صحيفة المثقف

إدجار ألان بو بين الفقر والنبوغ

حسن زايديعد الكاتب الأمريكي الرومانسي إدجار ألان بو من أخصب معاصريه من الكتاب خيالاً، ومن أكثرهم تمكناً من فنه، وأرسخهم قدماً في الشعر والنقد والقصة . ومن يسمع بذلك يذهب به الظن كل مذهب حول مستوي المعيشة التي كان يحياها صاحبنا، من رغد في العيش، وترف في النعيم، وتمتع بأسباب الحياة، توفر ما يتيح له الترفل في نعيم الأدب . ولكن الحقيقة كانت تجري في حياته علي خلاف ذلك . فهو قد وُلِد لأبويين ممثلين عام 1809م . هجر أبوه والدته تاركاً لها ثلاثة أطفال، ظلت ترعاهم حتي لحقتها المنية وهي لا زالت شابة صغيرة . وكان بو لم يبلغ الثالثة من عمره بعد، حين وجد نفسه وحيداً بلا أب ولا أم .

رق لحاله من صغر سنه، ووحدته بعد فقد أهله، وفقره، أحد الجيران فكفله، فكان عوضاً له عن الأب الذي فقده بهجرانه، وأغدقت زوجته عليه من عطفها وحبها ما يعوضه فقدان أمه، التي اختطفها الموت في شبابها، مفقداً إياه حضنها ودفئها وحنانها وحبها .

وقد اصطحب الزوجان صاحبنا برفقتهما، عند انتقالهما للعيش في انجلترا، وهناك تلقي تعليمه في مدارسها، علي مدار خمسة سنوات . وعند عودتهم إلي أمريكا إلتحق بجامعة فرجينيا لاستكمال تعليمه . ولكن سرعان ما تبدل الحال وتغير، وأعطت الدنيا ظهرها له، علي غير المتوقع والمرتجي منها . فقد بدأت يد الرجل في الإمساك عن الإنفاق عليه، وأضحت مغلولة إلي عنقه، غير مبسوطة في الإنفاق . الأمر الذي أصاب صاحبنا بالسخط والمرارة والضجر، ولكن ماذا عساه أن يفعل؟ . فقد وجد نفسه واقعاً بين شقي الرحي، شق يتعلق بحاجته الضرورية والملحة في الإنفاق علي احتياجاته ومتطلباته بعد أن ضُيق هذا الباب تضييقاً من جانب الرجل الغريب الذي يكفله تطوعاً، وشق متعلق بفقدان الأب الملتزم بالإنفاق علي نجله فقداناً .

وللخروج من هذا المأزق، وفي محاولة للفكاك من هذا الضيق، وإيجاد متنفس للحياة، وبصيص أمل للنجاح، اضطر إلي الإقتراض، بل وإلي المقامرة، وذلك بقصد الحصول علي بعض الأموال اللازمة لمواجهة تكاليف الحياة، ولو بالكاد . إلا أن سوء الطالع ظل ملازماً له، ملتصقاً به، يأبي عليه المغادرة له . فقد كان يخسر دائماً عند لعب القمار، وظل يدور في دائرة الفقر الجهنمية، وتطارده الديون مطاردة الوباء الذي لا أمل في الشفاء منه . وقد رفض الرجل الذي تكفل به سداد ديونه، بل ورفض استمراره في الدراسة في الجامعة وهو لا يزال في السنة الأولي، مما اضطر صاحبنا إلي ترك الدراسة تحت وطأة الضغط النفسي والمادي الذي تعرض له . وعلي إثر مشادة وقعت بينه وبين الرجل، غادر البيت . وهنا فكر في الإلتحاق بالجيش، في محاولة لانتشال نفسه من دائرة الفقر، بعيداً عن ضغوط الحاجة لمن ينفق عليه .

استمر في خدمة الجيش لمدة عامين، بعدهما جرت مصالحة بينه وبين الرجل، فلان قلب الرجل تجاهه قليلاً، في مصالحة من النوع الفاتر، وعلي إثرها تم إالحاقة بالكلية الحربية . إلا أنه لم يستمر فيها إلا قليلاً، لأنها كانت باهظة النفقات علي نحو لا يحتمله الشح الذي اتسم به الرجل، وبانت دلالته أيام الدراسة بالجامعة، واستمرت أيام الكلية الحربية من ناحية، والصرامة التي يتسم بها نظام الكلية الحربية علي نحو لم يحتمله صاحبنا، الذي أحس أنه ما خلق إلا ليكون شاعراً، وتلك موهبته التي عزم العقد علي ممارستها حتي ولو كلفه ذلك الجوع والقهر والموت . ولكن المشكلة أن كافله كان رجلاً عملياً صعباً، لم يرقه الشعر، ولم يستسغه، ولا يجد في نفسه ميلاً لامتهان صاحبنا حرفة الكتابة .

وقد كان ذلك سبباً، إلي جانب عوامل أخري، في انقطاع الصلة بشكل نهائي بينهما . عندئذ قرر صاحبنا الاعتماد علي قلمه للتكسب وتوفير لقمة العيش، خاصة أن فوزه بجائزة عن قصة كتبها، قد أعطته الثقة في نفسه، وجعلته يعقد العزم علي اتخاذ الكتابة حرفة له . وقد بدأ وهو في السادسة والعشرين من عمره بالإشتغال في التحرير الأدبي في المجلات، وسرعان ما أثبت أنه صحفي نابه وكفء ويقظ، استطاع أن يجتذب القراء إلي مجلته اجتذاباً، وذلك من خلال مقالاته النقدية وقصصه وأشعاره . وقد جعل من مجلته، بعد أن كانت مجلة مغمورة، إحدي كبري المجلات في حينه .

وقد أدي نجاحة في مهنة الكتابة إلي رواجه المادي، مما دفعه إلي التفكير في الزواج، فلم يتردد في اتخاذ هذه الخطوة، فتقدم للزواج من ابنة عمته، وكان عمرها الرابعة عشر ربيعاً، أي يكبرها باثنتين وعشرين عاماً . وبعد عامين من الزواج جعل يتنقل هو وزوجته من مدينة إلي أخري حتي استقر به المقام في إحدي ضواحي العاصمة، بعد أن أصيبت زوجته بالسل، واشتداد المرض عليها، حتي فتك بها، وقضي عليها الموت .  

كان صاحبنا قد بلغ الثامنة والثلاثين من العمر عند فقد زوجته، ويبدو أن فقدها كان أليماً،حيث فت في عضده، وأشعره بالوحدة الموحشة الأليمة، وترك بداخله فراغاً موجعاً مفجعاً في آن . وفي محاولة منه لمداواة جروح الفراق والفقد، انتقل بحبه الجريح من امرأة إلي أخري، ظناً منه أن هناك إمرأة تعوض ما فقده من حب ورعاية الأم، التي غُيِّبت عنه بالموت، أو تعوض حب إمرأة فقدت بالموت وهي تحبه . إلا أنه يبدو أن الحب الأول قد أخذ منه مأخذاً تركه مستشعراً للإعياء البالغ المُنْهِك، الذي يخلف اضطراباً حاداً في الوجدان، لا يستقر معه علي حال .

وأخيراً استقر به المقام علي حبيبة صباه، التي كانت قد فرق بينها وبينه زواجها من رجل آخر، وقرر أن يتزوجها لعلها تكون سبباً في شفائه من أوجاعه، واتفقا معاً علي الزواج . إلا أنه قبل أن تدق الأجراس معلنة إتمام الزواج  بثلاثة أشهر، وجد صاحبنا في إحدي الحانات، فاقد الوعي، شاحب الوجه، أشعث الشعر، رث الثياب، وفي إحدي المستشفيات ظل راقداً أربعة أيام علي حاف الموت، يهذي متمتاً بكلمات غير مفهومة، وعبارات دالة علي الندم، ويتحدث عن زوجها تركها وراءه، ويتحدث إلي أشباح علي الحوائط، بعدها استقر في قبره وهو ابن الأربعين عاماً .

 

حسن زايد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم