صحيفة المثقف

موعد مرتقب

375 الحبل النار التي تسرياستهلال ثالث

شيخ في الثمانين من عمره يسير مع طفل له في البرية.

فجأة

اندفع جنود نحوه .  قال كبيرهم:

دلنا على مرابع قومك وأخبرنا عن عددهم

قال الشيخ:

أخاف إن ارشدتكم على قومي أن يشي بي هذا الغلام فيما بعد فيقتلوني

استل الزعيم سيفه وأطاح برأس الغلام وهو يقول:

لاتخف تستطيع ان تدلنا الآن

قال الشيخ وهو يلتقط آخر أنفاسه:

كنت أخشى أن تقتلني فيضعف الولد ويخبركم بمكان أهلي أما الآن فإني أموت في غاية الطمأنينة

حكاية عربية شعبية قديمة

*

في عمق الجزيرة العربية كانت هناك نساء يستقبلن الرجال.  يحفظن وجوههم فلا يغيبون عن أذهانهن حتى إذا بان حمل إحداهن استدعتهم جميعا وطلبت من أحدهم أن يكون ابا لوليدها المرتقب"

من تاريخنا العربي قبل الإسلام

3

موعد مرتقب يأتي به الغد.

هناك حفنة من الساعات. الدقائق، والثواني تفصلني عنه، فيبدو كأنّه متعلّق بالأبد، ويظلّ في ذاكرتي ناعما شفافا بغض النظر عمّا يحمله من عنف وقسوة وآلام:

- هل تعرفني من قبل؟

قبل أن أغادر سمعت صوته. التفت فرأيت كــاي الكاثوليكي يرتدي بدلة رمادية ذات سترة طويلة وعلىرأسه قبعة سوداء. الحق إني إلى الآن لم أذهب إلى المكتبة فارى صورته أو اقرأ عن سيرته كان ينظر إليّ نظرة ذات إشفاق غير أني لم أر في عينيه أيّة سخرية أو انتقام:

- هل رأيتني من قبل؟

- كلا.

- متى عرفتني؟

- قبل بضع ساعات.

- إذن لم تحرقني؟

- أبدا.

- ماذا تفعل هنا؟

- أنظر!

- تنظر؟

- نعم أنظر فقط أنظر!

- أتدري أن من أبصر كمن فعل!

أواجهه بسوء نيته:

- لكن هل تعرف أن هؤلاء يحبونك؟

- أنا؟

- نعم أنت!

- لم يريدوا لك الحبل وكان حرقك يستمر أياما ثم خصصوا لك يوما واحدا هو هذا اليوم الذي التقيتك فيه!

أسخر من كــاي  الذي  عرفته قبل ساعات معرفة سطحية بيد أنّه يحاول أن يستفزّني. يبتزني كمن يتهم عابر سبيل جائع بالسطو على روائح الشواء المنبثة في الهواء. كــاي أيّها المسكين أنت مثل المقاتل الحشاش لاتعي ماتقول. تريد أن تجعل الحواس متحدة بحاسة واحدة مثلما فعلت أنا فحققت وجودي خلال لحظة في أكثر من مكان.  كنت مع الساحرات ثم قفزت معك وعندي موعد غدا هو الفجر بتوقيت بريطانيا وهو الضحى أو الظهر كما تظنه بغداد أنت تريد للنظر أن يكون لمسا وللمس أن يكون سمعا لأنّك تحكم على العالم وفق الطريقة التي قتلوك بها. لم تمارس عمليّة القتل بعد فأحرقوك ولحد الآن مازالوا يحرقونك. أنت تهذي!:

- أنا؟

- نعم أنت؟

- كيف أستطيع أن أكون في مكانين بوقت واحد؟

الست عراقيا يحمل جنسية أخرى ويعيش في مكان آخر قدرة الإنسان في الابداع أو التدمير لاتنتهي والمتهم في القفص يتهم أي شاهد جاء من الخارج أنه يبدو بوجهين مادام يعيش في بلدين ويحمل أكثر من هوية تلك جريمة يحاسب عليها القانون:

ألم تشعر بالدفء من لهب النار!

- بلى

- ألم تتلذذ بالحرق؟

- بلى

- ألست  هنا على بعد خطوات منّي؟

- لاأنكر.

كأيّ مجرم أتسلل عائدا إلى منزلي. لو كانت معي هذا العام لما زارني كــاي.  لوجدتني أضع رأسها على كتفي وأمسد شعرها الناعم الطويل. كانت وحدها تبعد الساحرات عنّي، ولو لم أهاجر لما تعرفت على كــاي الذي يركض ورائي لأدانتي. هاهم الإنكليز يحيطون بي. ينصرفون إلى الثرثرة أو القبلات، ويتحدثون عن وقت إشعال النار، والثائر كــاي يستغلّ عزلتي ليوجّه إليّ الاتهام وحدي فأنسحب مشيحا بوجهي عنه.  أتسلل قبل أن يكتمل حرقه. بعيدا في الدار حيث الدفء أدمن القهوة محاولا جهدي أن أقاوم الأرق. أكرع أكثر من فنجان، وأظلّ أصارع النوم. أقلّب المحطات الفضائيّة. الوجوه ذاتها.. الصراع نفسه.. مناصرون ومؤيدون..

- مجرم

- قاتل

- سفاح.  هذه نهاية كل جزار.  دماء حلبجة والدجيل.  اعدامات الرفاق.

- بريء.  الأمريكان سفاحون.

- بطل.  الرئيس العربي الوحيد الذي أرسل صواريخ على تل ابيب.  نحن هنا في الأردن نحبه.

- إذن خذوه زعيما لكم

- سلامة ملكنا

- سلامة رئيسنا!

هو صلاح الدين!

أتوجه إلى القنوات الإنكليزية.. غناء. مسابقة رقص.. من يربح المليون. فلم لشارلي شابلن.. في مثل هذه الليلة بدأت القوات الألمانية تنسحب من بلجيكا. تكريم للقوات البريطانية التي أبلت بلاء حسنا وأبدت شجاعة لاحد لها في تطهير شمال أوروبا.  سيادته مشغول بالحرب مع النار .  لعبة أطفال مع عين الشمس التي يتتناثر رذاذها في الهواء وسط الظلام فيبول الطفل في فراشه إن هو لعبها. تلك اللعبة تستمر ثماني سنوات ولم يعلم سيادته أن العالم كله يمكن أن يتحول في لحظات . لحظات فقط سواء في أطول يوم صيفي أم اقصر نهار وقت البرد. دقائق وتصبح الدنيا كلها لهيبا مجوسي اللون يعانق السماء فيذوب وتذوب معه وهي تغني أغنية دافئة فكيف أقدر أن أغالب النعاس ثمّ أعود إلى المحطات المتناثرة من حولي؟في رأسي أكثر من صورة: الإنكليز قتلوا المتمرد كـاي الذي اتهمني قبل ساعات بحرقه، وهاهم يقتلونه بطريقة ساخرة. كلّ عام يحرقونه والعالم يصفق لهم. يمكن أن نحوّل الموت ذاته إلى لعبة فتخف بشاعته أمام الآخرين. صديقتي الدنماركية ناقشتني ذات يوم بمبدأ الموت. قالت كيف يمكن أن نضع أنفسنا مكان الله فنسلب إنسانا روحه. أيدّت بحماس القانون الأوروبي الذي يمنع عقوبة الإعدام،  قلت لها محتجا لو أن لديك طفلة قتلها مجرم ما .  جزار حرمك منها ماذا تفعلين مع ذلك صوتت لقانون يلغي عقوبة الإعدام لكنّها الآن بعيدة عنّي وبإمكاني أن أقول لها الدكتاتور نفسه وضع نفسه مكان الله فأعدم وقتل أنا  بعيد عن الشارع العربي ومحامي الدكتاتور، وحماس الفضائيات.  يمكنني أن أمارس لعبتي في القتل بكل حرية . أحيانا أعود إلى الطفل المشاكس.  تذكرته حين قابلت ملكة الدنمارك وجها لوجه مصادفة في مربع القصر الملكي . لم اكن أسمع بها في التلفاز سوى مرة واحدة كل عام. ليلة تؤذن سنة قديمة بالانصراف وتهم بالإطلالة سنة أخرى عذراء عندئذ تظهر الملكة .  تتحدث بضع دقائق وتنصرف.  وتذكرتك حين رأيتك وجها لوجه . كنت على بعد خطوات مني. قبل ساعات في مكان عملي  الذي انقلبت فيه من عقاب إلى نسر جاء المسؤول وأخبرنا أن السيد النائب في طريقه هذا اليوم إلى مقر المحافظة. خرجنا ووقفت على الرصيف مقابل إعدادية العشار وماهي إلا لحظات حتى اطلت سيارات يقف على حافاتها جنب الأبواب حرس يوجهون مسدساتهم إلى السماء في واحدة من هذه السيارات السوداء كنت تلوِّح لنا فوقع نظري على وجهك وبدلتك فانشغلت بالنظر إليك عن التصفيق والهتاف لم أكن يوما ما ذلك الولد المشاكس الذي يتبرص بملكة الدنمارك فيخرج لها من مكمن فيسأل جلاللتها عن الساعة الآن أو الولد الذي رش البخاخ على الذباب فكان شأنه شأن اهل البيت جميعا رأوا سيادته في التلفاز فقط ثم فجأة  جاء حرس مدججون بالسلاح واقتحموا البيت تأكدوا  خلوه تماما من كل مايسبب الأذى وأخبروا صاحبه أن سيادته في طريقه لزيارة العائلة .  ارتميت  تطوق عنقه وأخذك بين أحضانه.  سألك:

- ماذا تحب أيها الولد  أن تصبح في المستقبل؟

- رئيس جمهورية!

بارك الله فيك

في تلك اللحظة التقت عينا الزعيم بعيني الطفل الجالس في حضنه فقال:

- حسنا هل تعرفني؟

- نعم أعرفك

- من أنا؟

- أنت الذي يبصق عليك والدي كلما ظهرت في التلفزيون!

منذ ذلك الوقت اختفى أبي لكني لم أعد نفسي يتيما مادمت لم أتحقق من موته.  هل أصوت لقانون جديد يلغي عقوبة الإعدام أم ياترى أعد نفسي قاتل أبي. القهوة والنعاس يدوران بجسدي مثل القط والفأر. سوف لا أقتله كي لايقال الجنوب قتله أو الأكراد شنقوه  ربما اختلط عليّ الأمر فرأيته مرة يحمل القرآن وأخرى يرتدي زي المعدان وثالثة الزي الكردي. فمن أقتل وهو الذي دخل كلّ بيت وارتدى جميع الأزياء، أما لعبتي فستريح الجميع: أنا ياسيادة القاضي عندي لعبة تسمو على السياسة وتلغي المزايدات. كلّ سنة يصنع الناس دمية من الخشب.. خرافة.. إنسان من قش. تبن ننفث عليه غضبا ورثناه من كل الأزمنة وكل الأمكنة .  كل قوم يخرجون حاملين دميتهم  ولعناتهم.. الإسكندنافيون دمى الساحرات.  الإنكليز دمية كاي كلّ أمة تخرج أوزار الماضين .  . الواقفة جنبي سيدة في الأربعين ظنّتني أتحدّث معها في حين زادت حدّة النقاش بيني وكــاي حين خلته زعق فيّ، فانفلت من أمامه. كان أهل أربيل والسليمانية والعمارة والبصرة وبغداد يحملون صناديق زجاجيّة فيها دمى متشابهة.. كالبكتريا انشطرت دمية الدكتاتور إلى أكثر من واحدة شأنه عندما كان حيّا، فاختلطت تلك اللحظة القنوات الأجنبيّة والعربية.. مذيع ألـ BBC . المحامون العرب. الأمريكان.. اللغات اختلطت، ويمكن لأيّ ما أن يفهم لغةً ما من غير الحاجة إلى مترجم:

- متى يبدأ الحرق؟

- السابعة.

- متى يتمّ الحرق؟

- عندما تغيب الشمس منتصف الليل.

- إنّها الليالي البيضاء.

- لم في هذا اليوم؟

- لاأدري.

كـاي أحرق في الليلة ذاتها.

- متى يتم النطق بالحكم؟

سيادة القاضي نفسه لايتركني.  المدعي العام ذو البشرة السمراء يوجه إلي نظرات ثاقبة.  لاشك أني لاأدرك نفسي جيدا.  أستطيع أن أقوم بأفعال مثل هؤلاء. أفوق كاي والزعماء الآخرين.  أقلد سيادة الرئيس في كل سلوك.  لابد من أن ألفت نظر سيادة القاضي: سيدي أنا لااقل أهمية عن اي واحد من الذين في القفص صحيح أن والدي مازال حيا وأن امي لم تتزوج رجلا آخر.

- ماذا فعلت أيها الولد.  اعترف قل الحقيقة كما هي!

- سيدي القاضي خلطت المسحوق بالماء ورششت النخيل

- هل كنت وحدك؟

- نعم

- ألم يساعدك أحد؟

- كلا

- انت متأكد؟

- نعم

- من أين حصلت على المسحوق

- دخلت المخزن

- سرقة

- إنه مخزن أبي

- الوقت ليس وقت تلقيح الحميرة

أمي تقول وأبي يمسك اذني ويهدد:

- إحذر لاتضع يدك في فمك يداك ملوثتان لقد أفسدت علينا النخيل ياغبي

وسألني القاضي:

- ثم ماذا؟

حملت مرش الحشرات ودخلت غرفة الضيافة رششت في الهواء فمات الذباب ومازالت نتانة الـ DDT  في أنفي إنها رائحة كريهة لاتطاق ليست مثل رائحة التفاح العفن التي شممتها في المسحوق الكيمياوي! تهم كثيرة تدينني لائحة يقرؤها المدعي العام: سكنت في بلدين وعشت في قرنين هاتان تهمتا تزوير اتخذتهما وسيلة لجرائم أخرى . المكان والزمان تلاعبتَ بهما كي تقترفَ جرائم كثيرة امتدت عبر التاريخ وها انت تجلس في غرفتك الدافئة تتربص بالصباح لكي تراقب آخر الجرائم .  هل أصعد في هذه الوقت المتأخر من الليل إلى الطابق الثاني فأعرض على جارتيَّ السحاقيتين بعض سائلي المنوي. قد تكون وسيلة ذكية أقضي بها الوقت الممل فأنا لست على استعداد أن ارافقهما إلى دار الفحص يوم الإثنين ولست على استعداد أن أبحث في المستقبل عن ولدين لي غير شقيقين مثلما أتعبني البحث في السابق عن أب لي ..  هؤلاء أجدادي السابقون الذين فتحوا العالم من الصين إلى الأندلس كانوا من أبناء ذوات الرايات والسحر ربما لهذا السبب كانوا عنيفين فَلِم أنفذ حكما بواحد من سلالتهم من دون الآخرين؟ أضحك.  في داخلي مئات الحيوانات تتجمّع من النمل إلى الديناصور المنقرض تطالب بالاحتفال أنساق معها هناك في السابعة، وهنا في منتصف الليل:

- غدا..

- متى..

- إعدام شنقا!

- رميا بالرصاص..

- لم أر مشنقة بل نارا وحطبا وورق مقوى.

- لعبة إنها لعبة.

فجأة تتوقف الحركة. مدينة الألعاب خلفي لاتنطق.  لاتتحرك كمشلول مقعد.. الضجة تموت. أتلفت خلفي فأجد الجميع خاشعين كأنّهم في صلاة. يعتريني خوف.. رعب هائل.. فأصرخ .. اصرخ أتحرر من كابوس هائل. الوقت فاتني. فناجين القهوة انهزمت أمام النوم أما الساعة فكانت تشير إلى الحادية عشرة صباحا..

ربّما لاأعقل ذلك.

بغداد خذلتني..

كأنّ النوم غلبني منذ عهد بعيد.. قرون وقرون تفصلني عمّا يجري.. تماما فقدت لحظة المفاجأة.. عيناي.. أذناي.. حواسي مشاعري تزور الخبر بعد قليل غريبة عنه. لم سمع القاضي ينطق بالحكم.. ولم أر الدكتاتور يزعق مكبرا وهو يحاول أن يتطاول على القدر كمن يأكل أكلة باردة بعد جوع طويل حتى خلته  ينظر إلى القاضي ذي الوجه الأسمر نظرته إلى زعيم صوب عليه الرصاص عام 1959 وإلى قفص الاتهام نظرته إلى نهر الفرات الذي عبره ذات يوم سباحة وقد تخيل رفاقه الحاضرين معه في قفص الاتهام وجوه الذين تآمروا عليه فاستلهم واحدا واحدا  ونفذ حكمه فيهم من غير شفقة.  كان يركز عينيه على المنصة ويصرخ والقاضي ماض في قراءة  لائحة الحكم عليه بالموت شنقا حتى الموت!

هكذا إذن كنت نائما والطاغية يستقبل حكمه..

ويدي انتبهت إلى الموجِّه فراحت نظراتي تعبث بالمحطات:

فضائية بغداد تذيع الخبر.  فضائية الفرات.  فضائية الفيحاء.  السومرية. الحرة.

فضائية سورية تستنكر.  البغدادية مبهمة الملامح

الجزائرية تعلن عن خروج مظاهرات.  عمان. قطر.  البحرين.

السودانية الرسمية بين مستنكر ومؤيد ومتفرج

المغربية تمر مرورا سريعا على الخبر

مظاهرات في العراق وإيران وبيروت.

تونس تبكي والكويت تفرح.

تنساب دمعة من عين مذيعة في قناة العربية

اليوم في العراق وغدا في بولاق.

المحطات الإيرانية تذيع الخبر أكثر من مرة.

قناة البوابة الشرقية تعبر عن دهشتها .  المذيع يبدي تململه .  قناة ليبيا تصرخ محتجة لصدور حكم جائر ينص على إعدام أسير حرب. والعقيد يسميه يوم الاسير..

وهو في كل الفضائيات يقف أمام القاضي هاتفا صارخا منتفضا ومتوعدا كأنه مايزال على كرسيه ولم يبصر سقوط الساحرة من على مكنستها منتصف الليل أما سيادته الذي أراه من بُعدٍ فأظن الساعات الثلاث التي أرهقتني لاتسعه.  عرفته يتميز عني وعن كاي وعن أي إنسان آخر بقدرته على التخفي. أليس هو بقادر على أن يصبح قطا أسود لايلفت نظر الباحثين عنه؟ربما ينثر بودرا في المحكمة فينام القاضي والحراس والجنود الأمريكان والذين في القفص معه فينسل خارجا وحده.  ولعل مشاهدي التلفاز يُفاجَؤون به يقفز من الشاشة إلى الخارج.  الفارابي الساحر الذي لعب بآلة صنعها فنام المجلس وقد تركهم نياما وخرج. في بالي كل الاحتمالات فأنا أعرفه  الفارس الذي جاء من عمق التاريخ البعيد . وريث جلجامش حفيد نبوخذ نصر .  ابن علي.  في البدء كان له جناحان يطير بهما سائحا في الفضاء.  فمه ينفث النار.  عيناه تقدحان شررا. غادر مكانه في الفضاء،  وألقى نظرة على المجرات فارتعدت خوفا.  ثم تتابع نور وظلام،  فهوى كما يهوي العقاب من ارتفاع شاهق على سطح ووقف بصورة الآدمي:

- أووه هذا خطأ يا استاذ .  خطأ فظيع بتعبيرك؟

- ماذا تقصد؟

أولا العقاب يأكل الجيف ألم تر أسراب العقبان تلتم على الجثث تنتظر  بنات آوى والضباع حتى تشبع  ثم تأتي إليها، فليس من اللائق أن نصف السيد الرئيس بالعقاب وإن دل الوصف على القوة ثانيا العقاب أصلع و..

- ماذا تقترح؟

- أبدل العقاب بنسر

الحمد لله أني لم أكن خبيرا باللغة العربية ولاأميز بين حروف الجر وأخوات إن وإلا لكلفت بكتابة كلمة المؤسسة التي تستعد لاستقبال عيد ميلاده:

- حسنا النسر ليس بأصلع ولايأكل الجيف.

- هذه حقائق علمية.

- وليس هناك من منقصة فيه؟

لا أبدا فكثير من الدول جعلت النسر رمزا لاعلامها.

عقاب .  نسر.  نمر.  طير.  أي شكل يمكن أن يستوعبه فكيف يقف أمام القاضي وله القدرة على التخفي.  كيف تقدر طائرات وبوارج وصواريخ وأقمار صناعية وحاملات طائرات أن تلتقط نسرا صارا عقابا وأنى تجد الاقمار الصناعية جرة في محيط هادر وهو في كل وقت يستطيع النجاة؟ مهما يكن  فهو قادر على أن يعبر مرحلة الخطر بقدرته الفائقة.  يتهادى مثل ذكر البط والحرس يحيطون به.  هناك في الفضاء طائرات تزأر .  المتظاهرون يرفعونه  على الأعناق .  ابتسم في وجوههم واختفى.  قالوا لانصدق أبدا مايجرى .  سيعود يوما ما.  إذا كان موسى العبري صعد إلى الجبل يستوحي وصايا الرب فلينزل إلى الاسفل من يقدر على النزول كي يطلع على ظلمة الأرض ويحدثنا عن سر الظلام فغدا يظهر في تكريت أو بغداد والبصرة.  الأرض تطوى له فيضع خطوة في الفرات وخطوة في دمشق وثالثة على جبل المقطم مثلما أراه الآن يجلس في القفص مع حلقة الرفاق أمام القاضي والقرآن بين يديه  فأظنه  يغادر المكان بطريقة ما ولاغرابة في الأمر إذ يقطع تلفزيون بغداد بث المحاكمة ويعلن الخبر التالي:

هرب المتهم..

- هرب واختفى على طريقة الفارابي.

- رجل قرأ التاريخ فتقمصته أحداثه من الوريد إلى الوريد.

الله أعلم فلسيادته صفة التواري عن الأنظار قد نراه غدا في وزارة الزراعة يسدي المعلومات للمسؤولين عن كيفية زيادة الانتاج.  لدينا نهران طويلان عريضان.  ماء وفير.  فلماذا نستورد الحنطة والشعير والجبن والزيتون والعنب والرمان.  وبعد غد يطل علينا من وزارة النفط يأمر المعنيين بالأمر  أن يزيدوا الانتاج إلى تسعة ملايين بئر في اليوم.  العراق يعوم على بحار من النفط.  أم تلك وزارة الصحة لايدري اطباؤها والكيمياويون كيف يبنتجون لقاحا مضادا للإيدز والسرطان. إنكم أيها الأمريكان تأسرون وهما لقد أخطاتم الهدف. لاأحد يصدق.  جندي أمريكي يقف على حفرة فوق رأس رجل كث اللحية نصفه الاسفل تحت الأرض ونصفه لحية وعينان وثمت يد ما تعبث بلحيته ورقبته وأسنانه وعيناه تنظران ذاهلتين إلى الحرس فوق رأسه:

- افتح فمك!

- من يثبت أنه الرئيس؟

- رأسك إلى الأعلى!

- إسمك؟

- كاي. فا. ؟

- كاي هذه رسالة بيدك دليل يثبت جرمك.

- أنا رئيس جمهورية العراق!

- اقسم أنهم لو أطلقوه في الشارع لهرب منه الجميع ولولت الناس الأدبار !

- لا ليس هو إنه الشبيه!

- نعم هو الشبيه!

- هاهو العالم ينتظر تحليل الحامض النووي!

- أيّ حامض نووي أيّ بطيخ!

- لا هو البديل ولاشك فغدا نسمع أخبارا أخرى عنه!

ألـ BBC ألـ MBC  RTL ألـ الكويتية .  روسيا اليوم.  المستقبل.  X factor.  الرقص على الجليد.  نورمان وزدم يصعد إلى الفضاء والزعيم يلعب مع أعدائه لعبة الغميضة  فيظن أنهم لن يعثروا عليه قط وينسى انهم يلعبون معه لعبة النار التي تأكل الأخضر ولاتترك اليابس .  هم يقفون مغمضي العيون كما فعلوا أيام حرب الثماني سنوات وحوادث حلبجة والكرمة والأهوار. لايسمعون ولايبصرون ويتركونه يختفي. المحطات تتراقص أمام عينيّ ولعبة التخفي تتلون بقدرة قادر .  تتحول من نار إلى حبل .  من يبدأ بالحبل مثل كاي ينتهي بالنار.  لكنه لم يكن ليعنى بالبللورة الشفافة فيقرأ  الحاضر والماضي. عيناه الثاقبتان وحدهما تطالعان من خانَ ومن يخون وماكان ومايكون فيقف أمام رفاق الأمس واليوم مسلطا نظراته الثاقبة على الوجوه ويتلو أسماء يخرج حاملوها مطرودين من حضرته:

- من يسمع اسمه يخرج من القاعة

- حكمت المحكمة على المتهم..  بالإعدام شنقا حتى الموت!

كيف غفوت وفاتني الخبر في حينه ولم يبق أمامي سوى محطات فضائية تصقل وتعيد وتمضغ الحدث كحيوانات مجترة. ثبت وجهك باتجاه الشاشة.  لاتلتفت إلى الوراء.  لاتختلس النظر إلى أي مكان فأنت أمام حدث عظيم لايجوز الغفلة معه. لاأشك مثلما من قبلُ أن الساعات الثلاث بين لندن وبغداد امتدت قرونا طويلة من الأحداث التي سرقت من عيني اليقظة . سخرت من نفسي ومن الساحرات اللاتي يستقبلن حكم الموت كلّ عام في أطول يوم تشهده إسكندنافيا. أغلقت جهاز التلفاز معرضا عن قهوة الصباح والتلذذ بمتابعة الأخبار. ارتديت ملابسي على عجل، وقدت السيارة إلى ساحة الإعدام. لم أعثر على مدينة الالعاب التي كان تعج بالحياة  البارحة. الساحة خالية من أيّ أحد. لقد رحلوا منذ الصباح الباكر..  لملموا آلاتهم ولم يتركوا أي أثر كما يفعل البدو أهلي القدامى. مكان حرق كــاي وحده مضمخ بالسخام، وجدت آثار رماد والعشرات من أغلفة المفرقعات والألعاب النارية الفارغة، وعلب المشروبات الخاوية وعلى بعد خطوات من قدمي غلاف لعبة نارية ينتصب من دون أن يطلقه أحد كأنّ صاحبه نسيه عن عمد أو كأنّه كان ينتظرني منذ زمن. كــاي نفسه يدينني لأنّي حضرت مراسم حرقه. لايصدق لو قلت له إنني جئت هنا هربا من طول يوم وليلة بانتظار حكم يصدر في اليوم التالي لكنك كنت في القفص مع رفاقك وأنا وحدي في غرفتي أتطلع إليك .  أحرقت مع الآخرين كاي وبدأت اتابعك بالحبل.  حينما كنت حرا هربت من البلد ولم أجرؤ على العودة بل لم افكر فيها.  ظننت وقتها نفسي غرابا  سرق النار من آلهة استأثرت بها وتنعمت وحدها بالدفء،  فأعطاها بشرا أنكروا فضله حين سموه الغراب الغبي الذي وهب النار لفصيلة غير فصيلته واقترف جريمة السرقة من أجل مخلوقات لاتفهمه فلا أقسى من أن يُحكَم عليه إلا بالنفي.  لكني الآن وأنت في القفص أنعم بالحرية بعيدا عنك إلى درجة أني أخشى أن أفرط بتلك الحرية إذ اعود ثانية إلى بلدي وأتذكر قول التي وضعت يدها بيدي عِقدا من الزمن وهي تحذرني من العودة الآن وماعلي إلا الانتظار إلى أن  يستقر الوضع ويحل الأمان. حتى هذه الفكرة ألغيتها تماما. وهاهو الحكم يصدر عن غير علم منّي. ليلة أمس حاصرني حرق الساحرات واتهامات كـاي لي وجثث الموتى في الهند أو جثة أحرقها هندي خلسة داخل أسوار  مزرعته النائية جنوب لندن فشاع خبره في وسائل الإعلام فما أفظعها من ساعات أما حرق وإما قتل ويا لها من ليلة عصية على الحياة عقيمة بالنفوس فيها  تستطيع أن تقتل وتحرق من دون أن تعي كما فعل ذلك  المقاتل معي في إحدى المدن المسبية. ربّما كان من الغباء أن أحضر إلى هذا المكان بدافع الفضول وقضاء الوقت كاشفا عن نفسي بعد أن قذفك كاي هكذا فجأة أمامي. كل هؤلاء الواقفين يجهلونني. أتعمّد أن انظر إليهم فأرى عاشقين يغيبان في قبلة وعائلة منهمكة مع صغارها أو عامل بلدية يوزع الحلوى على الصغار. كــاي وحده ميزني متخطيا غفلة الآخرين، فدفعني في القفص مع الدكتاتور ربما أنا ارتبكت فألقيت بنفسي في القفص  وجدتني أواجه تهمة خطيرة بصفتي أحد المجرمين الخطرين. لـِمَ حشرت نفسي في هذا الموقف كأنّي المتهم الوحيد على الأرض باقتراف جميع الجرائم منذ بدء الخليقة؟ لم أغادر أوروبا قط .  لقد سجنتني فيها  أوثقتني بحريتها أو سُجِنت فيها متعمدا حتى خشيت أن تضيع مني فلم أغادر اسكندنافيا إلا بعد عقد من الزمن  إلى بلد يعج بالشرق.  بريطانيا وجهها اسمر .  أبيض.  أشقر.  أسود.  أصفر.  أستطيع أن أختار  أي وجه أتقمصه لأتحرر من جرائم كثيرة.  مهزلة سوداء. من أجل هذا فقط لاأشعر بالضباب هنا.  أمامي حل واحد هو أن اعود إلى طفولتي لأستنسخ منها نهاية جديدة. هي الطريقة ذاتها ألجأ إليها كلما شحنت بالغضب من المعلمين : إذا كان الموت لايرضي جميع الأطراف فيمكنني أن أستل عصا غليظة من أية شجرة عملاقة وأقف أمام صف من أشجار الصفصاف فأرى في اية واحدة من تلك الأشجار معلما أكرهه من معلمي مدرستنا . أناديه باسمه وأنادي الآخر  ثم أهوي على كل واحد منهم بعصاي الغليظة مثلما يفعلون هم معنا نحن الصغار وهناك واحد أراه  لاينطق اسمه فتذكرت أنّي نسيت اسمي في إحدى الهويّات بمقبرة جماعيّة في مكان ما وربّما من قبل في أحد البيوت التي أحرقتها ذات يوم في مدينة مستباحة نسيت اسمها في مجمل مانسيت من هول الكارثة التي غطت على جميع الأحداث في الماضي.  لم يكتشفني أحد سوى كــاي المسكين الذي أخرجني من بين الجثث من مقبرة مجهولة مهملة في مكان ما. طفلا  يعرف أمه المرأة التي رفعت راية فجاءها رهط وبعد تسعة اشهر استدعتهم فلم يأت أحد منهم.  كنت طوال هذه الفترة أتجول في أكثر من مكان وأنتقل من زمان إلى آخر وكان كاي نفسه مختبئا في حفرة وحالما أطل نصفه منها عثرت به لكن مازلت أبحث عن أبي ومدينتي إلى هذه اللحظة.

قد أجد أصدقائي مصادفة في مقبرة مهملة وأنسى أن جسدي داخل سيارة محترقة.

أين اذهب؟

من يعرفني هناك؟

لكنّي بعد رحلة طويلة حضرت احتفالات كثيرة ونسيت أن أقيم حفلتي الموعودة، ثمّت في ذلك المكان حيث تغيب الذاكرة أرصفة قلّبتُ وجوهها، وشوارع استهلكت خطواتي.  وجوه لاأعرفها وأخرى عرفتني، وهناك آلاف الكائنات الدقيقة والضخمة توجّه خطواتي. تجبرني أن أفعل شيئا ما لا يخصّني وحدي، وفي داخلي تضطرب أغنية من دون لحن:عيناي الخاويتان تبصران عالما خالي الملامح والصور، كنت أشارك العالم احتفالاته في الحزن والفرح من دون أن أميز بين الإثنين، ولم يشاركني أيّ أحد في عزلتي الوادعة. قد تكون عزلتي الأخيرة، فحين حلّت اللحظة  المناسبة لأثبت براءتي وأنتقم تركني العالم وحدي، في تلك اللحظة من دون تردد كنت أمارس لعبة النار. عيناي الخاويتان وقعتا على قلم بارود منسي في الحقل المضمخ بالسخام وبقية العلب الفارغة. ويبدو أني وجدت في آثار كاي مضيعة للوقت. تسلية جديدة أسميها لعبة النار التي أعبر منها إلى تسلية أخرى تدعى الحبل فكانت تلك فرصتي الذهبية التي أصطلم بها الوقت بعد فوات الأوان. انحنيت التقطته . كما لو أنّه يرقد في داخلي فتهدأ على وقعه حيوانات تجوس في دمي.  أشعلت النار. تآكل قليلا ثمّّ دوى مفرقعا وانطلق إلى الأعلى. راحت عيناي تتابعانه وهو يتلاشى خلال ضوء النهار من دون أن يرسم أيّة ملامح تبهرني حتّى اختفى في الأفق البعيد وذوى عائدا إلى الأرض من دون أن يحدث أي ضجيج .  كنت تلك اللحظة المنداة ببقايا السخام أحتفل مع قلم البارود المنسي وحدي في الوقت نفسه تنسمت رئتاي أغنية  قديمة شاعت على ألسنتنا ونحن صغار:

دللول يا الولد يا ابني دللول

عدوك عليل وساكن الجول

اختلطت باغنية الطفولة القديمة التي غنيتها مع أصحابي كلمات  الخامس من نوفمبر ونشيد أيام المرافع .  الكلمات الإنكليزية تلاقحت مع العربية والدنماركية  دللول دللول  fastelavn . remember  remember   .  انساب اللحن العربي الحزين فاختلط بغيره بقيت أدندن مع نفسي أكثر من لحن في وقت واحد لكن لم يكن هناك من أحد ليلتفت إلي!

***

 د. قصي الشيخ عسكر

 ...................

إشارة

1- كتبت هذه الرواية في في الفترة من 5 نوفمبر إلى  30 ديسمبر 2006 في مدينة نوتنغهام – المملكة المتحدة  وسيجد القاريء الكريم أني استلهمت وقائع تاريخية لكني لم أتقيد بها حرفيا لأن الروائي ليس بمؤرخ ولا يُعنىَ بالتاريخ إلا بقدر ما يتناغم مع العمل الأدبي من حيث البعد الجمالي والفلسفي . الوقائع تلك هي وجود احتفال كبير اعتاد الإنكليز على إقامته في ليلة الخامس من نوفمبر هذه الليلة ينجلي صباحها عن حدث عظيم في العراق تابعته كل وسائل الإعلام.  هناك اختلاف وتشابه بين الحدثين ومن خلال هذين الحدثين وحدث آخر في الدنمارك يحمل المغزى ذاته تتحرك روايتي هذه.

2- لا أخفي أني للسبب اعلاه حاولت أن أكتب رواية غنائية تستند إلى التاريخ والفولكلور والتداخل الزمني.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم