صحيفة المثقف

المقصفُ الملكيّ

قصي الشيخ عسكرالأربعاء

 9/1/1976

للمرة الأولى أدخل هذه الحانة.

قد يكون ضجري .. ..

 أو مجرد العنوان .. طريق ضيق متفرع من شارع الحمراء وإذا بي أفجأ بهدوء وصخب لطيف شفاف يذوبان معا فاستريح على ضفافهما وقد توقفت لحظة عند إحدى الأغاني. كان الزجاج المعتم يفتح شدقه فيدفع إلى الرصيف أحد الزبائن و يرسل لي أغنية عراقية كادت تشرف على نهايتها أو انتهت.

"المقصف الملكي" لمحت اللافتة المشرئبة نحو السماء الملبدة بغيوم مبهمة الملامح، وحانت مني التفاتة إلى الداخل قبل أن يعود شدق الباب للانطباق من جديد فيحجب عني السمع والرؤية، لتختفي من أمام عيني إنارة خافتة . ودكة ووجه فتاة أكاد أميز سحنته السمراء عن بعد، وصفوف تربعت فوقها قنان زاهية الألوان.

لحظتها كانت بقايا الأغنية العراقية تذوب بهدوء وراء الباب، وقد فقدت رغبتي في الذهاب إلى مقهى يطل على الساحل كما خطر في ذهني قبل أن أغادر البيت.

ربما مررت بالمكان أكثر من مرة وفاتني أن ألتفت إليه حتى جذبتني أغنية سالت مع السراب فدفعني الفضول للانعطاف نحوذلك المقصف الذي رأيته يلوح على بعد خطوات مني كنبع صاف يغري العابرين بالوقوف عنده والتلذذ بمائه العذب.

 كانت كلمات الأغنية القديمة تغسل بعض التعب عن وجهي وتمسح من يدي بقايا الحروف التي تدغدغ أصابعي طوال النهار. الحروف تتناوشني من كل مكان. في المطبعة الحبر الأسود والحروف. الكلمة تلك . السطر هكذا. مئات الكلمات تمر بي فلا أتذكرها. والحوادث كثيرة استوعبها فأنساها. وهناك لحن قريب .. شيء ما يشدني إلى الماضي .. أغنية ربما سمعتها عشرات المرات فلم التفت إليها:

عمي يابياع الورد

كل لي الورد بيش

لم لوحَّت لي الأغنية بنهايتها واختفت؟

كيف مرَّت بي في هذا الوقت الملبد بالغيوم؟

أين أذهب إذا ماتغيرت لبنان؟ هل أبالغ في هواجسي؟ الحوادث كثيرة مثل الحروف التي تستوعب أخبار العالم وخواطر الناس. البلد على وشك أن ينفجر. احتقان على الوجوه، وغضب في العيون.وأنا يكاد الفراغ والقلق يأكلاني كأن الأغنية تدعوني للدخول .. تمد إليّ ذراعيها. "المقصف الملكيّ" .. واحة أم مقصف. لايهم .. عنوان أثار انتباهي ! أجل .. . جلست في ركن قصي.تأملت كأسي خلال الجوّ المعتم، بعد فترة ربما طالت قليلا تهادت إلى أذنيّ كحداء صحراوي أغنية أوروبية:

Who can take you far away

 من وضع حضيري ابن الناصرية المغني الريفي الذي نأنف من سماعه نحن جيل الشباب بصف ديمس روسز؟عندما توقفت الأغنية، أشرت بيدي، فتركت صاحبة المقصف مكانها عند الدكة، وتوجهت نحوي. تبينت أنها سمراء حقا مربوعة تهتز كبطة في مشيتها الرشيقة:

- هل من الممكن – لو سمحت - الأغنية الأولى؟

 وجهها ينم عن دهشة تضيع مع ابتسامتها:

- أية أغنية ؟

 قلت مؤكدا:

- الأغنية العراقية "وأردفت" ربما كنت مشغولة مع الزبائن فلم تنتبهي إليها!

- آه أغنية بائع الورد!

 ذهبت إلى آلة التسجيل، فتهادت موسيقى ما ثم رجعت:

على رأسي حالما تنتهي بعض الأغاني التي طلبها زبون قبلك.

يبدو أن لديكم أشرطة عربية وأجنبية كثيرة؟

أشرطة مختلفة فمقصفنا يزوره زبائن من دول عربية كثيرة.

عراقية .. عربية .. عالمية . كل شيء مختلط .. فيروز .. حضيري .. الفس برسلي .. ديمس روسز .. لايهم .. أغنية بائع الورد كما تصفينها أعجبتني عن بعد. نبعت في بلاد ملبدة بالغيوم هادئة عنيفة، ودعتني فغيرت طريقي، وكنت من قبل لاألتفت إليها. آنف من سماعها حقا:

- عراقي أنت ؟ "قالتها بلهجة لبنانيّة خالصة وأردفت من غير أن تنتظر جوابي بل اكتفت بهزة من رأسي وابتسامة "أنا أمّي عراقيّة.

 أمّها لبنانيّة أمّ عراقيّة. من ير سمارها وبشرتها الحنطية الرائقة يظنها غير لبنانية.كلّ شيء جائز بلغة السكارى مادامت الكلمات تصبح نغما والنغمات كلمات.لاأدري هل أمطرت في الخارج أما مازالت تنذر ، أذكر أنّي نهضت إلى الحمام مرّتين، واختلست نظرة إلى باب المطبخ الذي انفرج مصراعه قليلا فرأيت أو خيل إلي أني أرى ملامح طباخة تميل إلى السمنة ذات وجه من شرق آسية، وشاباً مراهقاً رشيقاً يندفع من المطبخ محملا بصحون نحو المناضد الأخرى غير أنّها أتت نحوي من حيث لاأدري:

- آثوريّة؟

تنصرف عن جوابي إلى معنى آخر:

- مقيم هنا في بيروت أم سائح؟.

قالت عبارتها بأسلوب مهذب.قرأت في عينيها فضولا يتخفى وراء السؤال. العرب يذهبون إلى العراق الغني، فلم نأتي نحن لنقيم، لكنها لاتعرف أن الغيب هو الذي دعاني. الغيب وحده، والمستقبل ثم سبقت أذناي بصري. هذه الفاتنة السمراء لاتدري حقا كم هي جميلة ساحة أم البروم بصخبها وضجيج موسيقاها الشعبية وقدور عرباتها الرابضة على الأرصفة المحملة بالكراعين ورؤوس الخرفان، ونسائها قارئات الطالع يوم قدحت إحداهن شرارة السفر في نفسي فوجدت أني لابد أن أسافر وأرى العالم إنه الغيب ياسيدتي انكشف لي فدعاني مثلما دعتني أغنية عراقية خافتة داعبت أذني حين عبرت الرصيف فجئت كنائم يمشي حتى استقر بي المقام أمامك عند هذه الطاولة:

- مقيم منذ سنة!

- تدرس؟

- لا .. أشتغل في الصحافة والطباعة!

جمالها اللافت أيقظ فيّ بعض الصحو فتبيّنت شذرات من ملامحها:عريضة الوجه ، رشيقة، حديثها يتلألأ مثل الموسيقى التي استوقفتني وأنا على الرصيف.لم تكن وحدها صاحبة الحانة، بل تشاركها أختها الكبرى .. أمّا عنّي فليس عندي شيء أقوله.صحفي وكفى أو لأقل بشيء من التحفظ بعض الأحيان صحفي أكتب انطباعات عن الناس والمجتمع وفي أحيان كثيرة يوكل إلي صاحب المطبعة مهمة صف الحروف وخلط الحبر، ومعالجة الزنكراف وهو عملي الأصلي تلك الشغلة التي تعلمت فنونها في العراق يوم كانت البصرة تعج بالمطابع والصحف المحلية :

- صحفي؟

هل سمعت من قبل بنهر خوز كما سمعت عن بائع الورد المغني وكيف انتقلنا منها إلى العشار ثم استأجر والدي محلا جنب مطبعة السلام فربطت الجيرة بين أبي وصاحب المطبعة السيد عبد الحميد الحلفي الذي اقترح أن أعمل معه في أوقات العطل حتى أتقنت المهنة ووقفت على اسرارها .. ربما لم أكذب حين ادعيت أني صحفي:

- معظم العراقيين في لبنان يعملون في الصحافة!

- هل هناك عمل آخر؟

- العمل في المطاعم والمحلات التجارية!

- ماذا بعد؟

- من يرغب في العمل يحصل عليه!

أعرف ذلك ولو لم أجد عملا في المطبعة لعملت في مطعم شرط أن ابقى لأرى العالم الملون الجميل ولا أصعد جبلا و أطلق الرصاص كل شيء مقبول لكني فقط أحب أن أطيل الحديث معك:

- منظف أو خادم في مطعم!

- المهم إنه عمل.

ورغبت عن أن أضايقها لاسيما أنها كانت تتحدث معي بحسن نية:

- إنك على حق.

والحقّ إنّ "نوليا" استلطفتني.قالت لي لولا أنّي مثقل لأمرت لي بكأس على حسابها. ووعدتني بذلك في يوم آخر.لقاء أشاع البهجة في نفسي على الرغم من كابوس ثقيل جثم على صدري قبل ساعات.كانت تنصرف إلى الزبائن بين حين وآخر، ثمّ تعود إليّ.لقائي بها لم يشتت سحب الخوف تماما.مازلت أتصوّر شرا يقرع الأبواب، وحين غادرت الحانة .. .رأيت بعض القطع الداكنة تغطي السماء .. . غيوم شتَّتها وأنا في حالة صحو أغنية بياع الورد التي تسللت من الباب لكنها عادت وتلبدت من جديد.

 إذاً لم أكن لأبالغ في قلقي!

*

الجمعة

 12 / 1 /1976

صداقة حميمة شدّتني إلى الحانة قد تغير مجرى حياتي في الأيام القادمة.

 كنت أعمل إلى الرابعة .. اذهب إلى البيت .. أرتاح ساعة أوساعتين ثم اتسكع في المقاهي والحانات. ليست هناك من حانة تؤويني. ولا مقهى معين أقصده. بيروت كلها منفى جميل وأنا حر في الذهاب إلى أي مكان كان. الشرقية .. الغربية .. الضاحية .. الحمراء .. منطقة السفارات .. .الساحل. صخرة الانتحار ويبدو أن بيروت بدأت تضيق وتنحسر، وسوف يتقلص منفاي إلى حانة صغيرة، وإلا ماذا يعني أني استقر في مكان محدد؟

رأيت أختها هذا اليوم.شقراء فارعة القوام في الثلاثين من عمرها.قالت:

- أختي نريمان

لاشك أني أفهم نوعا ما ماذا يعني اسمها أما نوليا وكنت أظنه لوليا فلا أدري ماذا يعني.ابتسمت عن أسنان ناصعة بيضاء ذات بريق:

- كيف أنت؟كيف حالك؟ اشلونك؟ إن شاء الله بخير"قالت ذلك بلهجة بغداديّة بحتة"، وما زلت مندهشا. لم أر لبنانية سمراء .. أمامي عراقية بيضاء مثيرة ولبنانية سمراء أكثر إثارة. الأمر مقلوب، والدنيا مقلوبة .. المنطق يقول العراقية سمراء واللبنانية بيضاء، ولست سكران. أقسم أني صاح لما أباشر الشرب بعد:

إنك تجيدين اللهجة العراقية!

وأقحمت نوليا نفسها:

- أختي عراقية مثلك.

وقالت نريمان بابتسامة واسعة:

- بيور عراقية بيور

- مقيمة منذ زمن؟

- أووه زمن طويل!

وانبرت نريمان:

- وأنت؟

- لا أنا ولاشيء سنة تقريبا!

وران صمت مفاجيء بيننا نحن الثلاثة ماعدا همهمة بعض الزبائن ولحن أغنية خليجية من الماكنة المستندة جنب عمود ضخم يسار الطريق المفضي إلى الحمام، فقلت برجاء:

- أود لو سمعت أغنية عراقية!

فردت نوليا بابتسامتها ذات البريق:

- تكرم عينك لكن حالما يغادر بعض الزبائن الخليجيين إنهم يحبون تلك الأغاني!

 ولم يكن هناك مجال للأخذ والردّ حيث اضطرت إلى مجاراة الزبائن، ثم انصرفت مع زبون إلى الخارج في حين توجهت نوليا إلى المنصّة. أعترف أن حنقا طارئا يجثم على صدري كلما رأيت عراقية مع آخر غير ابن جلدتي .الحنق شكله واحد وكميته واحده لايميز بين مومس وأخرى فهل أسجل أنا عنصري أم وطني ولعلها تمزح وتدعي أنها عراقية مجاملة منها لي لكني بالتأكيد سوف أنسى، وبدت لي المسألة مع فراغي من الكأس عادية.نحن هنا نضاجع اللبنانيات واللبنانيون هناك في المغرب ينامون مع المغربيات وأهل الخليج في القاهرة ؟هناك أمور كثيرة تشغل ذهني: نريمان .. نوليا .. .الحرب الأهليّة المتوقّعة.عليّ أن أغادر قبل أن تغيب رجلاي في مكان ما .. سوف أحملهما بعد دقائق كما حملت ساقين بحذائين ثقيلين مضرجين بالدم وملتفين ببقايا سروال. لم أتحاش هذه المرّة أن أنظر إلى السماء، كأنّي لا أخشى الغيم أن يغضب أو يتلاشى كما انصرفت نريمان بعد ساعة من لقائنا.خوفي الحقيقي أن أفقد رجليّ فهما أوهن شيء يتلاشى من جسدي عندما أسكر مع ذلك رحت ادندن مع نفسي أغنية جذبتني إلى الحانة حتى قدمت نوليا وهي تقول:

- الآن غيرت الشريط.

جالت عيناي في المكان فوقع بصري على المنضدة قرب الباب خالية من الزبائن ومناضد أخرى قريبة منها خلت فأدركت أن الزبائن المعنيين غادروا وما علي أنا أيضا إلا أن أغادر قبل أن تختفي رجلاي فقلت ببعض البرود:

- سوف أسمعها في وقت آخر!

وغادرت قبل أن تلحق بي الأغنية إلى الرصيف!

 

 

 

*

السبت

13/1/1976

بقيت في المطبعة إلى الساعة الواحدة.هذه الأيام ازدحم الشغل بنشوب الأزمة، توالى ظهور المنشورات والصحف وولدت صحف ومنشورات أخرى.وكنت غالبا ما اقضي الوقت في القبو وحدي أعالج الزنكغراف وأرتب الحروف في حين يبقى العامل الآخر وصاحب المطبعة في الصالة بالطابق الأرضي. كنت منهمكا في عملي حين هبط الدرج السيد فاروق الأشقر وهو يتأبط رزمة أوراق تتبعه فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها ترتدي سروالا من الجينز متوسطة الطول ليست بذات جمال شعرها مجعد خمنت أنها أهملته فتركت خصلاته تنسدل كما تشاء، أما وجهها فينم عن تناقض غريب، وقد شككت أنها تتجاهل أنوثتها فتتعمد أن تبدو بملامح رجولية مميزة :

- الآنسة لينا الدغيمي

 وبسط يده برزمة الورق" ستبقى معك لتوضح لك ماتريد بصدد إصدار جريدة، .التفت إليها ثانية:

- سأطلع على الـ lay out بنفسي حالما تتفقان على صيغته النهائية.

 وغادر إلى الطابق الأرضي، فسحبت كرسيا من زاوية المنضدة البعيدة إلى مكان قريب من مجلسي وحين خطت تبيت أنها تشكو من عرج خفيف في ساقها اليمنى:

- هل تسمح لي بالتدخين!

- خذي راحتك!

صوتها رجولي ذو خشونة غير مألوفة لفتاة في سنها:

- سجارة؟

- لاأدخن لكن لايمنع أن أنفث الدخان مجاملة أو سمها ماشئت

وتطلعت في عينيها فلم أستشف أية ملامح تدل على الانزعاج، وقالت:

- كلنا بدأنا هكذا.

- لاتخافي لقد كنت أسرق السجائر من علبة جدتي وأنفث الدخان من دون أن أبتلعه!

كانت تدخن بشراهة وربما أشعلت سجارة من عقب أخرى وانا أتابع معها صحيفة "صوت الشغيلة " والمقالات المخصصة للصفحة الأولى ومربعاتها والزوائد وبعض الاعلانات وكثيرا ماكانت ترتئي عمودا في موضع ما ثم تعود تغير مكانه.كانت تبدل رأيها .. تقبل بعض مقترحاتي حول الإخراج والإطار العام ثم تستقر على فكرتها الأولى، فعجزت عن أنْ أتبين أية ملامح يمكن أن أحملها عنها سوى برودتها القاتلة وصوتها الخشن الرجولي:

- الآن كل شيء جاهز هل أثبت الإطار العام ؟!

- ليكن هذا الإطار هو الهيكل العام والمربعات الفارغة للأبواب الثابتة مؤقتا فقد نتشاور بيننا لتصبح الجريدة فيما بعد من الصحف اليومية!

- آمل لكم كل خير!

وأخرجت من جيب قميصها الخاكي بطاقة ووضعتها على المنضدة:

 - عنوان مكتبنا تستطيع أن تزورنا في أي وقت!

وغادرت القبو فاستفزتني عجيزتها وهي تنحني صاعدة السلم مستندة بيدها إلى الجدار. بانت أكثر أنوثة مما لو قابلها أحد وجها لوجه ولعلني أردت أن استوقفها من دون سبب :

- أي تغيير جديد ترتئينه يمكن أن تخبري السيد فاروق.

- أرجوك أن تهتم بهذا العدد على وفق ما اتفقنا عليه فهو العدد التجريبي صفر.

- ولم تمر دقائق حتى هبط الدرج السيد فاروق الأشقر ثانية، فألقى نظرة على العمل وقال:

- شد حيلك الإثنين بعد الظهر يستلمون العمل لاتنس اسحب ثلاثة آلاف نسخة!

صوت الشغيلة، منجل ومطرقة .. الاستعمار .. العمل الوطني .. الاتحاد السوفيتي، الصين، الشيوعية حديث عن جرائم الامبريالية والاستعمار:

- أظنهم شيوعيين!

- جماعة منشقة عن الحزب الشيوعي. شيوعيون متطرفون سوف يطبعون جريدتهم في مطبعتنا إلى أن يبتاعوا واحدة ، ودفعني الفضول إلى أن اسأله:

- يبدو أنها مسؤولة الإعلام في التنظيم؟

- لينا ابنة منطقتنا من عائلة معروفة في البربير طالبة في السنة الثالثة بكلية الآداب تركت الدراسة والتزمت خدمة التنظيم للأسف ضحت بمستقبلها الدراسي !!

- لكن الأهم من ذلك كله انها تحاول أن تلغي أنوثتها!

- هي هكذا تهمل نفسها منذ الصغر ولاترتاح للعمل مع النساء!

- مسترجلة.

- ياسيدي لن يزداد الذكور واحدا ولن تنقص النساء!

فقلت كأني أحدث نفسي، ولم ألتفت إلى أنه حمل تعليقي على محمل الجد:

- معتوهة!لاشك أنها معتوهة!

- فعلا مثلما قلت فهذه الفتاة استرجلت وانضمت إلى مجموعة يسارية متطرفة فخرجت على اجماع منطقتنا التي عرف عنها انتسابها إما إلى جماعة قليلات أو الفكر السني!

*

الأحد

14/ 1 / 1976

- خرجت لشغل ما.

ربما بوقاحة ولم أنتبه لنفسي :

- مع زبون؟

 أين ياترى ذهبت؟هل هي الغيرة؟أظنّ أنّ شكلي أصبح مقرفا.شعرت أنّي في بيتي ومن حقي أن أرفع الستار.قالت لي نوليا:

- لماذا توغل في السكر ، وأضافت جادّة "يبدو أنّه يتعبك فتبدو في مظهر غريب.

 بنت الـ .. ما يهمها سكري أو صحوي إنّي أشرب بنقودي، ثمّ لنفترض أنّي أعرضت عن الشرب، وأعرض غيري ستضطرّ أن تغلق المحلّ أم حرام علي ما هو حلال على الآخرين!عجيب أمر هؤلاء.يقطع عليّ احتجاجي الهاديء زبون أصلع ضخم ذو كرش، أطلقت ضحكة حبيسة، وسألت نفسي:أين يضع عضوه، أظنه يلفه بخيط ويدسّه في جيبه.لِـمَ يتخنث في حين استرجلت لينا!وأمامي امرأة تعانق رجلا كل ليلة!فهل اتفق معها الزبون ذو الكرش، سمعتها تتكلم معه، التفت إلي التفاتة عابرة ولكي لاأخطيء مثلما أخطأت في الأغنية الفارغة من الموسيقى أو الموسيقى الفارغة من الكلام، أتأكد .. سمعتها تتكلّم باللهجة العراقيّة، وتعود إليّ فتقول:

- إنّها مشاكل العمل " ثم عقبت مباشرة " ضحكتك كانت تجلجل ماذا دهاك؟ "وأشبه بالحزم ":من الأفضل لك أن تتوقّف.

لست أسير العادة. يمكنني أن أدخن أي وقت وأكف متى أشاء .أسكر وأصحو بإرادتي في جميع المقاهي وفي هذا المكان لاأريد أن اصحو قط، فأرى نريمان تنام كل ليلة بحضن رجل ولينا تحرم نفسها من مفردات الجنس الكثيرة: القضيب .. اللذة .. . السكس الإيروتك .. العضو التناسلي نعمة من الله فلم تحرم نفسها منه لكنها لاتؤمن بالله فأكبت ثانية ضحكة عميقة يقطفها من أعماقي سؤال عابر:

في أية صحيفة تحرر؟

من المفروض أن أكون صحفيا أكتب تقريرا وأتركه على الطاولة لكن قد أكتب تعليقا واستطلاعا ثم أمارس عملي في القبو مع الحبر والحروف، تأتيني فتاة مسترجلة قتلت في أحاسيسها الانوثة من أجل مباديء انشقت عنها :

صحفي في صحيفة المشرق!

رائع !!

أنت أيضا رائعة فماذا أقول لها عن الخيط واللفافة، ذو كرش يضيع عضوه تحت بطنه، ولينا تسترجل.فمتى اتفقا ؟وفي أيّ مكان ؟مازلت مصمما أن أعرف:

- انّك تجيدين لهجتنا.

- أنا عراقية.

- معقول!

- وما الغرابة في ذلك.

 هذه المرة ضحكت من دون صوت.كلّ عاهرات الدنيا يعرفن اللغة الإنكليزيّة أو بعضها بحكم الضرورة والحاجة مثلما أعرف نفسي سكران أو صاحيا أمّا أن تصبح لهجتنا العامية لغة دولية فهذه معجزة أعجز عن حلّها الآن في هذه اللحظة بالذات كما أعجز عن لغز يتعلق بشكلي. أشلونك .. شكو ماكو .. منين إنت .. . هل أصبح قبيحا أم مرعبا. قبل أن أعرف علي أن اكتشف كم يدفع كل زبون ؟ مازالت الليرة اللبنانية تنطح الدولار. ليرتان لكل دولار. رائع.أيكون سعر الشقراء أغلى من السمراء أم ياترى أخطأت. أنا نفسي أفكر بالصداقة والحب، ولا أدفع ثمنا للجنس. الحب وحده وبعض المداعبات. هذا يكفي. أمر قطعته على نفسي منذ أصبت بالسيلان بعدما ذهبت مباشرة إلى حي الطرب. يومها كنت طالبا في الثانوية، مصروفي اليومي مائة فلس أما المرض فقد استعصى وتطلب تحليلا مخبريا. يمكنني أن أستدين من بعض الأصدقاء وأسرق بعضا مما في محفظة أمي فما أفضع أن تشعر بسكين حادة تجري في عضوك كلما هممت بالبول .. .والعلاج ومراجعة الطبيب .. ذلك لابد أن يجري بعيدا عن علم أبي وأمي. الحياء الخجل. حي الطرب فضيحة لأمثالي .. أدعي أني أصبت بمرض في المعدة. احتقان في البلعوم أي مرض أدعيه وأي طبيب .. لايهمني المكان قط ولاتفصيلاته من بريهة إلى باب الزبير حيث مخيم الطرب والغجر والمومسات ومن الضاحية إلى الحمراء إلى الساحل أو المسبح فأية مقهى أو أية حانة . كيف حدث هذا بل كيف أتيت من العراق ولم جئت فتلك تفاصيل لا تخصني سئمت منها المهم ألا تنغلق الأماكن بوجهي وألا ينفضح سري لكن شكلي في حالة السكر يبعث على الرثاء أكثر مما يثير الرعب. وها أنا اغادر كرسيي فأقف أمام المرآة المثبتة فوق المغسلة: هاتان العينان، والأنف .. الأذنان .. الفم الشعر الأسود الفاحم المجعد. أتاكد أنها الشفقة وليس هو الرعب !!

 

رواية مهجرية

د. قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم