صحيفة المثقف

الجثمان

صبيحة شبرانتظر ان يأتيه الأحبة فاتحي الأذرع لمعانقته بحنان، كان معصوب العينين، ممزق الأسمال، مرتعش الفم، يابس اللسان، لم يضعف منه القلب، ولم يشعر يوما بالخذلان، تلقى الضربات الموجعة على أنحاء عديدة من جسده الضعيف، وسمع آلاف الاتهامات بأصوات مهددة تارة، متوعدة أو واعدة أحيانا، فرض عليه الصوم أياما حتى أصابته الدوخة، ولم تعد العينان قادرتين على إتقان الرؤية، منعت عنه الزيارات، وحبس في غرفة منفردة..

- لا أعرف ماذا تريدون؟

تأتيه اللطمات متضاعفة، وتحل على جسده المهدود، وتتوالى الصفعات، تنطلق الأصوات شاتمة إياه، ومهددة بالويل والثبور وعظائم الأمور، يصب عليه الماء مغليا ثم باردا، حاولوا ان يسمعوا منه التضرع، وان يجثو على ركبتيه طالبا الغفران..

- لم أفعل ما تقولون..

تنهال عليه اللكمات والضربات، مصحوبة بصراخ يصم الاذان، تقلع منه الأظافر، وتطفأ السكائر في أنحاء من جسده المقرور..

- لم اسمع بمن تتهمون..

- انك حيوان، لتتحمل هذا العذاب..

يعلق من قدميه على المروحة السقفية، ويجعلونها تدور بأعلى سرعة

- ماذا تريدون؟

- يا ابن ........ ألا تدري؟

- نصحوه ان يبعد أفراد العائلة،الى مكان لايعرف به هؤلاء، وهو ينتظر في هذا المكان المظلم، علهم يأتون إليه ليعانقوه، ويطفئوا بحنانهم سعيرا بالالتياع، ينفجر في داخل قلبه المحروم من لمسات الدفء، يسمع أصوات حفر في المكان، هل يكونون هم؟ يلبون حاجته بعد فراق؟

- قل كلمة واحدة

يطول به الانتظار، ولا إشارة تدل انهم حاضرون، ليبددوا عنه وعورة الطريق التي سارها وحده، وهو يحلم ان الملتقى قريب، وأنهم حتما سيحققون له ما يريد، ويهرعون الى لقياه، كم هو مؤلم ان تتعرض للحرمان وحدك، نأيا بالعذاب عمن تحبهم مؤثرا اياهم على نفسك، وإبعادا لهم عن الأجواء التي لاترضي احدا، ولا تجلب للنفس الا الأذى، تمنى ان يسرعوا إليه، لقد تحمل كل ألوان التعذيب لوحده، وأبعد الأحبة عنها، آل على نفسه ان يحميهم، مع أنهم قاموا بتلك الحملة، وألّبوا الرأي العام، هم أعزاؤه في هذه الحياة، وسوف يأتون إليه مودعين على الأقل..

تتوالى أصوات الحرث في الأرض، هل هم أحبته أتوا لوداعه، بعد ان علموا انه مغادر أرض الخراب المشتعلة، التي لايحظى فيها الإنسان الا بالعذاب، الا سحقا، أين ذهبوا؟ ولماذا تأخروا في المجيء؟

ألم يعلموا إنها لحظات، وتنهال الأتربة عليه إيذانا بالرحيل من هذا العالم، لقد أحبهم، ودافع عنهم، وذاق من التعذيب صنوفا لم تخطر على بال، تفننوا في إيذائه، ليدفعوه على النطق بما يريدون، ردد لنفسه مرارا:

- اربأ بنفسي أن أسيء الى أصدقائي وأحبابي..

ولكنهم تأخروا طويلا، وله لحظات قليلة، وسوف يغادر غير آسف، لم يجد ما يسره، سنين عمره قضاها كمدا وهما، وحين ابتسمت له الحياة، قام أصحابه بتلك العملية، التي زعزعت أركان النظام، هربوا هم آملين بايجاد مأوى آمن، يقيهم من الوقوع في براثن الأعداء , وبقي هو في مكانه، لم يشأ المغادرة، فوقع في أسرهم، هل زاره أصحابه وهو في غرف التعذيب الضيقة، يتعرض الى ألوان مختلفة من العذاب؟ وكيف يمكن لهم ان يزوروه وهو بعيد، لايدري في أي بقعة من العالم؟ وقد منعت عنه الزيارات؟ ولكن الآن بعد ان ضاقت به المسافة بين الحياة واللحد، اخذ يتوقع أنهم سيهبون الى لقياه، وانهم سيخبرونه انهم سألوا عنها مرارا، ولكن الأعداء لم يمنحوهم فرصة اللقاء به، هذه الحقيقة، لاشك أنهم حاضرون،

- انك عنيد، يابس، ولا أمل فيك، سوف نضع حدا لهذه الجيفة

ما زالت أصوات حفر الأرض، تأتيه بلا انقطاع، أيمكن ان يكون القادمون أحبته الذين ضحى من أجلهم، وجعلهم يمسكون به، لينجوا

وهو وحيد، يحلم ان يحنوا عليه، وان يريحوا نفسه المتعبة من العناء، وجسده المثخن بالجراح، أين يمكن ان يذهبوا وقد انتظر مجيئهم العمر كله؟

يرتفع صوت حفر الأرض عاليا، يرى صندوقا كبيرا يسقط عليه، يطل الرأس هامسا:

- لا تحلم، كلانا سيمضي وحيدا

 

صبيحة شبر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم