صحيفة المثقف

نريمان ونوليا

قصي الشيخ عسكرالإثنين

15/ 1/1976

سألتها عن نوليا فقالت إنّها في البيت تساعد أمّهما.

راودني شعور بالارتياح كوني عرفت أنّ نوليا ليست في حضن زبون الآن في هذه الساعة. خاطر ما مرّ بذهني كما هيّ الخواطر والهواجس المحتشدة الكثيرة لكنه يبدو أسطعها. لاأدري لم لاتجتاحني الغيرة وأنا صاح . لايهمني أن يحترق العالم أو تنام امرأة عرفتها منذ بضعة أيام في حضن رجل آخر. بضعة أشهر عرفت خلالها بيروت. انفتحت لي جميع أبوابها وأسرارها وها هي كثير من الأبواب تغلق بوجهي. من البربير حيث أسكن إلى الحمراء والساحل .. الحمامات والأشرفية. الآن لا أغامر وأنا اسمع تحذيرات الشارع. صاحب المطبعة وصحيفة المشرق فاروق الأشقر حذرني من الخطف وأكد أنه يفكر بنقل المطبعة إلى شتورة. سنة مرت، وقبل بضعة أيام بدأ سر من أسرار بيروت ينكشف. كان لدى نريمان متسع من الوقت للحديث.قلت ومازلت في شك:

- المشكلة إنّ أختك تتحدّث لهجة لبنانيّة بحته، أما أنت..

قاطعتني من دون تأفف:

- أنا عراقية ألا تصدق؟

- كنت أظنك تمزحين!

لم يبد عليها أي ضيق :

- هناك أمور لامزاح فيها!

- معك حق!

- المصادفة.. الحياة.. والموت كثير من الأمور لايمكن أن تكون مزاحا.

 ماذا كذبة أخرى أم كلام سكارى؟ موت حياة !أسألها عن لهجة ولسان مبين فتذكر الموت والحياة وأنا لاأريد أن أسكر بهذه السرعة.الحرب - إن اشتعلت - وهي ليست مزحة لا أستطيع إيقافها بكأس. ليست هناك من حرب بدأت بمزاح أما أنا فأكره أن أفقد رجلي.من المحتمل أن تسكرا أو لا:

- أنا على سبيل المثال أمامك مصادفة. الحياة كلّها مصادفة.

وطلبها زبون وحيد يجلس عند منضدة تفضي إلى باب المطبخ فذهبت تلبي طلبه وجلست معه دقائق تلاطفه. كنت أعجب من أي عراقي يتحدث عن نفسه بصراحة فنحن الجيل الذي هرب بعد عام 1968 عشنا زمن الغموض والشك. نشك بكل شخص ولا ننفتح.انقطعنا عن أسمائنا التي حملناها يوم وُلِدنا وأمامي امرأة عراقية لاتخفي عني كل شيء .. حالة شاذة. كنت أتمعن في شيء ما على الجدار حين انتشلتني من هواجسي:

- تأخرت عليك؟

- أعرف طلبات الزبائن لاتنتهي وأرجو ألا أكون قد أزعجتك في الحديث.

- أبدا لا ليس عندي أي شيء أخفيه.

- قلت إنك نجوت من موت محتوم!

- لست أنا بالضبط كان أبي يعمل في البلاط الملكيّ، وقد قتل يوم 14 تمّوز ، أمّا أنا فكنت مع أمّي نصيّف هنا في لبنان، كانت اتفقت مع أبي على أن يلتحق بنا حالما ينهي عمله لكن.. وبعد سنتين من الحادث تزوّجت أمّي من البير، فرزقت بأختي نوليا

 مسلمة أختها مسيحية، أبوها مسلم وعمها زوج أمها مسيحي. الشرقية .. الغربية مثل الموسيقى التي سمعتها من دون كلمات بعد أغنية بياع الورد مباشرة. موسيقى فقط.صاح يحكي لسكران المفروض أن أتكلّم فتسكت هي، زوج أمّها البير ساعدها فاستثمرت أموالها.. أنا حين أسكر أول عضو أفقده رجلاي لاأحس بهما. تنفصلان عني تماما.أما الناس فيفقدون رؤوسهم هي فقدت والدها وبعد قليل يمكن أن تقول لي أنني ساهمت في قتل أبيها لأنني صفقت وتظاهرت مع من تظاهروا. تهمة جديدة.. عمري مدون في ورقة بطاقتي المزوّرة لم أغيّره. وفي جواز سفري الحقيقي.. لارجعية ولا استعمار.. وطن حر.. ديمقراطية وسلام.. كان عمري حينذاك سبع سنين.رددت عبارات لم أكن أفقهها. عاش .. سقط.. يعيش .. يسقطون.. تسقط.. ونريمان تنصرف لتلبية طلب زبون، تقول باسمة:لم تدمن هكذا؟ ماذا أفعل في الحانة إذاً ؟ أصليّ ؟ أستغفر الله.. أسبِّح.. أرفع يدي بالدعاء.. ثمّ إنّ رزقك على أمثالي، ألوّح لها مشيرا إلى الجهاز، فتتلاعب به لتنطلق الموسيقى الحنون.. Love me tender Love me sweet وتعود إليّ تسألني سؤالاً غريبا:

لماذا غادرت العراق؟

سؤال غريب عجيب، هل أنا شيوعيّ؟ إسلامي؟ قومي؟ آثوري؟ كرديّ؟ ربّما أكون كلّ هؤلاء بل أفضلهم.. هارب من العسكرية. لا أحب الذهاب إلى كردستان. نهر خوز في أقصى الجنوب تصنع الحلاوة الشهيرة.. اسمي لايهم مادمت أنا أؤلئك أبو فلان الأخ. السيد.. الشيخ.. الرفيق بالإمكان أن يكون اسمي في جواز السفر محمد ويناديني الناس باسم فرانس.لايهم ويبدو أنّي سكرت لأنني كلّ هؤلاء.!

- مالك سكتّ؟ هل أزعجتك؟

تعارفنا في بداية الطريق، وعلاقتنا غضة فلو سمعت عن أرنب دفعني للوراء، وحقل ألغام، ورجلين مقطوعتين عافت نفسي الطعام بسببهما لاتهمتني بالخوف والجبن:

- كلا، لكني غادرت مثلما غادر الآخرون!

فغمزت بعينيها كأنها تدلل طفلا:

- شيوعي؟

- كلا والله.

- قومي؟

- والعياذ بالله!

- كردي!

أعود أسال نفسي: أين كردستان من الجنوب؟ للمرة الأولى رأيت جبلا حين استدعيت إلى الخدمة في الجيش. أربيل.. الجبل يسقط أمامي فجأة.. مصادفة .. بل ليست مزحة مثلما قلت، والثلج أيضا إذ وانا صغير ألعب بالحالوب أتخيله يتساقط في البلاد الباردة بشكل كتل ضخمة تشبه قوالب كبيرة الحجم نبتاعها في أيام تموز وآب عز الحر أما السروال العريض فظننت أنه يسهل مهمة من يلبسه فيغنيه عن المرحاض عند المشي الأمر الذي لاأتمكن من فعله أنا صاحب الجلابية:

- بل عربي ابن عربي!

- غير معقول!

فقلت ساخرا من خيالات الطفولة والخمرة وكردستان ونذر الحرب:

- أنا كل هؤلاء دون أن أدري!

- عجيب!

- وما الغرابة في الأمر؟

 إذاً لم غادرت العراق؟

فقلت بشيء من الضيق غلفته بابتسامة خجول:

- كثير من اللبنانيين والمصريين والسوريين هاجروا منذ القرن الثامن عشر ومازالت الهجرة مستمرة هل يحرم علينا ما هو حلال للآخرين؟

آسفة لكني متيقنة أن كثيرا من العرب هاجروا بسبب الوضع الاقتصادي!

اجتاحتني موجة صحو.. العراق بلد خير.. دجلة والفرات.. النفط .. الزراعة.. من يهاجر لغير الدراسة والسلك الدبلوماسي يضع نفسه أمام الشك والتساؤل.قلت بشيء من التأثر:

- نحن بلد غني وأظن السيدة والدتك هاجرت بسبب وضع آخر غير الاقتصاد.

فهزت رأسها وقالت بابتسامة بدأت أشعر أني بحاجة إليها:

- الآن فهمت!!

- ماذا فهمت؟

- إنك سياسي!

- أبدا لا لكني هاجرت لأن العراق أصبح لايطاق!

 

 

الثلاثاء

16/1/1976

اليوم جربت أن أتمرد على المقصف الملكي.

حين صحوت ذهبت مباشرة إلى العمل..

 منذ بضعة أيام لم يكلفني صاحب الجريدة بكتابة أي استطلاع اجتماعي أو سياسي بل طلب مني أن أنزل إلى القبو حيث أنهمك بصف الحروف. كانت هناك مقالات كثيرة ومنشورات وبيانات تتطرق لموضوع الاحتقان والجو السياسي المتوتر علي أن أصحح اخطاءها وأتابع تسطير كلماتها. وأكد الرجل ثانية أنه يفكر أن ينتقل بمطبعته إلى شتورة او بعلبك إذا ما اشتعلت شرارة الحرب. في العصر كنت أحس بفراغ. أصبحت أشبه بالأسير للمقصف الملكي.ليس من شأني أن أتخذ مكانا أرتاده أكثر من غيره لافي البصرة ولابيروت أو أي مكان آخر.اليوم في مقهى بشارع فرعي يطل على سوق الهنود وغدا أقضي العصر بكازينو عند ساحل شط العرب.. والميناء.. والخورة.. من مكان إلى آخر .. من الساحل إلى الشرقية فالضاحية والحمراء. مكاني الثابت الوحيد الشقة التي أجرتها.ربما آوي إليها ساعة بعد العمل ثم أخرج لأعود بعد منتصف الليل وهناك علامات تشير إلى أني سأفقد كثيرا من حريتي وموردي الاقتصادي فقد فاحت رائحة الحرب وظهرت معالم إلحواجز على الطرقات.كثير من العراقيين القادميين إلى لبنان انضموا إلى المنظّمات الفلسطينية وانخرطوا في العمل الفدائي وسوف يبرز في الطرقات أكثر من حاجز يوقفني وأنا في طريقي من البربير إلى الحمراء أو إلى الساحل. اليوم تجرأت وقمت بجولة طويلة عريضة تمردت فيها على المقصف الملكي. ذهبت إلى الحمامات وجلست في مقهى مشهور ثم عدت إلى الحمراء وقضيت ساعات المساء في مقهى قريب من مدرسة الراهبات غادرت كرسيي إلى الحمام ووقفت بضع دقائق أمام المرآة فوق المغسلة.أنا صاح . شكلي لايبعث الشفقة ولا يثير الرثاء. مجرد تمرين أختبر به قدرتي على التمرد.كان علي أن أجرب كيف أقضي الوقت من دون المرور بالمقصف الملكي. لاأنكر أني شعرت بالفراغ. لم أندم لأني لم أرتبط بعلاقة حميمة مع أي لبناني خلال تلك المدة أما العراقيون فإذا ما التقيت أحدهم مصادفة فلن يشدني إليه غير السلام. أظن أني مازلت أخجل من خالد مردان. منذ أن رأيته يغتنم فرصة ذهبية لاحت حين وضع معلم الحساب كيسا معبأ بالفستف على الرحلة فأخذ يلتهم الفستف ويدس اسفل الكيس قطع الطباشير .. في جلسة حميمية حكيت لأخي الأكبر معلم التاريخ عن تلك النكتة فأخبر مدير المدرسة . لم يعاتبني خالد مردان على الرغم من العقاب الذي تعرض له أما أنا فقد أقسمت أن لا اذكر أي أحد بخير أو شر وألا أدخل في علاقة متينة مع أي مخلوق قط.

لعل هناك من يظنني انطوائيا لاأحب الاختلاط. قد يكون هذا صحيحا إلى درجة ما..

لكن سواء كنت منطويا أم .. ماذا بإمكان العراقي أن يعمل في بيروت غير أن يصبح فدائيا أو صحفيا أو أديبا؟ كان من السهل أن أنضم إلى أية من المنظّمات الفلسطينية لاسيما أن باب التطوع مفتوح لكل العرب فأكون صداقات متينة وأتعرف على أشخاص مهمين أستند إليهم عند الضيق . الحذر دفعني إلى أن أعيش كما أنا حتى العمال معي في المطبعة تحددت علاقتي بهم من خلال التعامل الرسمي المحض.. خطر في بالي أن أتوجه إلى مقر جريدة الطليعة فأوقفت سيارة أجرة أقلتني إلى شارع السلام عند بناية قديمة من طابقين على بابها واجهة حملت عنوان " حزب الشغيلة" وشعار المنجل والمطرقة. أول ماقابلتني الصالة وغرفة على اليمين مغلقة الباب. كانت البهو يعج بالدخان وأقداح الشاي ونقاش محتدم بين شابات وشباب ميزت منهم شخصا في العشرين يتحدث اللهجة العراقية بلكنة بغداد. سألت عن الآنسة لينا فرد علي صوت أنها خرجت توزع الجريدة وانبرى العراقي يسألني:

- الرفيق عراقي؟

- نعم

- سوف تعود على الأقل بعد ساعتين!

- طيب قل لها العامل في مطبعة المشرق!

 رجعت إلى الحمراء. تعشيت في مطعم الظلال، ولفت انتباهي محل كبير للقمار تزين واجهته ألوان متراقصة.دفعني الفضول إليه ولم أقامر من قبل فوجدتني أستقر على كرسي مريح أمام لوحة ذات مربعات تحمل صورا وأرقاما. لعبة لذيذة تسحر فعلا.أشياء كثيرة ومشاهد متنوعة فاتني أن أنتبه إليها. المقصف الملكي فتح عيني على أمور كثيرة تحيط بي كنت غافلا عنها.دفعت ليرة وتابعت اللعبة.ثم ليرتين. خسرت خمس ليرات وأوقفت اللعب.هذا يكفي قلت مع نفسي، وخطر لي أن أقصد سينما البيكاديللي.ثاني مرة أزور فيها السينما ولم يشرد ذهني عن الفيلم. شارلي شابلن.. في القطب.. ضحك في جو مشحون بالغضب.. حوالي الساعة العاشرة والنصف عدت إلى شقتي. سوف يتغير نظام الحياة هنا. يمكن أن يخرج الفلسطينيون من مخيماتهم واللبنانيون من مكاتبهم - إن انفجر الوضع - فيقيموا حواجز تفتيش. معي جواز سفري باسمي الصريح وهويتان مزورتان.. خالد علي.غسان جواد.. قد تزحف الغربية وتستمر الحرب ساعات. بالتاكيد أفقد وظيفتي وآوي إلى الشقة قبل الغروب. خطف .. اغتيالات.. تفجيرات في الشوارع.. اعدامات فأين أصبح وإلى أين يؤول المقصف الملكي. في الساعة العاشرة استلقيت على السرير .. وضعت الراديو الترانسستر على صدري شأني منذ كنت في العراق. هناك ليالي الصيف يمكن أن تستلقي على السطح. الراديو على صدرك تبحلق في السماء ويدك تعبث بالموجة. القاهرة. الأهواز.. دمشق.. عمان.. بغداد.. تستمع إلى أغان وتتابع برامج للتسلية وقصصا.ماذا تقول إذاعة لبنان الحر ؟ إذاعة لبنان الرسمية تتحدث عن موقف سليمان فرنجية. كميل شمعون يدلي بحديث إلى جريدة السفير.صوت الجبل.. الجميع يتحدثون عن التشنج والتهدئة وأنا قضيت يوما كاملا أجول بين مناطق الخطر المزعومة أقرأ الوجوه وأنصت إلى التعليقات لاهربا من الحرب المفترضة بل محاولة مني للتخلص من تعلقي بالمقصف الملكي!

مع ذلك قررت ألا أكرر تلك التجربة مرة ثانية فقد شعرت حقا بفراغ من دونه.

الأربعاء

17/1 /1976

وجدت نريمان في المقصف.قلت لنفسي وأنا أكرع كأسي الثالثة على التوالي هل تواتيني جرأة تمحو الخجل:الاثنتان تخرجان مع الزبائن، فلِمَ أتردد، واحدة سمراء والأخرى شقراء، وأنا حالي حال الآخرين أدفع مثلما يدفعون، هنا تسقط المحرمات والموانع بالتفصيل واحدة واحدة.كأنّ الخدر فصلني عن العالم:

- هل لي أن أدعوها.

أجابت زاجرة غير جادة:

- دعها وشأنها "وواصلت تتحاشى إجابتي" أين كنت يوم أمس.

لاتدري أو تدري أن سمرتها تثير فضولي. لبنانية سمراء، ظهرها وكتفاها تحفة أما أنا فيبدو أني خلفت ورائي فتيات في سن المراهقة رائعات السيقان يخضن الساقية وقد كشفن عن سيقانهن ولم يعرفن أن حادث القنطرة مدبر ومعد له:

- أسألك عن نوليا فتسألينني عن نفسي.

أشبه بالتحدي لا الغضب:

- وأنا أسألك أين كنت؟

- جربت أن أكون وحدي!

- في المنزل؟

- بل في كل مكان.

- وهل ارتحت؟

طبعا فأنا يمكنني ألا أشرب أو أدمن على شيء " ولكي أتهرب من رغبة تدفعني إلى المقصف " ثم إن نريمان تلومني على إفراطي فليس أمامي سوى الذهاب إلى السينما أو المقاهي!

- تستطيع أن تأتي فتشرب قليلا أو تتناول أي شراب غير مسكر " ولوحت بيديها كأنها تكنس الهواء" أقول لك لاتطلب أي شيء أحسن!

انتقلت عيناي بين قامتها مصادفة وساعة الحائط التي أشارت إلى التاسعة والنصف ثم جالتا في المقصف فرأيت ثلاث مناضد مشغولة فلم يغب عن ذهني أن عدد رواد الليل راح ينقص وقبل أن ألح في فضولي ثانية بسؤالي عن نوليا بادرتني باقتراحها الغريب:

- يوم الأحد تحتل نوليا مكاني في العمل ، فهل تحبّ أن تأتي معي إلى البحر.

- ماذا نفعل هناك؟

- أمارس رياضة الغطس.

- ستغطسين أنت ماذا أفعل أنا؟

في عينيها نظرة لاأريد أن اسيء فهمها تقطر معاني بعيدة عن ذهني:

- ألا تحبّ البحر؟

ياسيدتي غاية ماينصرف إليه ذهني أنّ في قريتي نهرا صغيرا وسط مجراه تتشابك النباتات التي إذا ماأخطأ سابح ووصل إليها التفت حوله كالأفاعي فلايستطيع منها فكاكا.فيه الغيلم الذي يعض الصغار ولاتشفى عضته إلاّ إذا صدنا غيلما وأخذنا قطعة من ليّته ودهنا بها مكان العضّة، وفيه مخلوقات صغيرة لايبين ضررها في الحال، فإذا ماآوينا إلى الفراش بدأنا نهرش جلودنا أترين أمهاتنا كنّ على خطأ وهنّ يحذرننا منه؟

تسألني بعينين مفتوحتين بدأت أشك أن فيهما شيئا ما ربما أستدرك معنه خلال الأيام القادمة:

- ألاتحبّ البحر.

الحق إني كنت أزور الساحل وأتلذذ بمنظر الماء ورؤية شخص قد يكون معتوها يتحدى الموت فينط من صخرة الانتحار. الصيف الماضي ظل يعيد تلك التجربة كل مساء... يقفز من علو مثل القرد محاولا أن يثبت للعالم أن تصورنا عن الموت والعلو ما هو إلا خطأ تدحضه قفزته.. هناك من يموتون وهو لما يمت بعد. وفي الصيف الماضي قبل أن تغضب بيروت ويهرب من الصخرة المنتحرون نزلت إلى الماء ولم أذهب بعيدا لأنني أخاف من الكواسج. لعلك تضحكين حين أقول إني قدمت من البصرة وفي خوف شديد من الكوسج. الكوسج في النهر والطنطنل في الظلام أما هذا الصيف فلن اقدر على الذهاب إلى الحمامات والساحل والأشرفية:

- ترددت كثيرا خوفا من المسلحين!

- إلى الآن مجرد شائعات!

أهز كتفيّ وأرد وأنا أنفث الهواء:

- وقد تكون حقيقة!

- أنا معك فبداية أي حريق هائل مجرد شرارة صغيرة.

امرأة قوية من النوع المقتحم.لاتخاف، لعل مهنتها طوعت الكثيرين بين يديها فضمنت السلامة في أي مكان:

- لاأخفيك أني ذهبت أمس إلى الساحل فرأيت الأوضاع تنذر بسوء.

- لاتخف عائلة أختي من الأشرفية وستكون معي!

وغابت إلى الداخل ثم عادت تحمل بعض السلطة واللوز:

- جوعان؟

 كان ذهني مشغولا بالبحر والمغامرة. كلما رأيت رجلا مقطوع الرجل قيل لي إن الكوسج أكل رجله أما ماذا عن كوسج تحت الأرض يقطع كلتا الرجلين فذلك مالا أستطيع ذكره:

- عندنا السباحة في شط العرب مغامرة كبيرة . الكواسج كثيرة لها حاسة شم عجيبة لاينتج عنها إلا ساق مقطوع أو موت محقق.

- هنا بإمكانك أن تسبح في أماكن آمنة محددة سلفا لاخطر يداهمها. واستفزني سؤالها المفاجيء:

- هل أنت خائف؟

وتحول استنكاري إلى سخرية، هربا من الواقع أو الوهم الذي لمسته في شط العرب النهر الخطر المعبّأ بحيوانات متوحشة والبحر الواسع الكبير الهاديء:

- أنا لاأخاف إلا من الطنطل!

- ماذا؟

- ألم تسمعي به؟

- كلا!

- إسألي السيدة أمك عنه!

- أرجو ألا تخاف من البحر!

- ربما لاحت على شفتي ابتسامة باهتة وسري ينقلب فجأة من السخرية إلى الجد:

قلت مادمت معك لا.

السبت

20/1/1976

الساعة الثالثة عصرا فترة القيلولة، قبل الذهاب إلى المقصف لفتت انتباهي حركة من خلف الباب الرئيس للشقة تلتها طرقات خفيفة أشبه بالنقرات، اجتزت الدهليز إلى الباب فإذا بها لينا الدغيمي. السروال ذاته والتسريحة ومشية العرج الخفيف قالت كأنها غير مصدقة:

- أنت تسكن هنا!

كانت تحمل على ظهرها حقيبة من الكتان طويلة مفتوحة الغطاء مثل حقائب سعاة البريد فبانت رزمة جرائد من فتحتها العلوية :

- يمكن أن نشرب القهوة معا! " وأضفت وأنا أشير إلى الجريدة المبسوطة على المنضدة انظري لم أنس صحيفتي قط!

فارتمت على أقرب كرسي واجهته في طريقها وأشعلت سجارة:

- في مكتب الحزب قالوا إنك سألت عني؟

وأنا أنصرف إلى المطبخ:

- جئت للسلام أولا والسؤال عن العمل ثانيا!

- أي عمل؟

- هل أنتم بحاجة إلى عامل؟

- عامل مطبعة؟

- قلت إنكم سوف تشترون مطبعة خاصة بكم فحدثتني نفسي عن حاجتكم لعامل خبير في الـ lay out يصفُ الحروف ويجيد عمل الزنكراف.

فأجابت وهي تنفث نفسا عميقا من الدخان:

- بعض الرفاق عندنا يتقنون الصنعة ولا أظننا نحتاج إلى شغيل براتب " وبعد رشفة ونفس آخر"

- وشغلك؟

- قد ينقل السيد الأشقر مقر عمله إلى شتورا أو ربما خارج لبنان!

لاحت السخرية على قسماتها ومطت شفتها السفلى:

- ابن محلتي أعرفه جيدا سيكون من أوائل المنهزمين مثله مثل بعض مسيحي الشرقية الذين نقلوا معاملهم إلى السعودية!

- معرفتي به قليلة ماعدا انطباعي عنه حين رأيته يصلي في المطبعة إذ يحين وقت الصلاة فظننته من التيار الإسلامي المعتدل!

- هذه هي البرجوازية صاحب مطبعة غني يبدي تعاطفه مع جماعة قليلات لأنهم مركز الثقل في البربير وغدا لو سيطرنا نحن لتودد إلينا أما إذا ..

وتوقفت عن الكلام فرانت لحظة صمت استغلتها في إشعال سجارة ثانية، فقلت أستطلع منها المستقبل:

- هل تتوقعين نشوب الحرب!

- بالتأكيد!

ونهضت وهي تسحق عقب سجارتها في المنفضة ، فبسطت إليها يدي محاولا أن أجس نبضها بحذر:

- هات يدك!

- ماذا ؟ تقرأ الكف؟

فتسللت إلى أنفي رائحة الطين القديمة من نهر أبي الخصيب. انحسر عن عيني شكلها الرجولي . تلاشى.. كنت أشم فيها عرق الفلاحات وطواشات التمور. مهما يكن فهي امرأة:

- يداك جميلتان وشعرك أيضا.

أطلقت ضحكة ساخرة، وقالت وهي تلقي الحقيبة على ظهرها:

- ماذا قلت؟

- ألم تسمعي؟ وتداركت: هل غضبت؟

فقهقت عاليا، وأردفت:

ألا تصدقين؟

- أنت تكذب!كذاب كبير وغير واقعي!

- كل امرأة فيها مسحة ما من الجمال.

- أعرف نفسي جيدا. لست جميلة ولا أريد أن أكون جميلة ولو قدر لي بعد ولادتي أن أكون بشكل آخر لرفضت!

صدمة متوقعة من امرأة لاتعرف المجاملة، امرأة قاسية الطبع ، ترفض الغزل والكلام الناعم.. عينا قطة وصوت خشن.. سلوك نمرة:

- كل هذا لأني مدحتك؟

- أتعمد أن أعمل في الحقل من دون كفين واقيين، وأهمل شعري، أنا جميلة بنظري وغير ذلك بنظر الآخرين!

- ليست هناك امرأة غير جميلة!

وشدت حزامها ثم عقبت:

- ماهو الجمال بمفهومك!

- أية امرأة قبيحة بمسحة قليلة من البودر والحمرة والكحل وشسوار الشعر ولاتنسي الآن عمليات التجميل يمكن أن تتحول إلى ملكة جمال فيمكن أن أخلق من أية قردة جورجينا رزق!

مطت شفتيها كأنها تعفط:

- مفهوم برجوازي رأسمالي متخلف للجمال!

شجعتني جرأتها على التمادي:

- أليست عندك غريزة مثل الأخريات؟

- هذا حديث طويل يمكن أن أختصره لك بجملة واحدة: لماذا لايحلق الرفيق كاسترو لحيته؟

- لعله يقلد كارل ماركس.

- الشيوعية إبداع لاتقليد مثلما تتصورها الأحزاب الشيوعية العربية البائسة!

- ماذا ترين؟

- الرفيق آلى على نفسه ألا يحلق لحيته بموسى مصنوع خارج كوبا وسوف يحلقها عندما تصنع كوبا أمواس الحلاقة!

فراودني استنكار وأنا أتطلع إلى سروالها:

- ها أنت تخرجين عن المبدأ وترتدين الكابوي الأمريكي القادم من بلد الامبريالية القذرة!

- لأنه رخيص وعملي يمكن أن ألبسه عدة سنوات. الأمور أكبر من أن نعالجها بسطحية مثل شخص يسكن شقة متواضعة المطبخ المطبخ فيها هو الصالة وهو غرفة النوم يعيش حياة العمال ويحلل الأمور تحليلا برجوازيا. تلك هي المأساة!

- أووه لاتعقدي الأمور.

وهصرت يدها فاستلتها من يدي دون أن أدري أن رغبتي ماتت وخبا انفعالي:

لو قلت لي يداك خشنتان وشعرك غير مرتب وفيك رائحة تعرق ووجهك طبيعي ليس جميلا لاقترحت عليك أنا أن نذهب للفراش لكنك على مايبدو دجال غير محترف!

فضحكت من أعماقي وقلت:

- أظنني فلت من الطنطل بأعجوبة!

- ماذا؟

- ياسيدتي كائن خرافي يظهر في الليل لأي إنسان يقطع البر أو البساتين فيضع قضيبه في دبره إلى مطلع الفجر!

ردت بشيء من النفور:

- يبدو أنك ماتزال تعيش عصر الخرافة!

فهتفت مع نفسي:

- إنك حقا معتوهة

- ورافقتها إلى الباب الخارجي!

الأحد

21/1 /1976

ترجلنا من السيارة عند الجرف وهبطنا المنحدر إلى الرصيف النائي القريب من استدارة الحمامات.قالت إن كل شيء جاهز ، وكرعت من قنينة جرعة كبيرة من الماء ثم عبرنا الرصيف إلى الزورق. مازالت برودة يناير تهوم في الجو لكن دفء البحر أضفى عليها مسحة من الحنان.عالم جديدأشبه بسحابة من الألوان مبسوطة أمام عيني أنا القادم من منفى فيه كل شيء ولا شيء.كانت تجدف فنبتعد مسافة ما عن الساحل باتجاه الدوار، ثم تركت المرساة تهبط فثقل الزورق في مكانه:

سأغوص في هذا المكان!، وستبقى أنت هنا، وأضافت ممازحة:

لاتغادر الزورق!

أين تظنيني أذهب!

أشياء جديدة لم أرها من قبل.. شط العرب . ساحل الخليج.. قنينة الأوكسجين.واقية العينين.البدلة.الرمح الطويل المدبب.معدات لايهمني أمرها.فكري شارد ثمّ انتبهت إلى أنّها بدأت تتعرى، فيقشعر جسدها من نسمة خفيفة هبت عبر الساحل إلى البحر .لم أصدق عينيّ أنّ امرأة تبيع جسدها كلّ ليلة، فتظلّ تحافظ عليه بذلك الشكل الرائع. تمثال مرمر أبيض صاغه أحد نحاتي اليونان القدامى لإلهة ما.. اختلست نظرات طويلة عن بعد إلى سيقان فتيات المدرسة السمراوات وتحسست صلابة جسد مستهلك في حي الطرب.ترى كيف يكون جسد نوليا الأصغر سنا البرونزي اللون؟ جسدها يجرفني لحظات. امرأة لاتنكرني وحدي وتثبت الرجال الآخرين مثل نوليا أو لينا الدغيمي التي تمحوني وكل الرجال!.أعجب بجسدها. وربما كانت تقرؤ غفلتي:

- هذه البدلة ثقيلة بعض الشيء لأنها شتائية تقي من البرد!

كانت تستعدّ للغطس. فكرعت مابقي من قنينة الماء ، وكنت أجلس وحدي على ضفاف شط العرب فأخاف منه أكثر من أي بحر.خرافة خفيفة أو نسمة هواء تلفح رقبتي فاشعر بخدر لذيذ. رائحة عشب طفيلي يطفو على الماء، مايوه أزرق بلون البحر ولحظة تعر. الميني جيب بضعة سنتمرات فوق الركبة. لونجحت بمعدل عال لدخلت الجامعة وتأجل التحاقي أربع سنوات بالجندية. طالبات الجامعة أدخلن الميني جيب إلى البصرة ومعي امرأة تخلع ثيابها بحرية.. شمس ساطعة اكتسحت غيوما كادت تشحن الجو فتختفي وتعود تخيم بظلالها متربصة من بعيد.من يدري لعلني أتصور أشياء لم تحدث قط. لم أر غيوما قبل أن أدخل المقصف الملكي.ليس هناك من توتر بين الشرقية والغربية. أوهام، أما يدي فتمتد إلى ظهرها تلمس زبدا ناعما:

- ولا إعقل!

المناظر تلك الممتدة نحو الافق التي تغطي عينيّ لن أقبض عليها بيدي.الآن أبسطها فوق راحتي، فكيف تكون إذا اندلعت الحرب.سكون مشوب بالريبة.. البحر نفسه ساكن.مع ذلك مامن أحد يشعر إلاّ وهذا الصمت الرائع سينفجر في لحظة ما. التفتت إلي بعد أن ارتدت بدلتها:

- هل تعرف السباحة؟

تعلمتها في الساقية مع أطفال البستان، ونزلت إلى شط العرب مرة أو مرتين:

 - لا أظن أني نسيتها!

تلك أمور لاتنسى مثل المشي والكلام، وحلت فترة صمت انصرفت فيها إلى فحص أنبوبة الأوكسجين:

- هل جربت الغطس؟

ذاكرتي تتشبث بالنهر الصغير في قريتي نهر خوز بأقصى الجنوب.طين السواقي رائحته تفوح على ساحل بيروت وتنوء بصورة طفل غطس في بالوعة المدرسة التي فاضت بانتظار سيارة البلدية، كنا نضحك منه، وأنا الآن أغوص في البرّ.أسوح في البلدان من دون جواز.غجري.. كلنا نحمل جوازات سفرٍ السياسي منا ورجل الدين والضائع.كلنا فدائيون وصحفيون شعراء وكتاب، فمن علمني السباحة في البصرة:

- مالك ساكت.

- البحر سحرني .

- جميل ؟

ليس دجلا أو كذبا كما فعلت مع لينا الدغيمي إنها حقا جميلة لم تترك مخالب الآخرين من آثار على جسدها وكأنها في الثامنة عشرة من عمرها:

- جدا كظهرك!

- جِدّ؟

- لاأبالغ ولاأنافق!

- إذاً سأكافأك على مديحك لي مادمت تعرف السباحة سأدبر لك المرة القادمة بدلة فتنزل معي.

بدت أشبه بمخلوق قادم من الفضاء.

غابت عني حورية البحر.

غطست.اختفت.. تلاشت.

كم تغيب؟ تمنيت أني لو أجد ملاذا في الماء إذا ماقامت الحرب. للمرة الأولى أجلس على الساحل فأرى أشباحا وأحس المدينة غريبة عني. حين دخلت بيروت شعرت أنها تعرفني منذ زمن بعيد أكثر مما كنت أعرفها .. وجدت ألفة في الساحل والصخب المنتشر على الأرض والماء. أين هي جبال أربيل. ابن البصرة الذي لم ير جبلا في حياته واجهه زوزك وهندرين وسكران. كان ينوء ببسطاله وحقيبة المعدات على ظهره فكره الجبال التي فاحت منها رائحة الموت وأطل عليه بعدئذ في هجرته الأولى جبل أليف ينزل على قمته الثلج وعند سفحه يسبح المصطافون، فهل انتشرت حمى الموت في كل مكان.. قبل بضعة أيام على الساحل قريبا من هذا المكان قرأت غضبا كامنا في العيون ورأيت شبابا مدججين بالسلاح وفي هذه اللحظة ليس هناك من أحد سواي وبضعة أشخاص يروحون ويجيؤون وثمة زوارق صيد عن بعد وباخرة أّنت وسط البحر وخفت صوتها قبل أن تطلع إليّ نريمان وبيدها الرمح الطويل وتنفض الماء عن وجهها، ثم تتحرر من أنبوبة الأوكسجين:

- ماذا كنت تفعلين هناك؟

- ستعرف حين تغطس.

- يبدو أنك لم تجدي شيئا ما!

لم يصادفني أيّ قنفذ أو أخطبوط ولا حتى محار فأنا خشيت أن تضجر وتغادر فأخرج ولاأجدك!

فاعترتني موجة من الانشراح وهبت نسمة ملأت رئتي بهواء مندى، فقلت:

أين أهرب وأنت تحاصرينني بالماء!

- إذاًستزل معي اتفقنا؟

- وإذا لم نتفق؟

- ألقيك بنفسي في البحر.

- مادام الأمر كذلك اتفقنا!

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم