صحيفة المثقف

الجامعات الفقاعات وتجارة الشهادات الخاوية

محمد العباسيقليلون هم من يسعون وراء الشهادات الجامعية طلباً للعلم ورغبة في تطوير الذات.. غير أن جل ما أسمعه من شباب اليوم أن سعيهم للشهادة ليس لأكثر من هدف الترقي في الوظيفة.. حيث بات ديوان الخدمة المدنية يشترط الدرجة العلمية لأغلب طلبات الترقي.. شهادة، أية شهادة كانت بغض النظر عن مدى ملائمتها وإرتباطها بطبيعة الوظيفة.. فباتت الترقيات مرتبطة ارتباطاً شرطياً بتلك الورقة !!

ربما أكون مخطئاً في التعميم.. غير أن هذا الوضع قائم وأسمعه كل يوم من أغلب شباب اليوم.. وهذا بالضبط ما دفع إلى تفاقم مشاكل إدارات التعليم العالي في دولنا مع مخرجات أغلب الجامعات الخاصة (التجارية) التى انتشرت في كل "حارة" لتلبية هذه الحاجة التي لا تتوافق مع الهدف الأساسي للدراسات العليا.. أصبحت الجامعات مجرد "دكاكين" للبيع بالجملة والتقسيط.. وبات التزاحم على أرخصها تكلفة وأسرعها تخريجاً بأقل المتطلبات.. حتى أصبحت شهاداتها خاوية كالفقاعات!!

ربما أدت جهود ادارات التعليم العالي مؤخراً في التصدي لبعض هذه الجامعات وانذارها وتهديدها بالغلق أن تستقيم قليلاً.. ربما كان رفع قضايا ضد بعضها أداة ضغط مناسبة ولو انها جاءت متأخرة بعض الشيء.. لكنها على الأقل بدأت تنتبه للحاجة الماسة لإنقاذ سمعة التعليم قبل استفحال الوضع.. وكلنا نعلم مدى ضرر الفضائح التي شوهت الصورة الناصعة لتاريخ التعليم في منطقتنا.. والشواهد كثيرة على خروج مسار التعليم عن الأهداف السوية.. وكثيراً يمكن القاء اللوم على كافة المشتركين في هذا الخلل الجسيم.

فقبل محاسبة الأطراف الرسمية على استهانتها بروح المتابعة السليمة لجودة المخرجات وكفاءة الشهادات لا بد لنا أن نركز على طلبة العلم أنفسهم.. فاذا كان هدف الطالب هو الحصول على تلك الورقة العديمة القيمة التي نسميها شهادة.. فعلى الأرجح أنه لن يبالي كثيراً من أين يكون مصدرها!  فمكاتب "التعليم عن بعد" منتشرة في كل مكان بما فيها الدول العربية والغربية.. مواقع الانترنت تزخر بالاعلانات المكشوفة بكل صراحة عن أسواق للشهادات التي يمكن اقتنائها بسهولة.. وبيننا العشرات من الأشخاص في مراكز حساسة ممن باتوا مسئولين ومدراء وحتى عمداء ونالوا درجات عليا عبر شهاداتهم "المشتراة" (إن لم أقل مزورة).

وهنالك مكاتب متخصصة في بيع البحوث الجاهزة وأغلبها مسروقة و"ملصوقة" ومنقولة من مواقع الانترنت.. الأدهى في موضوع البحوث الجاهزة أن كثير من المعلمين لا يبالون بالأمر وكأنهم يشجعون الطلبة على هذه الأفعال.. بل ربما هم الذين يمدون المكاتب والمكتبات بنسخ جاهزة للبيع.. أقول هذا الكلام بثقة لأنني شاهد على هذه الممارسات وعانيت بالفعل من محاولات التصدي لها في حياتي المهنية في المجال الأكاديمي الممتدة لأكثر من 30 سنة.. ثم هنالك قصة لمحاضر جامعي كان يطلب من طلبته ترجمات بالعربية لكتاب خارج المنهج بحيث كان يوزع بينهم عدد من صفحات كتاب يختاره هو ويعتبر الترجمة بديلاً للبحوث المطلوبة عليهم.. بل كانت قمة السخرية أن يشجعهم على الاستعانة بمكاتب متخصصة للترجمة ليضمن جودتها.. ثم يجمع الترجمات وينقحها ويطبعها ككتب من تأليفه هو (!!).. أو الآخر الذي كان يوظف في دائرته محاضرين على حساب الجامعة التي يعمل بها ممن يستعين بهم في كتابة المقالات العلمية وينشرها تحت اسمه لينال عبرها الدرجات العلمية.. وتكثر الأمثلة على كم اللصوصية والغش.. فهم أمثال هؤلاء (المربين الغير أفاضل) الذين انعدمت لديهم الغيرة على العلم والذين يشوهون قيمة التعليم!!

أصبحت العملية مجرد مسألة "عرض وطلب".. وهكذا نشأت الجامعات الخاصة ويكفي أن مسماها "خاصة".. فالسوق باتت مفتوحة وتجارتها رابحة والزبائن مستعدون للدفع مقابل أي شيء يضمن لهم الاستيفاء بمتطلبات "الترقيات" في أماكن العمل.. هل تتذكرون الجامعة التي وضعت لقب "بروفيسور" أمام اسم كل مدرس عندهم بلا استثناء وشملت حتى من كانت شهاداتهم العلمية لا تتعدى الدبلوم فقط لجذب "الزبائن"؟  هل تتذكرون الجامعة التي فضحها طلبتها أنفسهم حين اكتشفوا أنها كانت تغش للبعض وتمنحهم درجات في فصول علمية مسجلين فيها لكنهم لم يكونوا يحضرونها بتاتاً؟  هل تتذكرون تلك الجامعة التي كانت تقبل بين مقاعدها طلبة لا يملكون الشهادة الثانوية بأن تبيعهم الشهادات دون دراسة أصلاً؟  وهل تنكرون أن بعض الطلبة يفتخرون بأنهم نالوا أعلى الدرجات نتيجة لتقديمهم خدمات لبعض مدرسيهم كانجاز معملاتهم لدى دوائر حكومية يعملون فيها أو بالواسطة؟

ولا "يقهرني" شيء أكثر من الطالب الذي يفتخر بمحاضر جامعي ويمدحه بوصفه رائعاً و"متفهماً" فقط لأنه لا يهتم بحضورهم وغيابهم.. بل يمدهم بأسئلة الامتحانات لينجحوا بأعلى النتائج كي ينال هو الإعجاب والإشادة بأنه مدرس ممتاز!! أي علم وأي خير "نرتجي" من هؤلاء جميعاً؟.. كيف نتوقع التقدم والتطور والعطاء من متخرجين جهلاء؟  كيف نثق في مخرجات التعليم وبيننا معلمين يرتشون ويغشون بلا حياء؟  أما اذا كان المدرس من أصحاب المبادئ والكفاءة والغيرة على العلم فهو منبوذ مكروه وينعتونه بشتى المسميات القاسية على عكس ما يستحق من الإشادة والإحترام.. والجامعات الخاصة لا تمدد عقودهم لأنهم يمثلون تهديداً لمصادر الدخل وخسارة الزبائن المنتظرين.. فهي تجارة ولا بد للمشاريع التجارية ديمومة الكسب لتستمر.. و"بعرض الحائط" يقذفون بمستقبل الوطن تحت وصاية أجيال من الأكاديميين البلهاء!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم