكن من يعلم بعالم السياسة يكتشف مدي الزيف والخداع والكذب ونشر الفضائح مع كل فترة انتخابية تدور رحاها في أمريكا.. فأثناء كل عملية انتخابية للزعامة في أمريكا تنشغل الصحافة الصفراء ومعها تلك الرصينة بنشر الفضائح الجنسية والمالية المتعلقة بكل مرشح.. "كلنتون" و"ترامب" نالا نصيبهما الواسع من "نشر الغسيل" بشأن ممارساتهما الجنسية.. والغريب أن الشعب الأمريكي اختارهما رغم كل ذلك.. أما "باراك أوباما" فقد دار نقاش طويل وجدال حول عرقه "الأسود" وأهملوا أمر والدته الأمريكية البيضاء، وأصبغوا عليه مسميات مثل "المخلوط" و"الملون" و"الأفريقي" وحتى "المسلم" لتشويه صورته.. و"هيلاري كلنتون" تعرضت لتدخلات "روسية" عبر قرصنة مواقعها الإلكترونية لكشف أوراقها وإسقاطها انتخابياً.. فهل هكذا ممارسات غير شريفة تجعل من الانتخابات الأمريكية ممارسة ديمقراطية وحرة ونزيهة؟ ثم نعلم أن المترشح للرئاسة في الولايات المتحدة لا بد له من دعم مالي ضخم، وعادة تأتيه الأموال من لوبيات الشركات الصناعية الكبرى، أو لوبيات سياسية مثل "آيباك" الممثل الأساسي للكيان الصهيوني في أمريكا.. ويكون حق الاختيار النهائي ليس بالضرورة لعدد الأصوات بقدر الاعتماد على تصويت ما يسمى بـ"مجمع الناخبين".. والشكل الاتحادي للنظام يفرض في الانتخابات الرئاسية اعتماد النتائج على مستوى الولايات، لا المجموع الصرف لأصوات الناخبين.

فعندما يتحدث أغلب سكان العالم عن الديمقراطية فإن النسخة الأمريكية من الديمقراطية تكون هي المسيطرة على خيالهم في أغلب الأحيان.. النموذج الأمريكي هو الأبرز بين باقي النماذج الديمقراطية رغم أنه ليس النموذج الأمثل ولكنه بلا شك الأقدر على الترويج والرواج مستغلاً في ذلك سطوة الولايات المتحدة على جميع الأصعدة تقريباً. فلا يمكن لأحد أن يتجاهل أن الديمقراطية الأمريكية أو النموذج الديمقراطي للولايات المتحدة الأمريكية هو النموذج السياسي الأشهر والأقوى منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم.. هذا النموذج مرتبط بالقوة العسكرية والقوة الاقتصادية وكذلك القوة الإعلامية.. ولا تزال الحكومة الأمريكية هي من تقرر وتربط توصيف ديمقراطيات دول العالم بممارستها للانتخابات فقط، وليس بممارساتها الحقوقية.. لذا هي تصف "إسرائيل" الصهيونية الغاصبة بالدولة الديمقراطية رغم كل ممارساتها العنصرية ضد الشعب الفلسطيني.

وفي مواقع أخرى نجد الولايات المتحدة تقف بكل إجحاف ضد دول أخرى في العالم عندما تمارس تلك الدول انتخابات ديمقراطية أو انقلابات عسكرية ضد حكامها الدكتاتوريين وتأتي بزعامات لا ترتضيها أمريكا لأنها تخالفها الرأي وتتضارب بينهما المصالح السياسية والتجارية، كما هو الحال مع "فنزويلا" على سبيل المثال وليس الحصر في أمريكا الجنوبية.. أو كما فعلت مع حكومة "محمد مصدق" عندما أطاح بالشاه "محمد رضا بهلوي" في ايران في أوائل الخمسينيات، وهكذا.. بل قد تلجأ المخابرات الأمريكية لخلق حروب حول العالم لإشغال الرأي العام الأمريكي بقضايا جانبية من أجل التغطية على إخفاقاتها أو مشاكلها الداخلية وتضحي بجنودها وترتكب مجازر بأعذار واهية من أجل ذلك.. ولا يزال هنالك شك كبير بأن أحداث "بيرل هاربر" وعملية اغتيال الرئيس الأمريكي "جون كيندي" وأحداث الحادي عشر من سبتمبر وغيرها كلها من ترتيب المخابرات الأمريكية من أجل تأليب الرأي العام الأمريكي وتقبلها الدخول في حروب حول العالم.. وكمثال على ذلك أنصح بمشاهدة فيلم بعنوان (Wag The Dog)!

يقول الأستاذ "عمرو خفاجي" في موقع (الشروق): " أسوأ ما يمكن أن يحدث لمجتمع أن يعمل في إطار من ديمقراطية، أو ما يعتقد أنه ديمقراطية في حين ما يجري من حوله عكس ذلك تماماً، وهناك فارق ضخم ما بين تسيير أمور الحياة وجوانبها المختلفة وفقاً لآليات ديمقراطية بمفهومها الشامل، وبين الحفاظ على الشكلانية الديمقراطية التي تحفظ ماء وجه الأنظمة". وهنا أيضا أنصح بفيلم أمريكي كوميدي بعنوان (The Distinguished Gentleman) كمثال لممارسات أعضاء الكونغرس الأمريكي الذين يستغلون مناصبهم في كسب الأموال والرشاوى والنفوذ دون أدنى مبالاة بمصالح الشعب الذي انتخبهم !!

في عالم اليوم نجد نوعين من الديمقراطية.. ديمقراطية حقيقية وأخرى مزيفة !! وحتى ضمن تلك الحقيقية يمكننا الجزم بأن لا أحد يطبق الديمقراطية بنسبة مثالية، لكن هناك تفاوت في تطبيقها.. تدعي بعض الحكومات بان حكمها ديمقراطي لكن عند الوقوف على مصالحها تستغل هذه الحكومات قوتها العسكرية والاقتصادية ونفوذها الاستخباراتي من اجل التلاعب بالديمقراطية وتسخرها بناء على أهدافها المعلنة والغير معلنة.. وفي آخر المطاف علينا أن نعلم بان كل حكومة تريد أن تجعل من العالم مكاناً أفضل لنفسها (فقط) حتى ولو كانت على حساب فساد الحكومات الأخرى من حولها.. وكما يقال "فقد كانت الأمم في السابق تصنع الأسلحة كلما واجهت حرباً.. واليوم باتت الدول المصنعة للسلاح تختلق الحروب من أجل بيع السلاح"، وغالباً باسم الدفاع عن الديمقراطية !!

ويبقى الخوف الحقيقي علينا عندما نعتقد أو "نتوهم" أننا عبر تبنينا الديمقراطية المزيفة، أننا حققنا المنشود، دون أن نعمل ونجاهد من أجل الوصول للديمقراطية الحقيقية التي تحقق النمو الاقتصادي والاجتماعي المؤسس لمستقبل يحقق سلاماً اجتماعياً صادقاً، بينما لا نحظى بأي قدر منه.. وربما يجب أن يكون ذلك أحد أهم الأهداف التي يجب أن نعمل من أجلها، فلا يمكن الاستمرار في أي مشروع ديمقراطي دون أن يهدف بالضرورة للسلام الاجتماعي ورفاهية المجتمع. وأختتم بشرح الأستاذ "حسن منيمنة" على موقع (الحرة): "الديمقراطية الصادقة هي المبنية على أساس أن المواطن هو السيد وأن الحاكم مفوض من المواطن لخدمته، ولأجل مسمى، وخاضع لمساءلته المتواصلة، ومقيد بأفعاله بالأطر المرسومة، والتي ليس من صلاحيات الحاكم تبديلها.. أي أن المواطن هو رب العمل، والحاكم هو الموظف المولج بتأدية الخدمة والمسرح تلقائياً إلا إذا ارتأى المواطن التمديد له.. والانتخابات الحرة النزيهة هي السبيل الأول، وليس الوحيد، لممارسة المواطن حقه باختيار الحاكم ومحاسبته.. وحيث أن آراء المواطنين تختلف، فالانتخابات هي وسيلة الاستطلاع لجمهور المواطنين، وفق صيغة تعتمد الأكثرية العددية (سواء كانت مطلقة أو نسبية) وتراعي اعتبارات النظام السياسي المتوافق عليه".

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم