صحيفة المثقف

أكتوبر بين الحقيقة والأسطورة

حسن زايدأجلس الآن أمام شاشة التلفاز، لأشاهد فترة من حياتي، كنت فيها طفلاً .. مُشاهداً . عاصرتها، وعشتها، لحظة بلحظة، إنها مشاهد، النكسة، وحرب الإستنزاف، وحرب أكتوبر.. لم يكن الأمر هزلياً ولا مسرحياً، ولا افتراضياً، وإنما واقع حي، جري صناعته بالعرق، والدم، والدموع، والأشلاء، وزخات الرصاص، ودوي القنابل، والجنائز الصامتة . جري التجهيز لها تحت وطأة الجوع، والعطش، والغربة، والصمت المطبق، تدريباً، وتجهيزاً، وتأهباً، وترقباً . جرياً، وزحفاً، وتسلقاً، وقفزاً .

وهنا يأتي السؤال المفخخ الذي يجري إلقاء أشواكه علي قارعة الطريق الذي يسلكه الشباب حول ماهية حرب أكتوبر والطرف المنتصر فيها . ويُثار السؤال بإلحاح شديد، ومستمر، ومتصاعد، حتي تتولد عنه أسئلة متعددة، تثير ضغوطاً تشكيكية، تزعزع بقايا اليقين المتبقية في قواته المسلحة، وتبعثر بقايا الثقة في قدراته علي مواجهة العدو، وتفرغ الإنتصار المتحقق علي يديه من فحواه .

حرب أكتوبر هي الحرب الأخيرة بين العرب وإسرائيل، سبقتها حرب 1948 م، وهزم فيها العرب سياسياً وعسكريا، وحرب 1956 م، وهوجمت مصر بدولتين كبريتين إلي جانب إسرائيل، وهزمت مصر فيها عسكرياً، وانتصرت سياسياً، وحرب 1967م وفيها اكتسحت أرض سيناء بكاملها أمام تفوق جوي وعسكري، وأصبحت الجبهة الداخلية مهددة عسكرياً وجوياً في آن .

وهذه الحروب لم تكن حروب أنظمة وإنما حروب مجتمعات، لأنها تتعلق بقضايا وجودية . فحرب 1948 م تتعلق بمولد الكيان الصهيوني علي الأراضي العربية . المشروع  اللامشروع  الممتد من النيل إلي الفرات . ولا تزال خارطته قائمة علي حائط الكنيست حتي تاريخه . إذن فالصراع هنا صراع وجود وليس حروب أو مغامرات أنظمة . والحرب لم تكن بين العرب والكيان الغاصب وحسب، وإنما حرب إرادات عربية وإرادات كونية تسعي راغبة في زرع الكيان المغتصب في هذه المنطقة من العالم . ولعل قرار التقسيم الأممي خير شاهد علي ذلك، لأن العدل والحق لا يقولان بذلك .

وكذلك الحال في حرب 1956 م، فقد كان المجتمع المصري لا يزال يعاني أوجاع المخاض الثوري، وآلام التحولات الإجتماعية الحادة التي بدأت تتشكل معالمها، كشأن كل التحولات الثورية، وذلك في ظل وجود قوي رجعية مناوئة، جاءت الرغبة في بناء السد العالي، الذي سيحول نظام الري في مصر من نظام ري الحياض إلي نظام الري الدائم، وهو هنا يلعب علي وتر الحاجة الإجتماعية الملحة والضرورية . خاصة بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي وظهور الملكيات الصغيرة . وإزاء ذلك، لم تجد مصر بُداً من طلب تمويل المشروع من صندوق النقد الدولي، إلا أنها جوبهت بالرفض . وكأن الإرادة الدولية تستهدف إجهاض الثورة / الدولة، وإجهاض المجتمع الثوري الوليد حديثاً، بتعجيزه، حتي يظل ذيلاً تابعاً لقوي الإستعمار، سواء التي تغيب عنها الشمس في حينها، أو تشرق عليها الشمس بتشكلها في نوع جديد من الإستعمار بخلاف الإستعمار العسكري التقليدي .

ولما كان مشروع السد مشروع مجتمعي قومي، وكان لابد من تمويله، فكان لزاماً علي القيادة اتخاذ قرار تأميم شركة قناة السويس، لاستخدام إيراداتها في التمويل المستهدف، وكان فيه الذريعة الكافية لضرب الثورة، فانجلترا حملت عصاها الإستعمارية ورحلت عن مصر لتوها، وترغب في العودة لتأديبها، وفرنسا تعاني من مساعدة مصر لثوار الجزائر، وتريد الإنتقام منها، أما إسرائيل فحلم التوسع يداعب خيال قادتها . ومن هنا كانت حرب 1956م .

ثم كانت هزيمة 1967م . تلك الحرب التي لم يكن في الإمكان تفاديها أو تجنبها، إزاء عدو متربص، يهتبل أي فرصة للإنقضاض والقنص، تتكاتف معه قوي دولية مناوئة تضمن له التفوق العسكري علي الدول العربية مجتمعة . والدليل علي أنها كانت متربصة عسكرياً، أنها لم تأخذ الوقت اللازم للتجهيز لدخول المعركة، من إعلان التأهب، واستدعاء قوي الإحتياط، لأنها كانت جاهزة بالفعل . والجندي المصري لم ينهزم، وإنما أُخذ علي حين غرة، في ظل تفوق جوي للعدو غير مسبوق، ضمنه الغرب، وضمنته أمريكا . حيث فقد مظلة الحماية بضرب الطيران المصري في مرابضه، وضرب مطاراته . والنتيجة احتلال كامل سيناء، بعد تدمير وحرق أسلحتها . وأصبح الوجود المصري علي المحك بعد أن تقدمت إسرائيل خطوة واسعة نحو حلم إسرائيل الكبري باحتلالها ثلث مساحة مصر والجولان السورية، والضفة الشرقية لنهر الأردن .

ولأن الحرب ليست حرب نظام، وإنما حرب وجود مجتمعي، خرجت الجماهير الغفيرة في كل أرجاء مصر فور إعلان رأس النظام  عبد الناصر   تنحيه عن الحكم، تهدر أصواتها ببقائه، لأنها حتماً ستحارب، لأن معركتها معركة وجود . فهل في ذلك تمثيلية مفتعلة ؟ . أو مجرد هزيمة نظام يجري القبض علي عناصره ومحاكمته عسكرياً واستبداله بآخر ؟ . أم أنها حرب وجود ؟ . لا شك أن في خروج الجماهير علي نحو عفوي لمطالبة النظام بعدم رفع الراية البيضاء، والبقاء، وتجاوز الكبوة، والإستمرار في المعركة للتحرير، لدلالة واضحة علي كونها حرب وجود .

ومن هنا بدأت حرب الإستنزاف، وهي مواجهة من نوع غريب، بين جنود لاقوا الهزيمة منذ شهر  يزيد أو يقل قليلاً  بذات الجنود الذين حققوا النصر عليهم . فإذا بالطرف المنهزم يذيق الطرف المنتصر الويلات، من هول ما لاقاه الطريف الأخير علي يد الطرف الأول أثناء القتال المتلاحم من قوة شكيمة وصبر . ووقائع حرب الإستنزاف ملاحم سجلتها الجندية المصرية .

وكان لابد من حرب اكتوبر كضرورة وجود، بعد إعادة بناء القوات المصرية، وجاهزيتها لخوض غمار المعركة . والرجال الذين خاضوا معركة 1967، وحرب الإستنزاف، هم بذواتهم وشخوصهم الذين دخلوا حرب أكتوبر . وحققوا الفارق التكتيكي والإستراتيجي في أرض المعركة، وحققوا المفاجأة الإستراتيجية التي أفقدت العدو توازنه . وعبروا أكبر مانع مائي يُشوي لحم من يعبره بفعل مواسير النابالم الممتدة في قاعه، وحطموا خط بارليف الحصين الذي لا تذيله القنابل الذرية بقذائف الماء التي تم سحبها من القناة . وخاضوا أضخم معركة دبابات في التاريخ .

دعك من الكتب والمذكرات التي تناولت وقائع الحرب الصادرة عن الجانب المصري، ولكن انظر فيما ورد بمذكرات القادة الإسرائيليين من اعترافات . وانظر إلي تحقيقات لجنة أجرانات الإسرائيلية، وما أوردته عن المعركة من حقائق لا تخلوا من الإنحياز . وانظر إلي الواقع . فالقول بأن الثغرة في منطقة الدفرسوار تحهض النصر المصري، وتجعل المعركة متعادلة، قول مردود بالقول وما الذي دفع اليهود إلي سحب قوات الثغرة، إن لم يكن ذلك تجنباً للإبادة . النصر أبداً لم يكن إفتراضياً، ولا تمثيلية مفبركة، وإلا لما تكبدت إسرائيل كل ما تكبدته من خسائر . وما زالت المعركة مستمرة، وما يقال للشباب اليوم هو جزء منها .

 

حسن زايد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم