صحيفة المثقف

دميان.. قصة شباب إميل سنكلير

رحمن خضير عباستبدو رواية (دميان) للكاتب الألماني هيرمان هيسة، وكأنها معزوفة موسيقية تتغلغل في أعماق النفس البشرية، وتبحث عن إشكالاتها المتنوعة والمتصارعة، والتي تتقارب أو تتنافر في هارموني من الأصوات الصاخبة مرة، والهامسة مرةً أخرى . هذه الموسيقى التي تتسلل إلى أعماقنا، وتلتقط منها الجوانب الشرسة في حدتها، أو الأليفة في رقّتها، هذه الجوانب الإشكالية تختفي بين تضاريس الإنسان وأهوائه وأحلامه وأوهامه، وكأنّه قارة شاسعة، حافلةٌ بالكهوف والمغاور والسهول. ودميان تُمثّلُ رحلة طويلة في دروب الحياة ومنعطفاتها. وهي أشبه بالمغامرة المحفوفة بشتى الاحتمالات والتي عبٌر عنا الكاتب بقوله:

"حياة كل إنسان عبارة عن طريق نحو نفسه " أو في عبارته الأكثر إفصاحا : " كل إنسان بحمل آثار ولادته، لزوجة ماضيه البدائي وقشوره".

ومن المُعتقد بأن الكاتب قد كتبها، وكأنه يترجم حياته الشخصية منذ طفولته. وبعض التجارب الحياتية التي مرّ بها. وكان هيرمان هيسة متأثرا بنظريات فرويد لعلم النفس والتي ظهرت في بعض ثنايا عمله.

لذلك فقد نسج هيسة روايته من عدة فصول. تتمحور كلها حول حياة الطفل (سنكلير)، الذي ينمو ويترعر في ظل الأضداد والمتناقضات، بين مسارات حادة وشرسة، وبين ومسارات ناعمة ومنظمة ورتيبة . بين الجو العائلي الأرستقراطي والديني، والمشبّع بالقيم الدينية والكنسية. وبين الشوارع المفتوحة لكل احتمالات الفقر والرذيلة والكذب ومنطق الغاب.

ولكن هذا النمو، يتزامن مع أسئلة عميقة في دلالاتها، ومتجذرة في أسرارها . إنها الولادة العسيرة للطائر الذي يحطم قشر بيضته، وينطلق في هذا العالم المحفوف بالمخاطر.

يبدو الطفل سنكلير متأرجحا بين عالم النور الذي تمثٌله المؤسسة العائلية، وقِيَمِها الصارمة وبين عالم الظلام، الذي يتمثل فيما هو خارج نطاق البيت. هذا العالم المشحون بالموبقات وحكايات الخادمات واللصوصية، عالم القاع الاجتماعي المتصدّع والغارق في همجيته. ولكن الطفل يبقى حائرا بين هذين العالمين .

ففي أول تجربة له في المدرسة مع زملائه الطلبة. والذين يتحدثون عن بطولاتهم وحيلهم. فحاول أنْ يختلق كذبة كي يؤكد ذاته. ولكن كذبته تتحول إلى ورطة، يقع في شِباكِها، فقد أستغلّها زميله المنحرف فرانز كرومر. وظل يبتزّه ويطلب منه النقود،ويهدده بإخبار صاحب البستان الذي إدّعى الطفل سنكلير سرقة التفّاح. و يقوم بفضح سرقته . مما جعله يعيش صراعا نفسيا ويدفعه إلى السرقة الحقيقية من أهله كي يتخلص من ابتزاز كرومر.

وفي نفس الإطار يلتقي بشخص أكبر منه اسمه دميان . هذا الشاب ذو الملامح الغامضة. والفكر العميق والقوة في الشخصية . والذي يصفه بقوله :

" وجهه وجه رجل، وجه عالم أو فنّان " .

ويقول عنه أيضا

" لم يكن وجه ولد بل وجه رجل يحمل ندوب التأريخ، بل هو يبلغ ألف عام "

وسوف نرى بأنّ دميان سيترك أثرا كبيرا في حياة سنكلير، وطبيعة تفكيره. وقد أنقذه من سطوة كرومر بواسطة معاقبة الأخير، وتحذيره بعواقب وخيمة إذا ازعج سنكلير أو ابتزّه . لكنه يقاسمه أحداث ماتبقى من الرواية. فهو المخلِّص إو المنقذ . والذي يمتلك قدرات كبيرة في قراءة الأفكار . ولكن الذي يشدّه به ويجعله رفيق دربه ( علامة قابيل) . تلك العلامة التي تعبر عن قناعات إنجيلية، تتحدث عن أنّ الرَّبُّ ميّز قابيل بالعلامة رغم جريمته، التي تحميه من غضب البشر وكراهيتهم. ولكن العلامة التي وردت في الرواية، تنصبّ على مسألة الإرادة الحرة في تلمس الحياة والانغماس بها بدون مرجعيات لاهوتية، دينية أو كنسية . وأنّ القدرات والقابليات والرغبات الإنسانية، تتكون عادةً لتلبية الحاجات الحادة في الحياة . ويضرب مثالا عن ذكور الفراشات، التي تمتلك حاسة معرفة الأنثى من مسافات شاسعة، لندرة الأنثى. فَلَو كانت الأنثى متوفرة لما امتلكت الذكور هذه الحاسة .

كما يتناول مسألة الجنس فلسفيا، من حيث الرذيلة والفضيلة. وطريقة السيطرة على الغرائز، للتحوّل إلى عالم من الروحانيات .

في فصل آخر يلتقي بأحد الشباب الغامضين والضائعين، والذي يغوي سنكلير بتجريب شرب الخمر. وسرعان مايتحول سنكلير إلى محب للخمر، ومدمن منفلت عن ضوابط الأسرة وتقاليدها الصارمة . متمرد على نفسه وعلى المجتمع . ومن تلك اللحظة فقد تحوّل من طفل غرٍّ إلى مشاغب ومبتذل، حتى سُمِّي بالزميل الشيطاني من قِبَلِ أصحابه، ويصبح سنكلير محطّما وحزينا . وكان يتألم حينما يرى أقرانه، وهم يلعبون ببراءة الطفولة، فيعيش حالة من العزلة وتأنيب الذات ومقاطعة ورفض الجميع له، ولاسيما عائلته .

لكنّ بياتريس الفتاة التي وجدها في طريقه . استطاعت أنْ تنتشله من عالم الضياع .

يقول : إنه عاد إلى نفسه، كما فعل الدكتور فاوست، الذي باع نفسه للشيطان . ومن تلك اللحظة حاول سنكلير أن يسمو في عالم من الروحانيات. فكانت غايته التطهر وليس الغبطة.

وقد تحوٌل إلى فن الرسم في محاولة للاختباء فيه. ذلك الرسم العشوائي الذي يمتصّ طاقاته الحبيسة. فجرب ان يرسم وجه بياتريس . وحينما أنجزه، وجد أن الوجه يحمل ملامح مشتركة لبياتريس و دميان وكأنهما شخص واحد . وكأن سنكلير الذي عاد إلى رشده، قد وجد أمامه من جديد القرين والمخلِّص دميان. ولكنه كان يصرخ

" إنّ في أعماقنا شخصا ما، يعرفُ كل شيء ويرغب في كل شيء ".

الجملة التي كتبها له يوما صديقه دميان وهم في صالة الدرس عن الطائر الذي يكافح للخروج من البيضة. جعلته يعيش حالة من الحلم الممتد بامتداد اليقظة. ذلك البحث عن إسطورة (إيراكساس). فأصبحَ يتوقُ إلى العزلة . وفي أحد جولاته في الشوارع الخالية استمع الى موسيقى تنبعث من داخل الكنيسة. فبدأ يستمع اليها كل يوم رغم الأبواب الموصدة للكنيسة. وفي أحد الايام وجد الباب مفتوحا ليرى الشاب العازف للموسيقى (بستوريوس)، وكان شبيها لسنكلير في الانطواء على النفس . ويستطيع أن يمد أواصر الصداقة معه، ليكتشف بأن مشاعرهما متقاربة من حيث

" التوق والانصهار الكلي في العالم، والمجاهدة للتحرر ".

كان الحوار مع الموسيقي الشاب يُثري شخصية الصبي سنكلير، ويجعل روحه تحلّق في عملية الخلق المستمر للعالم، ينتابه إيمان تصوري بالقدرة على إعادة العالم بعد فنائه. " إذا كان العالم الخارجي سيدمر فإن شخصا واحدا قادر على بنائه ". ولكن هذا الصبي الموسيقار متشابه بأفكار دميان. هذا الموسيقي الذي أعاد لسنكلير الثقة بنفسه. والذي حدّثه عن أشياء كثيرة، ومنها خصائص الأديان التي تعني حماية الروح الانسانية من عبء ذنوبها . وهذا يقوده إلى اشكالية النبي يعقوب وكيف تَجرّأ وتمرد على ملاك الرب بقوله :

" لن أدعك تذهب قبل إن تُبارِكَني ".

في إطار سعي سنكلير للخلاص الروحي، يتعرف على أمّ صديقه دميان والمسماة (إيفا) عن طريق ولدها دميان الذي التقاهُ بعد قطيعة طويلة، حينما بدأ سنكلير حياتَه الجامعية . وقد وصفها كما تخيٌلها قبل أنْ يراها :

" بوجه شبيه بوجه ابنها، وجه خارج الزمن والعمر ومليء بالقوٌة "

إنها إمرأة تؤمن بقيم معرفية وفلسفية، تتحدث عن الحلم وإمكانية تحقيقه في حالة الإيمان به. عن الثقة بالنفس، عن الحب الذي يكتفي بنفسه، عن العلامة التي تجمع البشر، عن النبوءات .

وقد تعلّق بها وأحبّها بطريقة صوفية، فقد مثّلت له مزيجا من الأم والعشيقة والمثال الأعلى للكمال الروحي .

في الفصل الاخير.

يلتقي سنكلير بصديقه دميان بعد قطيعة طويلة . يبدو دميان في ذلك اللقاء أكبر من سنّه، مهموما ومحبطا. وكان شبح الحرب يجتاح أوربا، فأخبر صديقه بأنه سيذهب إلى جبهات القتال كملازم في الجيش . ويفترقان ولكنّ سنكلير جُنّد في الجيش دون إرادته . وفي الجبهات يتعرض إلى إنفجار كاد يودي بحياته. ولكنه كان يعيش في تلك اللحظة ذات الحلم الذي راوده ذات يوم، عن النجم البعيد الذي يصطدم به ويتناثر بين ذراته الضوئية.

ويستفيق ليجد نفسه في ردهة المستشفى. ويكتشف أن دميان يرقد أيضا في نفس الردهة كجريح حرب، وكان في نزعه الأخير أثر جروحه، فيودعه سنكلير الوداع الأخير، بعد حديثهما عن الحلم في كفاح الطائر، وهو يكسر قشور البيضة، ليصارع العالم الذي يحيط به.

لقد كان الكاتب الالماني هيسة في أوج تألقه الإبداعي، حينما كتب هذا العمل الذي يناهض الحروب، لاسيما وأنه شرع بكتابتها قبيل الحرب العالمية الأولى وأكملها بعد الحرب مباشرة .

لذلك فقد غادر المانيا التي لم ترحب بكتاباته، وقد قلل من شأن ابداعه النقاد الألمان في تلك المرحلة لأسباب سياسية .

في هذه الرواية يتناول العلاقة الفلسفية للدين والحياة. والعلاقة بينهما، ومسألة الحرية في اعتناق الفرد ما يريد ويؤمن، بمعزل عن القواعد الجاهزة والمفاهيم المقدسة .

هذا الفرد الذي ينصهر ويتلاشى ضمن أُطر ودلالات تحيط به إلى حدّ الاختناق . وقد تناول الكثير من المفاهيم الكنسية برؤية مغايرة. لذلك طفحت الرواية بالكثير من الرموز الدينية. والأساطير كمشكلة فاوست الذي رهن نفسه للشيطان. وقضية النبي يعقوب وتمرده، ومذهب إركنساس ذي الأصول الإغريقية القديمة والذي يعتمد على رموز رياضية. كما تناول خطيئة قابيل والعلامة التي تمنح لبعض البشر كي يصبحوا متميزين في الفكر والوعي والسلوك. وحتى اختياره للأسماء ومنها دميان والذي هو تحوير ل (ديمونز أو الشيطان) كما يرى البعض.

وكذلك إيفا وهي أم دميان التي تعني حواء أم البشرية.

إنها رواية تكتنز بالرؤى والأفكار والمفاهيم. كما أنها تمثل ما وصلت اليه المعضلة الأوربية في ظل غيوم الحرب التي خيّمت على إوربا آنذاك .

وقد استطاع الشاعر والأديب المترجم ممدوح عدوان، أن يحافظ على الشفافية اللغوية التي اشتهر بها هيسة.

فقدم للقارئ هذه الترجمة الجميلة. لرواية رائعة، مُثيرة للإعجاب .

 

رحمن خضير عباس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم