صحيفة المثقف

ضوءٌ خفيٌ في الثورةِ الحسينية

نقرأ كثيراً عن ثورة الحسين، وأهم نتائجها هي استفزاز الضمائر الحية لمن يمتلكها. فقط أصحاب الضمائر الحية سيستأنفون خط الحسين الأصيل، فهو أنموذجهم الناصع لتغيير وضع المجتمع على كل الأصعدة.

كما هزّ الحسين (ع) الضمائرَ الحيةَ، بوضعه حجراً أساساً لكل ثورة تبتغي الإصلاحَ وقلعَ جذورِ الظلم، والانتصارَ للمبادئ الأصيلة التي ترسّخت في نفوسٍ كصلب الحديد... نفوسِ حاملي مشعلَ الثورة الحسينية، فمن معينِها الفياض تستقي كلُ ثورات العالم.

كما هزّ العقولَ الحيةَ، وذلك:

بلغةٍ فصيحةٍ، وبلاغةٍ عاليةٍ، وبيانٍ رفيعٍ، وأدبٍ رقيقٍ،. فلم يزِغ الإمام عن لغتِه وبيانِه البديع، منذ قبل الثورة، وبداياتها، وأثنائها، وحتى وهو في أنفاسه الأخيرة، وحتى نهاية ثورته وعودة آل بيت الرسول(ص) الى المدينة.

قامت الثورة الحسينية أولا بكتبٍ ورسائلَ متبادلةٍ بين الإمام(ع) وخصمه بعبارات متينة محكمة مرصوصة. إستلّيتُ بعضَ كتبِه للتمعّن في فصاحتها وبلاغتها وليس في فحواها، كما أختصرتُها تجنّبا للإطالة، وهذه نماذجُ من كتبه وخطبه: كتب لمعاوية:(هيهات يامعاوية، فضح الصبحُ فحمةَ الدجى، وبهرت الشمسُ أنوارَ السراج، ولقد فضلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجرت حتى جاوزت)[1]. وفي كتاب له لمعاوية: (ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدح باطلا في جور، وحنقا في ظلم حتى ملأت الأسقية، ومابينك وبين الموت الاّ غمضة)[2]. وفي خطابه للوليد بن عتبة والي المدينة: (أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد فاسق، فاجر، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لايبايع مثله)[3]. وأثناء مسيرته المباركة لكربلاء في الطريق خطب في جيش الحر الرياحي قائلا وهذا مقتطف من خطبته(ع): (ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعةَ الشيطان وتركوا طاعةَ الرحمن وأظهروا الفسادَ وعطّلوا الحدودَ واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرامَ الله وحرموا حلالَه، وأنا أحقّ من غيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم وأنكم لاتسلموني ولاتخذلوني...)[4]. وكتب الى أخيه محمد بن الحنفية قائلا: (أني لم أخرج أشرا ولابطرا ولاظالما ولامفسدا، انما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ..)[5] وخطبته في ساحة المعركة:(تبا لكم أيها الجماعة  وترحا، أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم، وحششتم علينا نارا أوقدناها على عدونا وعدوكم فأصبحتم إلْباً على أوليائكم...)[6]. وحتى أشعاره كانت بلغةٍ فصحى:

فإن نهزم فهزّامون قدما       وإن نغلب فغير مغلبينا

وما إن طِبُّنا جُبن ولكن        منايانا ودولة آخرينا

وهذا أنموذجٌ آخرُ، خطاب زهير بن القين (رض)، أحد صحابة الإمام في ساحة المعركة:(ياأهل الكوفة نذار لكم من عذاب النار نذار، إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد وملة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منا أهل فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا نحن أمة وأنتم أمة..)[7]. وغير ذلك من خطابات الإمام وأصحابه، لم أذكرها بتفاصيلها.

كما خطبت زينب (ع) في الكوفة في مجلس عبيد الله بن زياد، برباطةِ جأشٍ ولسانٍ فصيح، فلم يثنْها ألمُها وانهيارُها النفسي بفقد أخيها وأهل بيتها وأصحابهم، عن التخلي عن فصاحتها وبلاغتها، ولم تضعف قريحتُها الأدبية التي فاقت الوصف، حتى أنه احتج عليها بقوله:(هذه سجاعة ولعمري كان أبوها شاعرا سجاعا)، فانطلقت متألقة ببيانها العذب:(أما بعد ياأهل الكوفة أتبكون، فلا سكنت العبرة ولاهدأت الرنة، انما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، ألا ساء ماتزرون..)[8]. كما خطبت سكينة وفاطمة بنات الحسين (ع) في الكوفة أيضا.

كما خطبت زينب في مجلس يزيد في الشام قائلة: (ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما حين لاتجد الا ماقدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد والى الله المشتكى وعليه المعول، فكد كيدَك واسْع سعيَك وناصب جهدَك فوالله لاتمحو ذكرَنا ولاتميت وحيَنا ولايرحض عنك عارها وهل رأيك الا فند وأيامك الا عدد وجمعك الا بدد يوم ينادي المنادي الا لعنة الله على الظالمين)[9].

وخطب الإمام زين العابدين (ع) في مجلس يزيد في الشام خطبته الشهيرة التي فجّر فيها مشاعر الناس بالعويل والبكاء وهذا مقطع منها:( ...أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولاترات، أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا....).[10]

الخطب كثيرة التي وردت على لسان الإمام وأهل بيته وأصحابه، لم أذكرها كلها، من أراد الرجوع لها فمصادرها كثيرة في الكتب المتعلقة بالثورة الحسينية.

ما أوردته هي نماذج من خطبهم وكلها جاءت بالعربية الفصحى، مع العلم بوجود لهجات عامية آنذاك بموازاة اللغة الفصحى، واللغة العربية القديمة صعبة ألفاظها، لكن لم يأتِ لفظٌ واحدٌ منها لا في كتب الإمام لأهل الكوفة ولا في كربلاء في ساحة المعركة، وحتى أخوته وأبناؤه وأبناء أخوته وأصحابه والنساء كلهم كانوا على وتيرة واحدة في الخطاب والبيان والفصاحة والبلاغة كأنهم مُتَواصَوْن.

الإمام (ع) لم يتخلَّ ولم يزِغْ عن بلاغته وفصاحته حتى في اللحظات الحرجة، ولآخر لحظة من حياته. وكما نعلم أن الناس العوام دائما إذا تعرضوا لظرف حرج، كفقد عزيز أو انهيار نفسي، أوما شابه، فإنهم يعبرون عن مشاعرِهم وخلجاتِ نفوسِهم باللغة الدارجة، وهو حق طبيعي لأي أحد.

كما كان عصبُ الثورة رجالَها الأبطال الذين حملوا الأرواح على الأكف، فإن العصبَ الثاني لها كان البيانات والخطابات البديعة الرائعة، التي تنمّ عن حرصٍ كبيرٍ لحفظِ لغةَ القرآنِ حيةً على الألسن، ولإعطاءِ الناس والعالم صورةً مشرقةً للبيان العربي الفصيح، وحرصَ الإمام وأنصاره على التخاطب بأرقى وأبلغ أسلوب أمام الأعداء، وهو إحدى الحروب النفسية التي تدمّر روحَ الخصم.

هل فكرنا يوما بتتبّع كتبِ وخطاباتِ الإمام قبل وبعد الثورة الى نهاياتها، وكيف كُتِبت بأي لغة رصينة متينة، ونَمْذَجتها في خطابنا المتداول بيننا نحن مدّعي العلم والثقافة؟ وبسطَها على خطاباتنا اليومية مع الآخرين، حتى نحمي لغتَنا من الضياع؟ وننأى بلغتِنا الأصيلة عن شبكة خطابات عنكبوتية رثّة، دخيلة، هزيلة، لم نسمع عنها ولم تدرْ بخُلدنا قبل أربعين عاما؟ وهل فكر اللغويون يوما ما بوضع معجمٍ  جديدٍ للغة العربية يستوعب المصطلحات الحديثة والمستجدة في لغتنا الثرية، رديفٍ لمعاجم موجودة بين أيدينا، ليكون مرجعاً للباحثين؟ كلما أردنا أن نبحثَ في معنى مصطلحٍ جديدٍ تأخذنا الحيرة، فنشرّق ونغرّب بحثا عن معنى رديفٍ له ولانجد. لايوجد لدينا معجم للمصطلحات الحديثة سوى (المكنز العربي المعاصر، تأليف: د. محمود اسماعيل صيني وأخرون. مطبوع عام  1993، بيروت.) وأصبح قديما الآن، إذا لم أكن مخطئة.

يذكّرنا قصورُ العرب وتقصيرُهم في مجال لغتهم بقول الشاعر عمر أبو ريشة، مستفهماً ومعاتباً العرب:

أمتي هل لك بين الأمم        منبرٌ للسيفِ أو للقلمِ

نجيبه: لقد تفوقت أمةُ العربِ على الأمم بارتقائها أعلى المنابر في حدّ السيوف التي تبتر الرؤوس، لكنهم أخفقوا للارتقاء الى منبر حدّ الأقلام التي تحفظ هويتهم أمام العالم، فاللغة هي الهوية، وهي عامل أساس لكل علم من علوم الدنيا ووسيلة التعبير والتعريف عن نفسه. واللغة هي شخصيتنا وواجهتنا التي نطل بها على الآخر. غيرنا في بلدان الغرب، سنويا تنضاف مصطلحات جديدة لمعاجم لغاتهم فتطبع وتوضع تحت أيدي الجميع لحرصهم الشديد على حفظ لغاتهم من الضياع. مع العلم لاتوجد لغة في العالم أغنى وأثرى وأغزر من اللغة العربية، وهي اللغة الوحيدة المنفردة بروح رياضية، حيوية، مرنة، سيّالة فلماذا لاتلقى أبناءً بارين بها لحفظها من التشتت والضياع؟ وهم يفتقدون اليوم لغتهم وقواعدها وآدابها ولايجيدون الكتابة والحديث بها، وهو أمر مؤلم وخطير للغاية. لغتنا هويتنا إذا أضعناها أضعنا أنفسنا... لغتنا غنية كريمة لنفسها، فقيرة بخيلة لأهلها، لأنهم ضيعوها (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ       والماءُ فوق ظهورها محمولُ

مشكلتنا الآن أن اللغة الدارجة ولا أسميها اللهجة سادت على اللغة العربية الفصحى وابتلعتها، ولو وضعت معاجم للغة الدارجة الآن لفاقت معاجم اللغة الفصحى. الشعر الشعبي فقط لوحده يلتهم أوراق الدنيا؛ هذا الذي تستخدم فيه أبشع وأخشن الألفاظ . شباب جامعي بعمر الورود يفتخر بوقوفه أمام المايكروفون ليقرأ شعرا شعبيا من تأليفه، وهو ما لايتناسب ومرحلة الشباب ذات المثالية والرومانسية والخيال الخصب. هذه الحالة ليست في العراق فحسب بل في كل البلدان العربية، لكن في العراق على وجه الخصوص، والأسباب كثيرة، منها الحروب التي خاضها العراق والتي تسببت بانهيار شامل لكل بُنى التعليم من الأبتدائي الى الجامعي، والحصار المخيم لثلاثة عشر عاما. والثاني زحف القرى باتجاه المدن واختلاط اللهجات وشيوع لغة القرية وسيادتها على لغة المدينة، فالنزول أسهل من الصعود والارتقاء كما نعلم، وثالثا مازاد الطين بلّة شيوع لغة شبكات التواصل الاجتماعي المشوّهة لاستسهالها مع العلم هي الأصعب في الكتابة من الفصحى.

أطفال العراق على سبيل المثال، يتداولون مصطلحات الكبار بأسلوب ممجوج غير لائق وفيه نشاز لايتناسب وعفويتهم وبراءتهم، فالمشكلة ليست فيهم بل بالكبار، هم يرددون ما يسمعونه. الطفل الذي ينشأ في منزل فيه علم وكتاب حتى في لا شعوره يحفظ مايسمعه من مصطلحات لغوية يرددها أهله المتعلمون، والأهل عادة يرددون النصوص التي يقرؤونها أمام الأبناء لا عن قصد لكن هي عادة ألفوها وأدمنوها، حتى في حواراتهم وسجالاتهم تطغى الفصحى، فتلتقط أسماع الأبناء.

كما نبكي ونتباكى على مأساة الحسين(ع) أيضا من اللازم أن نبكي ونتباكى على مأساة لغة الحسين التي ضاعت بين أيدينا، كمن ضيّع الدر الثمين المودّع بين يديه، ولم تبقَ سوى بأيدي قلة من الحريصين المخلصين. هذه المأساة الحسينية التي تنضح بالفصاحة، غلفناها بركام هائل من التراث اللغوي الدارج الهزيل بحجة تغلغلها في الوجدان الشعبي الذي كان جلّه من الأميين على امتداد زمن دام لألف وأربعمائة عام.

الخطاب جاد جدا لنا جميعا ولكل المتصدين لتلقين العلم والمعرفة والثقافة، وخطباء المنبر الحسيني. نريد منفذا حقيقيا لانتشال لغتنا من مأزق مضيق وقعت فيه كمن (تهوي به الريح في مكان سحيق).

المسؤولية واقعة على عاتق الجميع، (فهل من مدّكر)؟

 

بقلم: انتزال الجبوري

.........................

 [1] - انظر: ثورة الحسين، ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية. الشيخ محمد مهدي شمس الدين. بيروت: المؤسسة لدولية للدراسات والنشر،ط7، 1996، ص109.

[2] - ثورة الحسين المصدر المتقدم أعلاه، ص133.

[3] - ثورة الحسين، مصدر متقدم، ص136.

[4] - نفس المصدر، ص140-141.

[5] - ن. م، ص139-140.

[6] - ن. م، ص142-143.

[7][7] - ن.م، ص148-149.

[8] - ن.م، ص175-176. 

[9] -اللهوف على قتلى الطفوف. السيد ابن طاووس. بيروت: مؤسسة الأعلمي، ط1، 1993، ص107.

[10]- ن.م، ص92.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم