صحيفة المثقف

الكاتب والسلطان.. صراع الأفكار والاشخاص

احمد بابانا العلويبعث أحد أمراء الصين بعض رجاله الى الحكيم "تشوان– تسو" فاخبروه، برغبة الامير في ان يتولى الحكيم منصبا رفيعا في الدولة .. وبعد صمت طويل صرخ الحكيم في رجال الامير قائلا: «انني اختار ان اجرجر اذيالي في الاوحال كما تفعل السلحفاة..»

وتنطوي هذه الحكاية على الغاز كثيرة أبرزها وأقربها الى التناول أن الحكمة تأبى القيود، وإن كانت من الذهب..

ذكرتني هذه الحكاية للحكيم الصيني الذي عاش في القرن الرابع قبل ميلاد المسيح عيه السلام..

بقصة الكاتب الصحفي (المختفي) «جمال خاشقجي» الذي خرج من بلاده حيث تبوأ مكانة مرموقة وتقلد مسؤوليات هامة جعلته مقربا من السلطان الحاكم والمحيطين به من الامراء النافذين .. ثم فجأة جاءه أمر من ولي الامر الجديد، بالتوقف عن الكتابة، فضاقت به الارض بما رحبت .. فخرج الى ارض الله الواسعة، طلبا للحرية التي تمكنه بان يقول رايه ويمشي، دون حسيب اورقيب من احد مهما كانت سطوته وجبروته وطغيانه..

بعيدا عن السياسة وما يلابسها من مداهنة ومواربة وزلفى، والسلطان وما يرافقه من غطرسة وتهديد.. وكل ما  يتنافى مع الفكر الحر الذي ينبض بالحياة والصدق ويدعو إلى يقظة الفكر والثورة على الظلم والطغيان والإستبداد..

فرسالة الفكر تستنير بالحرية.. والكتاب الاحرار هم الذين يلتزمون بالقيم والمثل البانية للارادات الحرة. فالحرية تعبير عن قدرة الارادة على الفعل ووسيلة يحقق بها الفرد والمجتمع اهدافه، في التحرر والانعتاق والتقدم..

فمسالة الحرية جوهرية في الاجتماع الانساني عامة، وايضا في المجتمعات العربية الاسلامية المعاصرة..

وكلمة الحرية من اكثر الكلمات استعمالا في القاموس السياسي الحديث.. وتستعمل مرادفة للاستقلال والديموقراطية والتنمية..

ولمفهوم الحرية اهدافا متباينة: حرية الفرد وحرية الطبقة وحرية الاقلية في مقاومة الاغلبية والامة في مصارعة اعدائها.. والمطالب بالحرية يلجا الى مبررات دينية او تاريخية او فلسفية يتوخى منها إثبات المطلب من الحرية .. فالذي ينشد الحرية يتطلع الى التحرر والانعتاق من الخضوع لسلطان مطلق يكرس حكم الفرد او حكم اجهزة او عصبية او طبقة..

فاساس الحرية الاختيار واول (مظهرها الارادة) ومنها تطل كل الحريات الاخرى .. فالشعور الفطري هو اثبات للوجود الذي هو عين الحرية.. ومن هنا كان المفهوم الاسلامي للحرية عند التطبيق واجب التحقيق، وليس مجرد حق من الحقوق فقط .. والواجب قانون عقلي تامر به الارادة في شخص فاعل اخلاقي.. والعمل الاخلاقي الذي ترمي اليه الحرية عن طريق الاستقلال الذاتي انما هو المواءمة بين العقل وبين الارادة .. وغني عن القول ان الانسان يتحرر بارادته واختياراته..

فعملية الاصلاح والتقدم تعبر عن ارادة الناس من اجل العمل على تحقيق امانيهم وامالهم..

والحرية تشمل تحرير العقل وتحرير الفكر والارادة والعمل.. لكي تكون السيادة للقانون الذي يعبر عن ارادة المواطنين ويدين له المجتمع بالولاء المطلق .. ويجعل من الحاكمين مجرد موظفين وخدام لمصلحة المحكومين..

فرسالة الفكر هي ارساء لقواعد الحرية، والدفاع عن مبادئها، وقيمها الانسانية الخالدة..

و تاريخ الانسانية هو تاريخ الحرية، لانها الغاية التي تسعى اليها  لبلوغ أعلى المراتب في المدنية والتحضر والعمران البشري  واطراد التقدم ..

ويسجل التاريخ ان الصراع في المجتمعات التقليدية بين عالم الافكار وعالم الاشخاص يستند على الافكار لمواجهة الاستبداد والحكم الديكتاتوري الذي يضطهد المفكرين وقادة الراي الذين يدافعون عن الحرية باعتبارها الامل في نجاح رسالة الفكر في التنوير ودحض الطغيان..

بهذا الصدد يرى الاستاذ عبد الله العروي في كتابه «مفهوم الحرية» بان اتساع نطاق الدولة في المجتمع العربي الاسلامي ادى الى اتساع الوعي بضرورة الحرية المجردة المطلقة وغاب عن الاذهان البدوي كحامل مشعل الحرية والاصالة والمحافظ على الاصالة، والمروءة والفصاحة.. لذلك اصبحت البداوة مرحلة تجاوزها التاريخ.. (ص.29)

وقد نشا عن تقوية الدولة نزوعها الى الاطلاق والشمول كما نتج عن ذلك ايضا الضغظ على المجتمع والافراد.. واعتبر كل فرد حر مستقل عدوا للدولة.. وكلما اتسع نفوذ الدولة، ارتبطت الحرية بالدولة وكثرت التشريعات التي تنفي الحقوق الفطرية والكونية للانسان..ومن المسلم به ان أسوأنظم الحكم النظام الفردي المطلق ..

فمن واجب الدولة ان تكون  الضامن للحريات  الفردية والجماعية، لا ان تكرس العبودية. لقد ترتب عن هذا الوضع رفض الافراد للحكم الشمولي الذي يمكن الدولة من السيطرة على مناحي الحياة ومقدرات المجتمع..

فالفرد يريد ان يكون له دور في الدولة يتيح له المشاركة في الشان العام باعتباره، مواطنا يتحمل مسؤولية في المجتمع .. ويساهم بعلمه وعمله، ويكون  له حق التصرف اللامشروط .. والمشاركة في قضايا المجتمع..

ان التطورات السياسيية والاجتماعية التي يعرفها المجتمع العربي الاسلامي سوف تجعل الدولة التقليدية المركزة في سلطاتها واتساع مجالها غير ملائمة للاوضاع الجديدة المطبوعةبالتطورات الحضرية والعمرانية وانتشار مفهوم الحرية في مجال الادراك وفي مجالات المخاطبة والتعبير .. ورفع شعار الحرية في جميع ميادين النشاط الانساني من اجل تحرير الانسان من الاساليب العتيقة.. ومن هنا جاءت الدعوة الاصلاحية باسم الحق والمصلحة، لان الامر مرتبط باصلاح سياسات الدولة ونظامها لكي تتلائم مع التطورات الاجتماعية .. فلا بد من ربط التطور الاجتماعي بالتطور السياسي، والخروج من بنية الدولة والمجتمع التقليدين .. لانهما يعيقان حركة التطور والتقدم ..

فدعوة الحرية مرتبطة بالاصلاح الذي يهدف الى الانعتاق من الاستبداد..ومشاركة الشعب في الحكم..

ومن ناقل القول ان حاجات المجتمع تولد من صميم ذلك  المجتمع .. اذا ما وجدت منظومة فكرية منبثقة عن مفهوم الحرية.. وهذا ما ادركه المرحوم «جمال خاشقجي» عندما هرب من الاستبداد بحثا عن فضاء يفكر فيه بحرية..

ان شرط الرجل المثقف في كل عصر، ان يطبع عصره ويلازمه في تفكيره وعمله، كما يلازمه،في نظرته الى العالم من حوله، فلا يعيش في الزمن الحاضر بعقل الزمن الماضي، ولا يترجم الواقع بلغة الوهم والخرافة..

 

أحمد باياتا العلوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم