صحيفة المثقف

السيد يوهان

قصي الشيخ عسكر"كثير من النهايات تأتي عكس مانتوقع"

توقفت عن دلك جسد أنميتا التي لم تصمت عن الصياح بجملتها المعهودة كلهم أشرار أنا أعرفهم ونفضت يدي من رغوة الصابون حين دخلت الحمام مديرة الدار لتخبرني أن هناك شخصا على الهاتف يطلبني .توقعت أنها تيرينا لكن صوت مريته هولم جاءني متهدجا حزينا على غير ماعرفته عنها من مرح ولطف:

- مات السيد يوهان!

- ماذا تقولين؟

اليوم زارته الممرضة شأنها كل أسبوع فوجدته...

- أين تيرينا؟

- غادرت مكان العمل إلى المشفى.

لم أكن لأصدق الخبر فقد غادرت شقته أمس وهو بأحسن حال كأنما الموت ابتعد عنه سنين طويلة وكانت الأيام تسرع كحصان يصعب كبح جماحه، وأنا أراقب صحة يوهان المتردية ثم فجأة انتفض بصحة لاغبار عليها.. الحق أذهلني منظره وهيئته .خدان متوردان، حيوية مفرطة ونشاط غير معهود حتى إني رفعت بصري إلى الصورة القديمة للطيارين اللاجئين متأولا وجوه أحدهم فيه.هاهو يستعيد شبابه فلا شك إنه يحقق معجزة الحياة من جديد.لحظتها تذكرت زهوي.. إنك تموت بهذه العجالة أمر بعيد عن الاحتمال ولعل علاقتي الجديدة بحفيدتك منحتك أملا دفعك خطوة باتجاه الحياة.منذ تلك الليلة التي باتت عندي واتصلت بك من شقتي صباح اليوم التالي عبر الهاتف والتفاؤل والبسمة لايفارقان وجهك كأنك تشكرني من أعماقك. قلت أطري على تحسنك المفاجيء:

403 صي عسكر- أستطيع الآن أن أطمئن عليك فقد بدأت تستعيد نشاطك.

- غدا تأتي الممرضة لتجري علي معاينتها الأسبوعية وتبدي ملاحظاتها.

- آمل أن تكون الأمور أفضل وأفضل.

لو ثبت أني قهرت المرض لدعوتك إلى السفر معي هل تحب رؤية اليونان؟

فتذكرت أمرا وقلت:

- إنك لم تسافر قط ولاتحب السفر.

فهز رأسه وقال بأسف:

- أعترف أني كنت مخطأ. لاحت لي أكثر من فرصة لرؤية العالم .. هناك مناظر كثيرة في الدنيا علينا أن نراها فلو عدت إلى سن الشباب لغيرت نصف قناعاتي!

أما أنا ياسيدي لو رجعت طفلا لغيرت كل مفاهيمي!

وغادرت شقته وألق الحياة يتوهج في عينيه وينفي كل تخرصات الموت.. ناسيا أنها صحوة لاتبعث الريبة حطت على خديه وهومت فوق عينيه تهويمة صيف عابر ينوء بشمس مشرقة سرعان ماتنهار تحت وابل من الغيوم فيتلاشى دفؤها بعد دقائق وتذوب بموجة برد تزيدها هياجا لفحة رطبة الملمس وسماء اكفهرت بالضباب قبل الأوان.

قبل وصول الجثمان وقفت بباب المقبرة وكان كل شيء مألوفا..الغربان التي تلتقط الحب وترفع رؤوسها بين نقرة وأخرى تتطلع شأنها كل مرة في عيني أي عابر.. حمام بين أغصان كثة لأشجار عملاقة يطلق نواحا معهودا في كل زمان ومكان. أوراق مصفرة مخضرة تنثال من الأغصان وتتكدس على الرصيف. سيارات تذهب وتأتي.. مارة.. راكبو دراجات.. علم بالمنجل والمطرقة يرفرف من جهة محطة أستر بورت... آخر يخفق بالنجمات الخمسين نحو البحيرات.. مناظر عند تقاطع الطريق متنافرة لايجمعها إلا تلك المقبرة.

لم أذهب إلى البيت حالما غادرت مكان عملي.فلم يتطلب الموقف أن استأذن المديرة في إجازة طارئة غاية ماعرفته من مريته هولم أن السيد يوهان فارق الحياة في الساعة التاسعة مساء قبل أن يتمكن من ألاتصال بالإسعاف أو حفيدته. مات جالسا في مكانه المفضل، وسوف تنتظر تيرينا الجثة حتى تبرد فتعود معها .

وشخص بصري من داخل المقبرة إلى الشارع. كنت أتحاشى الوقوف على الرصيف خارج بابها الرئيسي.شكلي الشرقي.. سماتي.. لوني الأسمر لعل صفاتي تثير شكا من قبل حراس السفارة. لم أبال قط بالسفارة السوفيتية فهي بعيدة عن باب المقبرة والطريق العام لكني فضلت الانزواء في الداخل قرب الباب ومراقبة الشارع وإن دفعني الفضول أحيانا إلى أن أرفع رأسي وأحدق في جهاز من جانب السفاره ظننته آلة تصوير حتى استبدت بي الهواجس فتوقعت أن يقتحم علي المكان رجل أمن يسألني عن سبب وجودي في هذا المكان وبقائي مدة طويلة.

تلك اللحظة توقفت سيارة أجرة مقابل الباب، وهبطت منها مريتا هولم، فهرعت إليها. كانت تلف وجهها بشال أسود خفيف شف عن تاثرها وهي تقول:

- النعش في الطرق.

ومشينا باتجاه القبر الفارغ الذي فتح شدقة لاستقبال جثة جديدة وقارورة رماد، وماهي إلا دقائق معدودة وأجدني واقفا بين امرأتين متشحتين بالسواد يغطي وجهيهما برقعان أسودان خفيفان وامامي الحارس بنت والقس الذي راح يرتل ترتيلة تتغير في مقدمتها الاسماء كل يوم ولاتتغير سطورها أبدا:

يوهان ماترلنك

جئت من التراب

وإلى التراب تعود

فليتغمدك الرب برحمته

آمين

كان التابوت يهبط في حفرته ببطء كعلم ينحدر من ساريته العالية بمناسبة حزينة فتعالى نشيج خافت مخنوق من تيرينا في تلك اللحظة القاسية البطيئة تلاشى كل شيء في الضباب المتراكم كالكفن..السندباد المغامر انصهر مثل دوامة خاوية وعبدالله اللوريني قتل بانفجار لغم وتناثرت جثته..ضجيج السيارات ..غاب نواح الحمام..نظرات الغربان.. حفيف الأوراق الصفراء المنفلتة من الأغصان.. نباتات الوبيليا الزرقاء المائلة الرؤوس نحو شمس مجهولة..حشرجة المجرفة وهي تهيل التراب على القبر حتى حروف الشاخصة التي اتبثقت مثل نافورة عند رأس الميت:

يوهان ماترلنك

  1/4/1917   15/10/1985

تلك اللحظة التي خيم فيها السكون على المقبرة التي استقبلت جثة جديدة كان كل شيء يمكن أن يتلاشى سوى الموت.. الموت وحده ولاشيء سواه.

كوبنهاغن 1986

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم