صحيفة المثقف

التدريس والتعليم وأهمية التثقيف

محمد العباسيفي العام 1992 نشرت مقالة في "جريدة أخبار الخليج" في ثلاثة أرباع صفحة عن مقترح موجه لكل من يعمل في مجال تعليم اللغة الإنجليزية، بالذات لمن بيدهم تصميم وإختيار المناهج والمواد التعليمية في هذا المجال.. وكان لب موضوعي هو العمل على تثقيف المتعلمين بأهمية دور اللغة الإنجليزية، ليس فقط كمادة يجب إجتيازها لتحصيل الدرجات وإجتياز المقررات، بل كمهارة تطبيقية لا بد لنا منها في الكثير من مناحي حياتنا، طوال حياتنا المستقبلية. فليس كل المواد التي يتم تدريسها تقع في ذات الخانة، ولا كل المواد التعليمية مجردة لا يشعر معها المتلقي أنها لا ترتبط بالواقع وتفتقر إلى أبسط القناعات بأنها مملة وغير مفيدة كما يعتقد الكثيرين من طلبتنا في أعمارهم الصغيرة.. فبعض العلوم تلعب أدواراً مهمة ومن المفروض أن نعمل على تنمية الوعي لدي المتعلمين اللإلمام بفائدتها منذ المراحل الأولى.. وعلينا كمعلمين أن نعمل بصدق على تبيان وإيضاح وتثقيف المتعلمين بالجوانب التطبيقية لهذا المعارف عبر أمثلة وإستخدامات وشرح الظروف والمناسبات التي قد نحتاج فيها لهذه العلوم.

فلا يكفي أن تتسمى بعض المعاهد والجامعات بمسميات مثل "التطبيقية" أو "التقنية" أو "الفنية" أو "المهنية" في حين لا يلتزم فيها القائمين عليها بإتباع الطرق الصحيحة والأساليب الناجعة في تطبيق هذه المسميات في فصولهم الدراسية.. وقد يتفق معي الكثير من الأكاديميين بأن كليات التربية في دولنا تفتقر للكوادر المؤهلة لإعداد مثل هذه المخرجات القادرة على تطبيق هذه المهارات.. فطلبة كليات التربية هم في آخر المطاف نتاج سنوات من التعليم الجامد في المدارس.. وجل علمهم يكون عبر مطالبات بالحفظ والتلقين.. لذا يأتون للجامعات حاملين معهم تجاربهم، وبالتالي يواصلون التحصيل بنفس الأساليب العقيمة، وهكذا يواصلون المشوار بعد تخرجهم وعملهم كمدرسين مجرد ملقنين للأجيال اللاحقة.. وبالذات حين يرون في مهنة التعليم مجرد وظيفة ودوام ومصدر رزق لا أكثر.

فمثلاً، أختي الأكبر سناً تخرجت من "معهد المعلمين" كمدّرسة للتربية الفنية (الرسم)، ولها في هذا المجال رسومات جميلة.. وأنا أيضاً أحب الرسم وقد رسمت لوحات كثيرة فيما مضى.. وأجمل ما سمعت منها قولها أنها مجرد مُدّرِسة للفن وأنني بالمقابل "فنان".. أي أنها كانت ترى في لوحاتها إلتزامها بأساسيات المعرفة بالألوان والأبعاد والتقنيات الأكاديمية في هذا المجال.. وترى في لوحاتي أنا مساحات واسعة من الإبداع والحرية والإنطلاق دون حواجز وقيود. وربما دفعتني ملاحظاتها تجاه أعمالي الفنية نحو الشعور بأهمية التفريق بين عمليتي التعليم والتدريس! ومن هذا المنطلق عملت في المجال الأكاديمي لأكثر من 30 سنة معتمداً على أن تكون محاضراتي ترتكز على عملية التعليم الممزوج بجرعات ممتعة ومرتبطة بالنواحي التطبيقية والعملية والحياتية.. ومن ثم كانت دراساتي العليا وبالذات بحوثي للدكتوراة تنبع من ذات المنطلق.. فكانت رسالتي حول "سيكولوجية تعلم اللغات"، وأساس بحثى كان حول مفهوم "الدوافع الإيجابية" لتعلم وإكتساب اللغة الإنجليزية في بلداننا.

لذا أرى فرقاً شاسعاً بين عمليتي التدريس والتعليم.. فالتدريس عملية مرتبطة بأساسيات تلقين المتعلم مناهج ومواد معينة ومحتوياتها المقننة، وفي أحيان كثيرة تكون عملية محددة غير قابلة للتوسع والإبداع، بل إلتزام تام بحرفية المناهج وربما حفظها عن "ظهر-قلب" بهدف إجتياز إمتحانات محددة المخرجات والمعلومات.. بينما أري في التعليم مجال واسع من الإبداع وحرية التفكير ومجال مفتوح للخروج من الإطار المحدد للمنهج، وتشجيع النقاش وتبادل الأفكار وممارسة وتقييم المعلومات عبر مجالات تطبيقية عملية في كافة المجالات الحياتية.. هكذا تعلمت من أختي وأنا في مقتبل العمر أن هناك فرق بين الأمرين!!

فحسب موقع "موضوع" الإلكتروني في الفرق بين التعليم والتدريس: "تسعى كليّات التربية الحديثة إلى إخراج معلّمين قادرين على مواكبة تحديات العصر واستغلالها فيما هو مفيد وفعال في العملية التربوية، ومهما كان من الضروري للمعلّم أن يمتلك من مهارات سلوكية ومهنية عالية، يجدر به أن يمتلك المحتوى والمخزون الثقافي التربوي للمصطلحات العلمية للسلوك الاجتماعي التربوي، حتّى يستطيع تحديد نوع أي سلوك سيواجهه خلال حياته المهنية وترجمته بما يتوافق والنظريات التربوية التي تعلّمها ليستفيد من هذه النظريات لحل ما يواجهه من مشكلات تربوية، خاصة أن المعلّم يواجه أكثر من غيره مشاكل تربوية سلوكية فيقع في حيرة عن كيفية تخطيها بما يتفق مع الطبيعة البشرية التربوية، وبما أننا في صدد الحديث عن المصطلحات التربوية فإن أهم المصطلحات التي يبدأ المعلمون الطلاب في معرفتها هي التعليم والتدريس".

و أنا أميل بين هذين التعريفين إلى مصطلح "التثقيف".. فعملية التثقيف تتمتع بخاصية فتح المدارك لدي المتعلم لينهل من كافة المصادر المتوفرة والمتاحة جوانب غير محددة المعالم، والخروج من الإطار الضيق للمنهج بكل جموده والمادة العلمية في إطارها الضيق.. أرى أنه في حين أن مصطلح التدريس ينبع من الإلتزام بالمنهج، فمصطلح التعليم يتوسع في مناقشة كافة التفاصيل وهو أقرب إلى كسب ثقافة منفتحة حول المواضيع من زوايا ومناحي مختلفة ويحمل المتعلم للتفكير والبحث والمناقشة.. ومثل هذه العملية في الفصول الدراسية تتطلب من المعلم ذاته أن يتمتع بسعة أفق لتقّبُل الآراء وتوقع الخروج بحرية عن الإطار المحدد للمنهج. هذه مهارة قد لا يتمتع بها المتدربين على أيدي معلميهم المنتهجين للطرق القديمة في التلقين والجمود.. أي أن "فاقد الشيء لا يعطيه".. بل هي عملية تستوجب الإعداد السليم لتخريج معلمين يتمتعون بدرجات عالية من الثقافة حتى ينجحوا في تثقيف الأجيال اللاحقة.. وعملية كسب الثقافة تتطلب مهارة خاصة من الجانبين ودرجة عالية من السماح للإبداع والتفكير الخلاق وفتح المجال لتباين الآراء وتقبّلها بشكل إيجابي منفتح.

فلو نجحنا في مساعينا لتعليم اللغة الإنجليزية على أساس أنها مهارة سيحتاجها المتعلم في حياته القادمة وأنها أداة لا بد لنا من إكتسابها لأنها مهمة في عمليات الإستزادة من مناهل العلم ومهمة في الأسفار حول العالم، وأنها متطلب أساسي في أغلب التخصصات الجامعية، بل ومن أهم متطلبات القبول لدي أغلب الجامعات المحلية والعالمية، ومن أهم وأول المطالبات للحصول على وظائف مرموقة، لما فرطّنا في إكتسابها منذ المراحل الأولى.. فالطالب الغر لن يعرف ولن يقّدر أهمية اللغة الإنجليزية إذا لم نساعده على الإقتناع بكل الإستخدامات لهذه اللغة، بالذات إذا كانت بيئته لا تتعدى أصداقاء "الحارة" والمنزل العائلي، حيث لا يجد لهذه اللغة إستخدام ولا أهمية.. لكن لو نجحنا منذ البداية عل تنمية عامل "الدافع" عبر دفعه لإستخدامات تطبيقية لممارسة هذه اللغة، وأجبرناه أحياناً على القراءة والكتابة، والتحدث بها في الفصل الدراسي بشكل جاد، سيجد المتعلم هدفاً يجبره على إكتسابها.

فتعلم اللغات لا بد لها من بيئة تدفع المتعلم لممارستها لتنمو.. لذا يلجأ البعض لإرسال أبنائهم للعيش مع عائلات في بريطانيا وأمريكا حتى يضطرهم الوضع لممارسة اللغة الإنجليزية ونمو الدافع لإكتسابها بفعل الإضطرار لتفادي المواقف المحرجة مثلاً.. فبعض الدوافع السيكولوجية تنشأ عبر الترهيب، وإن كان البعض يراها سلبية نوعاً ما، غير إنها دوافع فعالة للتعلم والممارسة، وتكون نتائجها إيجابية في نهاية الأمر.. حيث يجد المتعلم كم هي مفيدة هذه اللغة لأنها تجنبه بعض المواقف الغير سارة، بل وتساعده للإنخراط في حوارات مع الآخرين دون خجل، وبالتالي تتطور لديه مهارات وإستخدامات لم تكن على باله وهو "محكور" في إطار عائلته وأصدقاء الصغر.. بل سيجد أن هذه اللغة تفتح أمامه أبواباً ومجالات وإهتمامات ربما فشلت المدرسة في شرحها له في مراحل التعليم المبكرة!

وفي عالم اليوم لا بد لنا من تعلم اللغة الإنجليزية كمثال للولوج في مواقع التواصل الإجتماعي والمواقع الإلكترونية ومجالات البحث عن المعلومات وكتابة البحوث الأكاديمية. وهنا أيضاً أعود ثانية لمصطلح الثقافة.. فالثقافة السليمة هي التي تقنن لنا الإستخدام الأمثل لهذه المواقع المفيدة والغنية، وهي التى تقودنا عبر دهاليز العالم الإلكتروني وحسن الإختيار ما بين "الغث والسمين".. فمفهوم الثقافة أنها لا تعبّر بالضرورة عن كم المعلومات بل ماهيتها وكيفية التعامل والتفاعل معها، وكيفية تطويعها والإستفادة منها في مجالات الحياة. فالمثقف الواعي ينجح في التفاعل حتى مع المعلومات الجديدة عليه، ولا يأخذ بها كمسلمات مفروضة، بل يقييمها ولنقل "يروضها" حتى يسبر أغوارها ويفهم أسرارها ويقرأ ما بين سطورها ويفسرها ومن ثم يستفيد من مفيدها ويفند ما سواها. وهكذا أرى أن سر التعليم يقع في إعداد المتعلم لكسب المعارف، بينما التدريس يتلخص في جمع وحفظ كم معين ومحدد حسب فصول المناهج، بقدر يسير (إن كان في أحسن الأحوال) من المرونة والتفقه!

ففي مقالتي في 1992 ركزت على مسألة تعليم اللغة الإنجليزية خارج المنهج الدراسي المعتمد وعارضت التعامل معها كمادة دراسية جامدة تتبعها إمتحانات ورسوب ونجاح، بل التعامل معها على أنها مهارة لا بد من صقلها وممارستها.. مع التأكيد على ضرورة تثقيف الطلبة وتنشئة وعيهم نحو أهميتها لهم ومجالات الحاجة لها في مستقبل حياتهم.. فالثقافة في اللغة تدل على حسن المنطق وفطنة الإنسان، وذلك لأن الشخص المثقف هو الذي يتعلم أموراً جديدة وعامة كل يوم في إطار معرفي شامل يفيد به نفسه والآخرين، وبذلك تكون الثقافة إحدى مكوّنات السلوك الإنساني الذي يساعد على تحديد طريق الإنسان والتفاعل السليم مع كل شيء من حوله.. فثقافة الشعب هي أهم من كمية علمه، ففي ثقافته تجتمع المزايا التي تجعله مختلفاً عن غيره وتمنحه الخصوصية في العادات والقيم واللغة والممارسات الحياتية والتطور الحضاري.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم