صحيفة المثقف

السفر في طفولة الوطن.. قراءة في مجموعة الشاعر يحيى السماوي: تيمَّمي برمادي

قصي الشيخ عسكرفي العام 1993 كنت أتابع ندوة أجرتها الإذاعة المصرية مع الكاتب الأديب نجيب محفوظ فذكر أنه في هذه المرحل من العمر بدأ يتوغل في الطفولة أو بعبارة أدق الطفولة هي التي بدأت تسطع في ذاكرته على حساب عقود أخرى،مكان الولادة ،الحارة،أناسها، البيت القديم، زملاء الدراسة،الأب والأم،الأعمام والأخوال، شوارع المدينة التي فتح الطفل أو الصبي عينيه عليها، أول يوم ذهب فيه إلى المدرسة،في ذلك الوقت وأنا من مواليد 1951 بدا الحديث غريبا لي لكني حين دخلت العقد السابع من عمري فهمت المسألة فهما دقيقا.إنه الزمن النقي الساطع الذي يدبُّ في ذاكرتنا من جديد بصدقه ونقائه فنفضل أن نعيش معه على حساب بقية الأزمنة التي عايشناها وتفاعلنا معها.

وحين وصل إلي كتاب "تيمَّمي برمادي"وتأملته أكثر من مرة اكتشفت فيه ذاكرة الشاعر يحيى السماوي بشكل آخر بسحنة أخرى وجوهر آخر.

في هذه المرحلة من العمر لايتوغل الشاعر السماوي- أطال الله في عمره-بطفولته الخاصة بل يحاول أن يجعل من طفولة الوطن وصباه هما الأساس في ذاكرة الشاعر.إنها طريقة جديدة لاحتواء الذكريات.دمج وتوحيد لصبا الوطن وصباه هو-يحيى- إنك حين تقرأ المقطع التالي تجد أن لا فرق بين اللوحة التي رسمها،ومرابع السماوة وبساتينها العامرة وحدائقها الغناء حينذاك:

في عيد ميلاد الحديقة

ترتدي الأزهار أجمل عطرها

وتصير أحداقي فراشات

وقلبي خيمة أوتادها

من جلنار

عيد ميلاد الحديقة هو عيد ميلاد الشاعر نفسه حيث الذكريات وتنقله في حدائق بلدته أمَّا اللوحة الثانية تأتي موازية للوحة الأولى فتختصر آلاف السنين لتندمج اللوحتان في بعدواحد:

تغدو الملاك السومرية شهرزاد

تقص بالقبلات لي

قصصا

عن الضليل صار مؤذنا

ومبشرا بالعشب بادية السماوة

والربى بالإخضرار

  الزمن الراهن زمن جفاف،الجفاف عالمي ومحلي،أما المحليّ فهو الاقسى،الشاعر ينطلق من عيد ميلاد ما وليكن عيد ميلاده أو أي منا نحن معاصريه.لقد كانت هناك مرابع ومغانٍ،ومياه وحدائق،هذا زمن الطفولة المتمثل بزمن طفولة الوطن من حيث الرمز المتمثل ب "سومر"و "شهرزاد". الوطن كان طفلا يعادل إلها بحيويته،وفي أقوى عنفوان تحققت طفولة الوطن بالمرأة شهرزاد التي وضعت حدا للجريمة والقتل بأسلوب جماليّ رشيق هو القصص أي الفكر والذكاء.إن طفولة الشاعر التي تجسدت بسومر وشهرزاد جعلت من رمز آخر هو أمرؤ القيس أداة بشرى لها.الشاعر امرؤ القيس انتهى نهاية مأساوية وكلمة"الضلِّيل" لقب له لكن الرمز انقلب إلى معنى ىخر حيوي هو أنه لم يقف على الديار الخاوية بسبب الجفاف وينشد:

قفا نبك من ذكرى حبيب .. فتوضح فالمقراة لم يعف...يقولون لا تهلك

بل أصبح يؤذن بالبشارة، وهنا التفاتة ذكية من الشاعر لبيت امريء القيس الذي ورد في معلقته عن الليلك

فقلت له لما تمطى بصلبه..

حيث يصبح الليل بعد أذان الشاعر بالبشارة، يصبح مؤبدا بالنهار.

ولا نغفل في هذه الموازنة أن امرأ القيس نفسه تحدث عن طفولة الزمن متزامنةمع طفولته:

إلى عرق الثرى وشجت عروقي...

عرق الثرى فق تأويل العرب هو إسماعيل جدنا كما يُروى، والسماوي ذهب في جمع الذكريات لم يتجاوز سيد الشعراء فكان عليه أن ينتقل معه إلى سومر ويجعله مثل شهرزاد لا ينطق عن الموت بل عن الحياة بصيغة ديدة للشعر هي الأذان.

70 yahiaasamaw1550

بعد كل هذا يعود الشاعر إلى نفسه، يلتفت إليها ليستوعب من ماضيه الذي هو سيرة ذاتية لوطن موغل في القديم،فيرسم صورة لما سيكون لا إلى ماهو كائن الآن:

فأنا بمملكة الملاك السومرية

شهريار

غلماني الأزهار

والأشجار حاشيتي الأنيسة

والجواري الناي والغزلان ترعى

فيمراعي الأبجدية

والهزار!

لقدكانت هناك محاكاة راقية لما كان القريب بما كان البعيد لتنتقل الصورة إلى ماسيكون،أما إذا توغّل الشاعر في الزمن الأبعد ليستند إلى دمج طفولته وصباه به فإنه يشير الشاعر إلى قصة آدم طريد الفردوس والقصة ذاتها تمثل طفولةالعالم وصباه في الوقت نفسه:

تفاحة الأمس البعيد

رمت بآدم

خارج الفردوس

فانطفأ الصباح

بمقلتيه

وأغمضت أجفانها الأقمار

فهو لذئب مندمة

طريد

لنتخيل صورة آدم بعد طرده من الجنة حيث هبط= نزل أوحل في الأرض ليعمرها من لاشيء تلك الصورة تشبه الخراب والجفاف في عصرنا الحالي عالميا ومحليا،إن الوضع ذاته يعكسه الشاعر على طفولته وصباه بشكل آخرمستندا أيضا إلى الفعل الماضي: رمت انطفأ أغمضت

وأنا دخلت جنائن الفردوس

حين قطفت من تفاح حقلك

هل أنا ي العشق آدمه البتوليّ الجديد

مادمت لي...

الأفعال في كلتا الصورتين تتوازى في الزمن : دخلت  قطفت .. لتتحقق عبر التوازن الزمني الماضي صورة جديدة ليست هي بالماضي ماضي طفولة العالم ولا الحاضر بلكما ذكرنا صورة لما يمكن أن يكون.

من ناحية أخرى يكون ماضي طفولة الوطن مفتوحا على كلّ الأزمنة لا يستثني أيّة حقبة من حقب الزهو والحيوية المادية والروحية:

لاذت به من ظلام مقلتي وسعى   قلبي إليه بما حُفِّضت من سور

إشارة عميقة ذات دلالة إلى معنى قرآني، ومعظمنا يحفظ بعضا من سور القرآن وربما الكثير منها في زمن الصبا فنجد بعدئذٍ أن الزمن القرآني يسير ضمن زمن طفولة الوطن وبموازاته حيث نطّلع فيما بعد على قول الشاعر :

وفيه من أور مشحوف يسير به زهو الهلال بضوء الأنجم الزهر

إن الشاعر نفسه يعترف أن طفولته تتحقق من خلال العودة إلى طفولة العالم،الوطن، الدين،التاريخ، الشعر في بداياته:

إنّي أعدتك طفلا فلتكن أبة لي    واعتصم بسراطي من دجى العثر

ومن باب خفي جميل الملامح يجاور زمان الماضي بمفردات قديمة يبثّ فيها الحيوية، فهذه المفردة كالقوة في البذرة تثمر وتزهر حين نغرسها من جديد:

علّقتها وأنا عشب يسير به نحو الخريف لهيب جائع الشرر

مفردة عُلِّقتها بمعنى عشقتها استدرجها الشاعر من عصرنا الجاهلي ليضعها في عصر جديد،وهي مفردة تذكرنا بالأعش في معلّقته:

علِّقتها عَرَضا وعُلِّقت رجلا غيري وعلق أخرى غيرها الرجل

ويستدرج من ريعان الشعر العربي القديم صورة صبا آخر يدلّ على الخصب الذي يتغنى به شعراء الجزيرة العربية المقفرة، لكن بشكل أدق وأكثر حيوية يخص انثى العالم الجديد الذي أطلقنا عليه ما يمكن أن يكون:

أو أنها روضة تمشي على قدم   يلهو على كتفيها شعرها الغجري

فلا شكّ ونحن نتابع طفولة الشاعر من خلال طفولة الوطن أنه جمع كلّ صور النقاء ليصوغها من جديد إذ خرج عن المألوف في التعبير عن طفولته.طفولة شاعر تعني طفلة الوطن وطفولة العالم بآفاق متوازية هي الروح والمادة والشعر والجمال حيث تحتشد الصور بحيوية وتناسق:

سألتني ربة الحانة والمحراب

والمشحوف والنهر الأنثوي

الذي شاربه يبعث حيا إن هلك

لتتناغم بعدها بصورة روحية :

أو الحلم أم شبه لك؟

ومعنى روحي آخر:

فأنا قد هيت لك

لكنّ الشاعر وهو المتمكن من أدواته قد يستوعب صورة من صور الماضي الجميل الذي عايشه فيستدرجه بفنية عالية إلى الأزمنة البعيدة العالية

لعبنا لعبة العرسان : كلّ   يغذّ به إلى شبق سباق

لكن أيّ شبق هذا؟

إنه نفسه يحلّ اللغز لغز اندماج طفولة الشاعر بطفولة وطن :

ملكنا يومنا وتملكتنا    وعود سوف يشهدها العراق

وفي مشهد آخر للخصب يستدرج صباه إلى العالم الجديد:

خبر الهوى طفلا ..صبيا..يافعا   وازداد كهلا غير عشق لا يعي

ليجسد بعدئذ كلّ الأزمنة والأمكنة في زمان ومكان له ميزته وخصوصيته:

أنا ياابنة الريحان نهر صبابة  مائي عراق والسماوة منبعي

الحق هذه قراءة في جانب واحد من جوانب تلك المجموعة الشعرية المتميزة بخصبها لأنني كلما قرأت جديدا من نتاج يحيى السماوي وجدت زاوية إبداعية يتناولها بصورة متقنة فلم يسبقه أحد إليها قد يتحدث شاعر أو كاتب عن طفولته بأسلوب بديع ومعان رائعة لكن يحيى السماوي الشاعر جعل طفولة الشاعر طفولة العالم وصبا الوطن.

أعتذر عن الإيجاز فالمجموعة تحتاج إلى دراسة أخرى تعطيها حقها وتلم بجوانبها الأخرى.

***

د. قصي الشيخ عسكر   

               

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم