صحيفة المثقف

المقصف الملكي.. قراءة نقديـة

عبد الرضا عليتوطئة: ترتبط قراءة الشعر (بغض النظر عن نوعه) بالنخب الثقافيّة أكثر ممّا ترتبط قراءة الفن السردي بهم. لأنَّ قرّاءة الفنَّ الشعريّ تتطلّبُ قارئاً من ذوي الأقدار المعرفيّة بشروطِ صناعتِه،ولغتهِ الدلاليّةِ التي تكوّنُ نسيجهُ الخاص: فلسفةً، وأفكاراً، ومضامين؛ في حين لا تتطلّب قراءة الفنِّ السرديّ مثلَ هذه المواصفات في مريديهِ وقرّائه، فضلاً عن أنَّ قراءة الشعرِ تشترط ُ (في الأعمِّ الأشملِ): التركيز، والتأمّل، ومعرفة ما وراءَ النصِّ من مسكوتٍ عنه.

لذا، شاعَ عندَ غير العربِ قراءةُ الأعمال السرديّة في محطّات انتظار الحافلات، وعربات المسافرين،و قطارات الأنفاق، وصالات المطارات المكتظة بالمغادرين إلى أصقاع الدنيا، وغيرها من الأمكنة، لأنَّ قراءة السرديّات (الرواية مثلاً) لا تتطلّب قارئاً حاذقاً من ذوي تلك الأقدار المعرفيّة في التأمل، والتعرّف على خفايا المجازات الدلاليّة للأشياء، إلى جانبِ أنَّ الأعمالَ السرديّةَ تشدّ ُ القارئ إليها شدّاً، ليتواصلَ مع مجرياتها من غيرِ كدٍّ ذهنيّ في أحايين كثيرة، رغبةً في التواصلِ مع ما يؤول إليه الحدث، وصولاً لتحقيق المتعة المنشودة في معرفة ما سيأتي  من أحداثٍ مستقبليّة، بعكس الشعرِ الذي يتوجب على قارئه أن يشدَّ نفسه إليه شدّاً، سواء أكان ذلكَ في القصائد ذات الاتجاه الرمزيّ، أم في ذات الغموضِ الشفّاف.

وعلى وفق ما تقدّم فإنَّ قرّاءَ فنَّ السرد يزدادونَ أعداداً يوماً بعد آخر (وإنْ لم تكن هذه الزيادة على حسابِ قرّاءة الشعر)، وإنّ الروايةَ تحديداً قد "اغتدت على عهدنا هذا، وقبلَ عهدنا هذا أيضاً، الجنسَ الأدبيّ الأكثر مقروئيّة في العالم"¹، وإنّ كتّاب هذا الفنّ أكثر حظوة عندَ الناشرين العرب من غيرهم من المبدعين، وإنَّ معارض الكتب الدوليّة تشهدُ إقبالاً على السرديّات أكثر من الإقبال على شراء المجاميع الشعريّة العديدة التي صار يكتبها كلّ من هبَّ ودبَّ من القادرينَ على تحمّل أجور طباعتِها، وإنّ حفلات توقيع إصدارات السرديّات أمست من الفعّاليّات الجميلة التي ينتظرها المثقّفون في تلك المعارض، وأنّ مؤتمرات كتّابها، أو حلقاتهم الدراسيّة باتت أكثر نشاطاً من مؤتمرات غيرِهم من صنّاع الإبداع، وإنّ قسماً (غير قليل) من شعرائنا المعاصرين بدؤوا يخصّصون بعضاً من الزمنِ ( الذي أوقفوه سابقاً لصناعة الشعر) لكتابة تجاربهم السرديّة الجديدة، بعدما شعروا أنّ مقولة عصفور من أنّ هذا الزمن هو "زمن الرواية" قد تكون صحيحة.

*****

تعالج رواية قصيّ الشيخ عسكر" المقصف الملكي" موضوعة الإنسان (العراقي) المستلب في المهاجر، أو المنافي الاختياريّة التي عاشَ فيها ردحاً من السنوات العجاف، وتحمّلَ خلالها ما تحمّلَ من عنتِ العيشِ، وضنكه، وما رافقهما من قلقٍ وجوديّ، وخوفٍ دائم من مصير مجهول قد يكونُ ذا علاقات ملتبسة في تكريس واقع مأزومٍ  يثلم كبرياء الشخصية، ويخدش عزّتها.

تتلخّص الرواية في أنَّ مثقّفاً عراقيّاً من أبناء مدينة البصرة في جنوبي العراق يقرّرُ مغادرة وطنه كي لا يُشاركَ في الحرب التي شنّتها الدكتاتوريّة الحاكمة في بغداد على أبناء الشعب الكوردي في كردستان العراق في الثلث الأوّل من عقد السبعينيّات من القرن الماضي، متّخذاً من مدينة بيروت محطّته المهجريّة الأولى في الانطلاق إلى المنافي التي يستطيع أن يتنفّسَ فيها هواء الحريّة، جاعلاً من مقصف بيروتي هو" المقصف الملكي" فضاءً مكانيّاً لمعظم أحداثِ هذه الرواية.

ومع أنّ هذه الرواية أفادت من فنَّ السيرة الذاتيّة في تسجيلِ أيّامِ بطلِها، إلّا أنها لم تكن روايةً سيرةٍ بالمفهومِ العام، لأنّها ركّزت حصراً على أيّامِ بطلها في بيروت، وأهملت ما عداها، وهذا ما جعلها تنأى عن روايات السيرة التي تُعنى بدقائقِ حياةِ البطل وبنائه النفسي، وتكوينه، ومواقفه، وعلاقاته، وفلسفتهِ في الحياة، وغير ذلك من أمور حيويّة.

ما تقدّمه "المقصف الملكي" من سيرةِ بطلها يقعُ في ثلاثةٍ وعشرينَ يوماً من العام 1976م، لكنَّ هذه المذكّرات التي تبدأ في يوم الأربعاء 9/1/1976م، وتنتهي في يوم السبت 14/4 من العامِ نفسهِ تتخللها انقطاعات عديدة، وهذه الانقطاعات هي من المسكوت عنه، أو الحذف المقصود فنيّاً، وقد لجأ إليه قصي عسكر عامداً ليجعل من قارئه الذكي سارداً آخرَ يكمل المحذوف على وفق زاوية قراءته النفسيّة له، فضلاً عن أنَّ هذا المسكوت عنه يُثير في قارئه أسئلة الإبداع الملحّة التي تبحث عن إجابات ٍلها.

ومتى ما تمكّن المبدع من جعلِ متلقِّيه قادراً على تأويل رؤيا السارد، أو لعبته المتخيّلة، فإنه يكون قد حقّقَ هدفه في جعل متخيّله السردي حمّال أوجهٍ في التعليل، لهذا كان الحذفُ تقنية ً زمنيّة ً مقصودة وليست غفلاً عن لحظةٍ من الحدث، وهذا ما قال به بعض النقّاد حين تناولوا مصطلح الحذف في الخطاب السردي²، لهذا يمكننا القول باطمئنان : إنّ خلو مذكّرات السارد من أيّام الخميس(مثلاً) طوال أكثر من ثلاثة أشهر من تاريخ المذكّرات لم يكن إغفالاً بريئاً، إنّما كان إغفالاً مقصوداً (عامداً) جرى عن وعيٍ فنّي مع سبق الإصرار والترصّد.

وقد اخترنا ملمحين ِ جماليين فقط من ملامح هذه الرواية رأيناهما حريينِ بالتحليل والدراسة النقديّة، تاركين بقيّة الملامح الجماليّة للقارئ النابه، تحفيزاً لذائقته القرائيّة من جانب، واستكمالاً للكشف من جانبٍ ثان، وهذان الملمحان هما:

أولاً- تقنية المكان:

مع أنَّ هذه الرواية قد استثمرت أمكنةً معيّنة في تحريك أحداثها كالمطبعة، وشقة السكن، والجريدة، وبحر بيروت، وبيت صاحبة الحانة، وغيرها من الفضاءات المكانيّة، إلّا أنَّ المكان الذي تمَّ التركيز عليه في بؤرةِ السردِ كان فضاءَ المقصف، بزبائنه المختلفين (أجناساً وثقافات) ومفرداته المركّبة الصاخبة) من صفقاتِ نخاسةٍ لشراءِ أجسادِ النادلات (وبعوالم المستلبين الذين يشعرون بالرضا المؤقّت فيه، فيؤجّلون جزعهم إلى حينٍ آخر، وما إلى ذلك من أمورٍ أخرى.

إنَّ خصوصيّةَ العمل ِ السرديِّ الناجحِ تكمنُ في قدرة الساردِ على جعلِ المتلقّي يرى المكانَ من خللِ الحروفِ، ويشمّ رائحة الأرضِ من خلال غبارها المتصاعدِ على الورق، ويشاهد خضرتها السندسيّة من  بصيرة الساردِ المتمكّن التي تلوّنُ لوحاتِ المشهدِ المتحرّكِ، فيعيش الأحداثَ وكأنه شاهدٌ على مجرياتها.

وعليه، فإنّ ابتداع صرعةِ التخلّي عن المكان في العمل السردي ضربٌ من العبث، أو تهويمٌ في اللاواقع، لذلك قال باشلار: " إنّ العملَ الأدبيَّ حين يفقد المكان، فهو يفقد خصوصيّته، وبالتالي أصالته."³، فالحبكةُ التي تتلخّصُ في كونها أحداثاً ترتبطُ فيما بينها بأزمنةٍ معيّنة لتؤدّي غرض السرد، أو السارد، لن تكون بغير أمكنةٍ ترتبطُ بالأزمنة ولا تنفصلُ عنها، وهو ارتباط يحقّق وظيفة الزمان والمكان في خلق الوهم لدى القارئ من أنّ ما يقرأه  قريب من الواقع،أو جزء منه.⁽⁴⁾

ولعلّنا لا نغالي إذا ما قلنا: إنّ ما رسمه قصي عسكر من لوحةٍ  متحرّكةٍ للحانة  أنْ جعلنا نراها من خلال عينيهِ اللمّاحتين في الوصفِ الدقيق، ومكّننا من الاستماعِ إلى ما كان فيها من صخبٍ وموسيقى وحوار، وفي اللوحةِ الآتية ما يثبت ذلك:

"للمرة الأولى أدخل هذه الحانة.

قد يكون ضجري  ....

أو  مجرد العنوان.. طريق ضيق متفرع من شارع الحمراء وإذا بي أفجأ بهدوء وصخب لطيف شفاف يذوبان معا فاستريح على ضفافهما وقد توقفتُ لحظةً عند إحدى الأغاني. كان  الزجاج المعتم يفتح شدقه فيدفع إلى الرصيف أحد الزبائن ويرسل لي أغنية عراقية كادت تشرف على نهايتها أو انتهت.

" المقصف الملكي" لمحت اللافتة المشرئبة نحو السماء الملبدة بغيوم مبهمة الملامح، وحانت مني التفاتة ٌ إلى الداخل قبل أن يعود شدق الباب للانطباق من جديد فيحجب عني السمع والرؤية، لتختفيَ من أمام عيني  إنارة خافتة، ودكة ووجه فتاة أكاد أميز سحنته السمراء عن بعد، وصفوف تربعت فوقها قنان زاهية الألوان.

لحظتها كانت بقايا الأغنية العراقية تذوب بهدوء وراء الباب،وقد فقدتُ رغبتي في الذهاب إلى مقهى يطل على الساحل كما خطر في ذهني قبل أن أغادر البيت.

ربما مررتُ بالمكان أكثر من مرة وفاتني أن ألتفتَ إليه حتى جذبتني أغنية ٌ سالت مع السراب فدفعني الفضول  للانعطاف نحوذلك المقصف الذي رأيته يلوحُ على بعد خطوات مني  كنبع صاف يغري العابرين بالوقوف عنده والتلذذ بمائه العذب.

كانت كلمات الأغنية القديمة تغسلُ بعض التعب عن وجهي وتمسحُ من يدي بقايا الحروف التي تدغدغ أصابعي طوال النهار. الحروف تتناوشني من كل مكان. في المطبعة الحبر الأسود والحروف. الكلمة تلك . السطر هكذا. مئات الكلمات تمر بي فلا أتذكرها. والحوادث كثيرة استوعبها فأنساها. وهناك لحن قريب.. شيء ما يشدني إلى الماضي..أغنية ربما سمعتها عشرات المرات فلم التفت إليها:

عمي  يابياع الورد

كل لي الورد بيش

لم لوحَّت لي الأغنية بنهايتها واختفت؟

كيف مرَّت بي في هذا الوقت الملبد بالغيوم؟

أين أذهب إذا ماتغيرت لبنان؟ هل أبالغ في هواجسي؟ الحوادث كثيرة مثل الحروف التي تستوعب أخبار العالم وخواطر الناس. البلد على وشك أن ينفجر. احتقان على الوجوه، وغضب في العيون.وأنا يكاد الفراغ والقلق يأكلاني كأنَّ الأغنية تدعوني للدخول .. تمد إليّ ذراعيها. "المقصف الملكيّ".. واحة أم مقصف. لايهم.. عنوان أثار انتباهي ! أجل... جلست في ركن قصي.تأملتُ كأسي خلال الجوّ المعتم،بعد فترة ربما طالت قليلا  تهادت إلى أذنيّ كحداء صحراوي أغنية  أوروبية:

Who can take you far away

من وضع حضيري ابن الناصرية المغني الريفي الذي نأنف من سماعه نحن جيل الشباب بصف ديمس روسز؟عندما توقفت الأغنية،أشرتُ بيدي،فتركت صاحبةُ المقصف مكانها عند الدكة،وتوجهت نحوي. تبينتُ أنها سمراء حقا مربوعة تهتز كبطة في مشيتها الرشيقة:

- هل من الممكن – لو سمحتِ - الأغنية الأولى؟

وجهها ينمّ عن دهشة تضيع مع ابتسامتها:

- أية أغنية ؟

قلت ُمؤكدا:

- الأغنية العراقية "وأردفتُ" ربما كنت مشغولة مع الزبائن فلم تنتبهي إليها!

- آه أغنية بائع الورد!

ذهبت إلى آلة التسجيل،فتهادت موسيقى ما ثم رجعت:

على رأسي حالما تنتهي بعض الأغاني التي طلبها زبون قبلك."

ثانياً – الراوية والتداعي والمناجاة:

راوية "المقصف الملكي" راوية ٌ عليمٌ،وليسَ موضوعيّاً،وثمّةَ فرقٌ بين الراوي العليم، والراوي الموضوعي، فالعليمُ يعرفُ كلَّ شيء،لأنّه(في الغالب)  يكونُ البطل المحوري الذي يروي  أحداثاً معيّنة من سيرتهِ الذاتيّة، كاشفاً عن بعضِ ما يختزنه في ذاكرتِهِ من حركةِ الأحداثِ، وعلاقاتها المتشابكة، وما يحمله من تصوّر كاملٍ عن شخصيّات النصِّ السردي، سواءٌ أكان ذلك في البناءِ النفسيّ، أم البناءِ المعرفي الثقافيّ، ناهيكَ عن علاقات تلك الشخصيّات بمحيطِها الإنسانيّ، وتفاعلها الحركيّ مع مجتمعها المعيش.

وهذا الراوي يتيحُ لنفسهِ التدخّلَ في كلِّ جزئيّات النصِّ، فقد يحذفُ أحداثاً على حساب أخرى، أو يركّز على صراعٍ دراميٍّ دونَ آخر. ومثلُ هذه الحريّة تنأى به عن دائرة الموضوعيّةِ، وتجعله غير محايد.

ومع هذا فالمتلقّي الجاد يرتضي ذلك، ويرغبُ في هذه التقنية، ويفضّلها على تقنية الراوي الموضوعي، لكون الأخير يصف الأحداثَ من الخارجِ،ولا يراعي دواخلَ الشخصيّات، أو عوالم لا وعيها، لكونه يُعنى بالسرد الوصفي أكثر من عنايته بالتحليل، ويكون بذلك أقرب إلى الوثائقيّة منه إلى الفنيّة في بنية العمل الإبداعي.

ومعَ أنَّ هذا الراوية َ َقد تسلّمَ راية الإبلاغ السردي، إلّا أنّه استعان بتقنياتِ :التداعي الحر، والارتجاع، والمناجاة (المونولوج الدرامي) وغيرها، وجعلها تكمّل بعضها بعضاً في تقديم مشاهد اللوحات على نحوٍ من تدفّقٍ صوري، لا يخلو من انسيابيّة جميلة، ممّا يؤكّدُ أنَّ قصي عسكر واحدٌ ممّن يمتلكونَ أدواتِ المتخيّل السردي، وحرفة الكتابة باقتدار متميّز، وهو دليلٌ على أنّ دربته في ممارسة هذا الجنس الأدبي لم تكن قصيرة.

فالراويةُ يتوقّفُ عن الإخبار السردي حينما يبدأ بطلُ الرواية ِعمليّة التداعي الحرّ، أو الارتجاع الفنّي، ممّا يجعل المتلقّي ينسى المهيمن الأول مدّة من الزمن، فيعيشُ مع مناجاة البطل النفسيّة، وحواراته الدراميّة التي يجريها مع أعماقه من غير تكلّفٍ في الانتقال من تقنيةٍ إلى ما سواها، مع أنّه يلجأ أحياناً إلى عمليّة التداخل الزمني بما يُشبه الأحلام أو الكوابيس التي تحتاجُ إلى منبّه يوقظها ممّا هي فيه من شطحات، ولن تكون بغير العودة إلى تقنية الوصف السردي، أو الالتجاءِ إلى تقنية الديالوج لمعاودة الاتّصال بالمهيمن (حامل راية الإبلاغ) ثانيةً، كما في النصّ الآتي التي تتداخل فيه تقنية الراوي العليم بالمناجاة النفسيّة، والتداعي الحر، والديالوج، والوصف على نحوٍ تلقائي:

" غادرت الجريدة قبل الواحدة بدقائق. وقصدت البيت مباشرة. ارتميت على السرير ولم تكن بي رغبة للطعام.بطالة وموت قادم.خلال دقائق كنت استسلم للنوم....حلمت بالحروف وأشياء أخرى غريبة، في متنزّه ما حيث الأضواء المعتمة الخضراء والمناضد المنتشرة تحت أشجار الليمون نساء جميلات عاريات الظهور يحضرن الحفل. يتخذن مواقعهن على الكراسي وثمة في الممر وجدت نفسي أقف كأنني نادل يلبي طلبات الزبائن فيقع بصري على قامة فارعة القوام نادت بأصبعها السبابة ودعتني نظرة عينيها  أن أقدم..اقتربت منها على ضوء المصابيح الخافتة وحينما وقفت أمام المنضدة  ورفعت رأسها إلي اكتشفت أنها لينا الدغيمي.!

لم أصب بالدهشة أمام جمالها، وتسريحتها الرائعة التي تحدت بها تسريحة ممثلات السينما في عقدي الخمسينيات والستينيات. قالت لي بصوت رقيق إنها جاءت وفي نفسها البحث عن شاب وسيم سوف تلبي كل رغباته ويسعدها أن تنتظره هنا وما علي إلا أن أناديها حالما يأتي.هو أكثر وسامة من أي شاب آخر، رحت أتطلع إلى الباب من غير أن أعرف أو أعير أية التفاتة للأسماء  لكني فوجئت بصاحب المطبعة وهو ينهض من كرسيه ليقول لي إن هناك تلبكا واختلاطا في الحروف يجب أن أعالجه  ودس يده في جيبه.سلمني مجموعة من الحروف كانت جميعها تشتبك مع حرف الحاء الذي كان أكبر من الجميع. سلسلة حروف متشابكة.. سألت نفسي هل يقصد الحروف العربية أم الأجنبية؟ وتكاسلت عن العودة.لم أتوجه إلى المطبعة بل ذهبت مباشرة إلى البيت وفي رغبة لأن أغسل الحروف بالماء لعل ذلك يساعدني على فصلها.. وجدتهن بانتظاري ولما يزل حروف الحاء بيدي.صرخت بصوت حاد:

سأفصلكن. سأفصلكن .. انتظرن!

كاد المنزل يغص بهن إذ تفرقن.حاوية الأزبال ممتلئة..حوض الغسيل.. سرير النوم.. الحمام.. المطبخ.. الطباخ الغازي.. حنفية الماء.. بعيدا ينط سيل منها فيشفط حقول الشعيبة ليشخص في المكان شجر سدر ويلتم ثانية يطلع نحو النخيل يقتلعه فينبت مكانه كافور طيب الريح ثم تعود الحروف في الوقت ذاته إلى بيروت.  بعد المكالمة الهاتفية تصل إلي رسالة من والدي: أمك مشتاقة إليك. إذا ضاقت بك الحال تعال فكل شيء على مايرام.حروف الرسالة تختلط  ببقية الحروف يضيع أثرها ماعليَّ إلا أن أفصل جميع تلك الحروف واعلقها بسلسلة  مفاتيح حرف الحاء التي مازالت بيدي  لكني لم أفلح..كلما قبضت على مجموعة وجدت أخرى جديدة تحل محلها لا أعرف من أين تأتي الحروف غير أني تكاسلت فارتميت على السرير وكنت أتقلب في تلك اللحظة على جنبي الأيمن فأجد نفسي وحدي وقد تقحّمني هياج جارف وفحولة غير متناهية  لاأشك قط في أنها فحولة كاذبة...تمنيت في تلك اللحظة أن تكون نريمان جنبي أو نوليا .هؤلاء عائلتي. ألم تقل نريمان ابق معنا أفضل لك! هناك امرأة أريد أن أعريها وإن كانت امرأة رجلا مثل لينا. أية منهن لايهم.

فقط أريد أن أثبت فحولتي!"

عالم "المقصف الملكي" عالم يمورُ بمعاناة مثقّف عراقيٍّ مستلب من الباحثين عن الأمان في الهاجر والمنافي، ومع أنّه هربَ من بلده كي لا يُشارك في قتال أبناء وطنه، إلّا أن شبح الحرب يلاحقه حتّى في مستقرّه الجديد "بيروت"، فقد كانت نذر اندلاع الحرب الأهليّة على وشك الوقوع في منتصف سنة 1967م، لكنّ السارد لم يشأ أن يتحدّث عنها،فقد أنهى الرواية دون أن يعلمنا عن خلاص البطل، أو نهايته، وحسناً فعل، فهذا المسكوت عنه جعل كلّ متلقٍّ (من الباحثين عن النهايات) يختار النهاية التي تتناسبُ وزاوية قراءته النفسيّة للرواية،وهي لمحة ذكيّة تدلّ على ما ألمعنا إليه من أنّ قصي الشيخ عسكر كاتبٌ روائيٌّ متمرّس⁽⁵⁾، فضلاً عن كونهِ شاعراً موهوباً، وناقداً حصيفاً، لهذا سيجد القارئ الجاد في هذه الرواية جرأةً في توصيفِ ما يجري في هذه المقاصف الليليّة من امتهانٍ لكرامةِ المرأة العربيّة تحديداً، وما تعانيه بعضهنّ من ضير الزمن وبشاعته، وتسلّط القهر الإنساني بسبب الحاجة إلى لقمة العيش.

ولكنّه من جانبٍ آخر سيحظى بمتعة الإدهاش التي تجذبه لإتمام النصّ، وعدم مغادرته حتّى ينتهي منه، لما فيه من إثارة في الأداء والتوصيل، فضلاً عمّا يمتلكه هذا النصّ من لغةٍ جميلة.

 

أ. د. عبد الرضـــا عليّ

.....................

هوامش

 (1) عبد الملك مرتاض، في نظريّة الرواية، بحث ٌ في تقنيّات السرد،160، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1998م.

(2) يُنظر: حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، 125، بدلالة د.علي المانعي (القصة القصيرة المعاصرة في الخليج العربي)  55، ط1،مؤسسة الانتشار العربي، بيروت 2010م.

(3) غاستون باشلار"جماليات المكان" ترجمة غالب هلسا، 5-6،ط(2) المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1984م.

(4) يُنظر: د. عدنان خالد "النقد التطبيقي التحليلي"،82،سلسلة آفاق،بغداد، 1986م.

(5) ما يؤكّد تمرّس قصي الشيخ عسكر في هذا الجنس الأدبي من الإبداع آثاره العديدة التي بلغت ثلاثَ عشرةَ روايةً، ومسرحيّة، وهـــــي:

- المعبر: رواية، دمشق، 1985م.

- سيرة رجل في التحوّلات الأولى: رواية، 1986م.

- المكتب: رواية، دمشق 1989م.

- المختار: رواية؟ لم أعثر على زمن طباعتها، (أرجح أنّها كتبت العام 1990م).

- شيء ما في المستنقع: رواية، مط، خالد بن الوليد، دمشق، 1991م.

- للحمار ذيلٌ واحد لا ذيلان: رواية،ط1، دار الحضارة الجديدة، بيروت، لبنان، 1992م.

- نهر جاسم: رواية، دار الأضواء، بيروت، 2004م.

- الشمس تقتحم مدينة الثلوج: رواية،( د- ت- م .)

- آخر رحلة للسندباد: رواية، (د- ت - م.)

- الموتى يزحفون: روايات اغترابيّة (د- ت - م.)

- روايات وقصص من الخيال العلمي،ط1، مؤسّسة شمس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2010م.

- وأقبلَ الخريف مبكّراً هذا العام: رواية، ط1، مؤسسة شمس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2022م.

- الشاعر: مسرحيّات، ط1، مط الغريّ الحديثة  في النجف الأشرف، 1973م.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم