صحيفة المثقف

البقرة المقدسة

محمد العباسيالكثير من عامة الناس يرون أن ما يميز الجمهورية الهندية عن باقي دول العالم المتحضر، بعد موضوع الوجبات اللذيذة وأنواع البهارات المميزة، ينظرون للهند من زاوية موضوع أيمان الهندوس بالبقرة.. كونهم يرونها مباركة وذات قدسية ولها مكانة دينية خاصة.. بينما العالم لا يرى البقرة سوى قطعة ضخمة من اللحم والشحم ومصدراً للحليب والأجبان.. يبدو جلياً أن البعض يختصرون الحضارة الهندية في موضوع البقرة وما لها من شأن ومنزلة عند الهندوس اللذين يمثلون الغالبية العظمى من شعب الهند.. وتبقى البقرة نقطة الخلاف وموضع الإختلاف واللامنطق المتناقض مع أمم الأرض ممن يتناولون اللحوم البقرية حول العالم كل يوم !

لماذا البقرة دون كافة الحيوانات؟ ماذا عن الثيران والأغنام والإبل والطيور؟ فالجِمال مثلاً تتمتع بصفات ربما أعظم من الأبقار، لكن الهنود قرروا تكريم وحماية البقرة فقط (وليس الثور).. وقد قال "المهاتما غاندي" في هذا الشأن أن حماية البقرة أمر عظيم لدى المواطن الهندى، موضحاً أن الفكر الهندى عن البقرة يجعلهاً "أماً" للإنسان وأصل له، ولذلك وصفها "بأمه البقرة"، وجالبة الخير للبشر.. حيث قال أنها تفوق الأم العادية.. فهى تطعمنا من حليبها كل الأوقات وتفيدنا فى حياتها وموتها.. حيث نستفيد من كل شئ فيها حتى بعد موتها.. بل يقال أنه قال أن البقرة خير من الأم البشرية، لأن رعاية الأم عملية مكلفة، بينما البقرة لا تكاد تكلف الناس شيئاً !! أن يصدر مثل هذا التفسير عن فيلسوف عظيم في مكانة "غاندي" لهو أمر غريب.. فمثل هذه الأسباب تنطبق على كافة حيوانات الأرض التي يأكلها البشر.. بل وتنطبق أيضاً على الخيول والحمير وغيرها من أنواع الحيوانات والطيور المفيدة للبشر.

ولكن هنالك قصة أخرى توضح كيف بدأ الهنود في مسألة تقديس البقر وكيف بدأت هذه العبادة والتقديس وما الهدف منها.. وهذه القصة تقول أنه في أحد أزمنة المجاعة في الهند خاف الحكماء من أن ينقرض البقر من كثرة ذبحه فأقنعوا الناس أن يعبدوا البقرة حتى لا يذبحوها .. ومنذ ذلك الحين باتت البقرة مقدسة لدى الهنود فلا يجرأ أحد أن يتعرض لها أو يقف أمامها وهى تسير في الطرقات.. بل أصبح لزاماً علي جميع الهنود (الهندوس) أن يقدموا لها الطعام ويظهروا لها الاحترام والعبادة والسجود وأن يتبركوا بإطعامها وتدليلها وأن لا يزعجونها إلى أن تمضى في سبيلها إذا تهادت في الطريق أمام الناس والعربات .. وربما تبدوا هكذا قصة أكثر منطقية من سواها، رغم أنها ربما كانت حالة مؤقتة.. لكن تمادي بعدها الناس في إتباعها ومن ثم المبالغة في تطبيقها، حتى تحولت الممارسة إلى تقديسها! (رغم عدم وضوح تاريخ لهذه القصة).

غير أن في تاريخ البشرية عدد من القصص التي تكلمت عن بقرات مباركة أو مقدسة أو ذات شأن.. ففي حضارة الفراعنة عدد من المواضع التي كان فيها حديث إما عن بقرة مقدسة أو ثور مقدس.. وكذلك عند "الزرادشتية" نجد أن هناك العديد من النصوص والتعاليم المقدسة التي تدل على تطابق غريب مع ما سبق.. فـ"أهورامازدا" هو الخالق وإبنته هى البقرة وبالتالى هى من الآلهة والتى بفضلها تم منح البشرية سبب الحياة.. وهناك ما يؤكد هذه الأقوال فى الكتاب المقدس للزرادشتيه (الأفستا) مثل النص الذى يقول بتقديس روح الأبقار ووجودها فى مرتبة واحدة مع الإله:"هكذا نقدس روح البقرة وخالَق البقرة أرواحنا وأرواح الماشية تضمن سلامة حياتنا ولأجلهَما ستكونَ الحَياة" .. وأيضا هناك النص الذى يصور الثور (ذكر البقر) كالإله المانع العاطى الخالق للوفرة والنماء: "التحية لك أيها الثور السخى، التحية لك أيها الثور الخيّر، يا مَنّ تصنع الَوْفرَة والنمَاء، يا مَنّ يُمْنح حصته للَمْؤْمِن القَوِيم وللَمْؤْمِن الَذَّى لَمْ يوَلَدَ بَعُد" .. وأيضا هناك النص الذى يقول أن سبب الحياة للبشر هو البقرة: "نعَبَدَ سَلَّطَته عَظُمَته بَراعَتَه التى تُعَدَّ الأهَمَّ فى عِبادته نَحْنُ نحَيَّا بفَضَل البقرة" (موقع: شباب الشرق الأوسط).

و نجد عند اليهود موضوع عبادة العجل.. فنجد قصة السامري، وهى أشهر قصة تدل على إقتباس الديانه اليهوديه لعبادة العجل من المصريين القدماء.. ثم نجد قصة البقرة الصفراء وما تلتها من أحداث.. بل وفي القرآن الكريم نجد أن أطول سورة هي سورة "البقرة" .. ونجد قصص عدة تتكلم عن "البقرة المباركة".. فهي الذبيحة لدى الأديان الإبراهيمية وهي المحرم ذبحها عند الهندوس وهي رمز للإلهة "حتحور"، إلهة الحب عند الفراعنة القدماء .. فالبقرة دون شك حيوان ذو قدرة ربانية عظيمة جمعت ما في الأنعام بين أن تكون آكلة عشب ميسوراً غذاؤها يسيراً تذليلها، وبين أن تكون مخزناً دائماً ومصنعاً دائماً للحليب والسمن واللحم، ربما يتفق ذلك مع النص القرآني: "و َإِنَّ لَكُمْ في الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً، نُّسْقِيكُم مِّمَّا في بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ" سورة النحل" (موقع: اليوم السابع).

ونعود مرة أخرى لمعضلة شأن الأبقار في الهند.. فبحسب (موقع جريدة الحياة)، فتناول لحوم الأبقار يعد من أحد أبرز المشكلات التي تواجه الحكومات الهندية عموماً، فبينما يقدس الهندوس البقرة، تُعد لحومها وجبة رئيسية لدى المسلمين وبعض الفئات الأخرى، نظراً إلى رخص ثمنها مقارنة باللحوم الأخرى.. ومنذ وصول حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي القومي (المتعصب) إلى السلطة برئاسة رئيس الوزراء "نارندرا مودي"، شددت بعض الولايات الهندية القوانين المتعلقة بذبح الأبقار.. وأثار رئيس الحكومة المحلية في ولاية "هاريانا" الهندية والقائد البارز في الحزب الحاكم "مانوهار لال خطار" جدلاً واسعاً بعدما طالب المسلمين الذين يعيشون في الهند بالتوقف عن استهلاك لحوم الأبقار.. حيث أن "البقر يعتبر ركناً من أركان العقيدة الهندوسية".. وتحظر اليوم غالبية الولايات الهندية ذبح الأبقار التي يعتبرها الهندوس حيواناً مقدساً.

لقد أثار قرار حظر تناول اللحم البقري غضباً في الهند، خصوصاً لدى المسلمين والمجموعات القبلية الأخرى، بل وحتى عند طبقة "المنبوذين"، وهي أدنى الطبقات الاجتماعية الهندوسية، إذ يعتبرونها سلعة رئيسية لأنها أرخص ثمناً من لحوم الدجاج والسمك.. وقال "خطار" لصحيفة "إكسبرس" الهندية: "أنه في إمكان المسلمين أن يعيشوا في هذا البلد، لكن عليهم التوقف عن أكل لحوم الأبقار التي تشكّل ركناً من أركان العقيدة الهندوسية".. وأضاف: "حرية شخص ما تنتهي عندما تؤذي حرية شخص آخر.. استهلاك لحم البقر يؤذي مشاعر مجموعة أخرى، حتى دستورياً لا يمكن القيام بذلك.. الدستور ينص على أنه لا يمكنك الإساءة إلى مشاعري".

لكن حزب "المؤتمر" المعارض انتقد تصريحات المسؤول في الحزب الحاكم، قائلاً إنه "لا يحق لخطار الاستمرار في منصبه رئيساً لحكومة الولاية".. ولا يثير هذا الأمر غضباً لدى الحزب الحاكم فقط، إذ قُتل مؤخراً هندي مسلم يدعى "محمد أخلاق" (50 عاماً) وأصيب ابنه البالغ 22 عاماً بجروح خطيرة خلال هجوم نفذه ضده حشد هندوسي في ولاية "أوتار براديش"، على خلفية إتهام أسرته بتخزين لحم بقري في منزله لاستهلاكه.. وهاجم الحشد الغاضب الرجل وابنه بالحصى، ما أدى إلى مقتل الرجل وإصابة ابنه بجروح بالغة.. ونقلت صحيفة "إنديان إكسبرس" عن ابنة "أخلاق" قولها: "السكان هجموا علينا بتهمة وجود لحم بقر في بيتنا، فضربوا والدي وشقيقي ورموهما بالحجارة".. وأردفت أن العائلة علمت لاحقاً أن الأحداث نجمت عن اتهامهم من جانب المعبد الهندوسي المحلي بحفظ لحم البقر وأكله.. والقضية لا تنتهي مع مقتل رجل واحد، بل هنالك حوادث عديدة واعتداءات متكررة تتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بمسألة التعدي على الأبقار أو ذبحها وأكلها.. ويقال أن حوالي خمسة عشرون جريمة قتل وحشية وقعت في السنوات القليلة الماضية ضد فئات مختلفة من الهنود بسبب البقر.. بل وهنالك اعتداءات وقعت ضد بعض الأجانب ممن تم اتهامهم بإهانة بقرة ما، دون أي اعتبار لجهلهم بمكانة البقرة لدى الهندوس!!

وقد حظرت المحكمة العليا في الهند ذبح الأبقار في أغلب الولايات الهندية بما فيها ولاية "كشمير" ذات الغالبية المسلمة، ما دفع الانفصاليين إلى تنظيم مسيرة ضخمة احتجاجاً على الحكم.. وقال حزب "الشعب الديموقراطي" وهو الحزب الحاكم في ولاية "جامو وكشمير" أنه ينبغي على المحكمة العليا أن تترك للسكان حرية اتخاذ قرارهم في شأن ما يأكلونه وما لا يأكلونه.. ويعتبر ناشطون في الولاية أن حظر لحوم البقر يضر بالنسيج العلماني والحريات الشخصية التي تتمتع بها الهند.. لكن المحكمة العليا الهندية أيدت عريضة تطالب سكان "كشمير" بالامتناع عن ذبح البقر والتوقف عن تناول لحومها بناءً على قانون متوارث من أيام الاستعمار البريطاني للهند.

ويقال على لسان الزعيم الهندي "المهاتما غاندي": "كلما إتحد شعب الهند ضد الإستعمار الإنجليزي، يتم ذبح بقرة ورميها بالطريق بين الهندوس والمسلمين، لكي ينشغلوا فيما بينهم بالصراع الطائفي فيتركون الإستعمار يلهو ويعبث بمقدرات الهنود".. ولا تزال الهند تعاني من هذه المشكلة.. فبمجرد نشر بعض الإشاعات تكفي للتكالب على أي شخص وقتله بسبب بقرة.. فهل وصلت إنسانية أحفاد أعظم دعاة السلام والوئام في العصر الحديث إلى إرتكاب المجازر من أجل عيون البقر؟ أم أنها حال كل المتوارين خلف الأديان الذين يستغلون الشئون الدينية لإثارة النزاعات والتفرقة من أجل مصالح أخرى منها سياسية وقيادية ومادية؟

ففي الهند ديانات ومعبودات شتى.. فمنهم من يعبد البقر.. وأقوام تبني معابد للفئران.. وآخرون يقدّسون الفرج والعضو الذكري.. وغيرهم يعبدون النار.. وآخرون يعبدون الأفاعي.. وفي النيبال البعض يقدّس الكلاب.. وغيرهم ممن يقدّسون الفيلة والفئران.. والبعض يبني معابد تمرح فيها القردة والسعادين.. وبعض الحضارات الأخرى تعبد أو تقدّس الذئاب أو النسور أو الأسود وحتى الماعز.. ولكم أن تتخيلوا لو أن أصحاب أي من هذه المعتقدات آمنت بحقها في الفتك بكل من لا يتبع هواها وآلهتها المعبودة.!!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم