صحيفة المثقف

الارث

داود سلمان الكعبيكان من عادة اهل المدينة الفقيرة (مدينة الفقر) المسماة على اسم اهلها الموغلين في خواء العوز والفقر، من عادتهم أن الفتاة اذا تزوجت يسقط ميراثها من ابويها، لأنهم يعتبرون أنه من المعيب جداً أن تطالب بذلك الارث، والفتاة التي تفعل ذلك يعدونها خارجة عن تلك القوانين، فتاة لعوب ناكرة للجميل الذي اسداه لها ابويها، وكذلك يعدونها انسانة تخالف عرف اهل (مدينة الفقر) التي عاشت وترعرعت فيها.

وعليه لم تتجرأ أية فتاة خرق تلك العادات والاعراف السارية المفعول في تلك المدينة، لكن عائلة محمود المنسي هي العائلة الوحيدة التي خرقت تلك القوانين، حتى اصبحت حديثاً على لسان صغير المدينة وكبيرها. "كيف تجرأت هذه العائلة على خرق هذا القانون، يا للعيب".

محمود المنسي كان رجلا طيب القلب، لطيفا، محبوب جدا وسط ناس المدينة، والكل تكن له التقدير والاحترام، لأنهم عهدوه من زمن طويل لا يتدخل في شؤون الآخرين ابدا، واذا ما مرض احدا من أهل المدينة تجده على رأس الوافدين الذين يزورون المريض ويطمأنون على صحته، واذا ما اقيمت حفلة زفاف لأحد ابناء المدينة تجد محمود المنسي اول المهنأين، ويكون حضوره فاعل وذو حراك وسط الناس يشار اليه بالبنان، فهو بحضوره كأن حفل الزفاف لأحد ابنائه وليس لفرد من افراد المدينة. هذا وغيره من الامور التي كانت يعرف بها محمود المنسي، علاوة على ذلك انه كان دمث الخلق معطاء، يحب جميع الناس على حد سواء، ولا يفرق بين كبير وصغير.

أما زوجته، فهي الاخرى تماز في نفس هذه الصفات الحميدة التي يتصف بها زوجها، حتى كانت مضرب الامثال لدى نسوة المدينة بذلك. فكانت بعض النسوة يحاولن تقليدها في بعض الصفات التي كانت تمتاز بها هذه المرأة الجنوبية، فمثلا كانت حينما تزرها احداهن في بيتها، فهي تحاول أن لا تقاطعها وهي تسرد بحديث، حتى وان كان ذلك الحديث تافه وليس له معنى، كانت تستمع اليها بإنصات الى أن تتم حديثها، وحينما تهم بالخروج لا تتركها تذهب الا وأن تعطيها حاجة من حاجات المنزل كهدية وامتنان لحسن الزيارة، فكانت النسوة يتسابقن في زيارتها كتسابق فرق كرة القدم حينما يتسابقون وراء الكرة ايهما يستطيع أن يصلها قبل الآخر حتى يركلها برجله لدخولها الى عارضة الخصم.

وفي ليل يوم من ايام ذلك الصيف اللاهب فزع اهالي المدينة على صوت صراخ منبعث من منزل محمود المنسي، فتبين أن زوجة محمود المنسي قد وافاها الاجل فلسمت روحها الى بارئها اثر ارتفاع ضغط الدم المفاجئ.

وظلت اهالي المدينة حزينة عليها ثلاثة ايام، يستذكرون مواقفها الاجتماعية والانسانية معهم، ويتأسفون على الروح الشفافة التي تمتلكها تلك الامرأة، "انها لخسارة كبيرة ستبقى الى الابد"، هكذا كانوا يعلقون.

وظل محمود المنسي يندب زوجته ويبكيها، لا يكاد أن يتحمل فراقها وبُعدها القاسي الذي ظل يضرب كضرب السياط على ظهر معاناته، فالمسكين قد اضناه فراقها واظلمت الدنيا في عينيه لأجلها، لأنها كانت هي الامل المشرق في طريقه، فضلا عن انها كانت تداريه مدارة الام لوليدها الصغير، فهو بعدها شعر بفراغ هائل، حتى بدأ يذوي رويداً رويداً، وراحت الآلام تتسابق على مساحة جسده الناحل، وتتكالب عليه الامراض المختلفة من كل حدب وصوب، حتى صار كالغصن الجاف والورقة اليابسة، حتى لحقها خلال اقل من عام، فأبكته المدينة بكاءً مراً.

محمود المنسي قد ترك لذريته الخمسة (ولداً واربعة بنات) ترك منزلا قديم البناء، لكن المساحة التي بني عليها المنزل تقدر ببضعة ملايين دينار. البنات الاربعة عقدن العزم واتفقن على اخذ ميراثهن من المنزل، حتى وأن كان ذلك يخل بقانون المدينة وقانون العرف السائد فيها، وأن يضربن كل ذلك عرض الحائط.

ولما سمع اخاهن بذلك اخذه العجب والغضب معاً، اذ لم يدر في خلده أن اخواته سيفعلن ذلك وهم جميعهم من أب واحد وأم واحدة. فراح يرعد ويزبد، ويوعد ويهدد، رافض اعطائهن من ارث ابيه فلساً واحداً، حتى لو يدفع حياته ثمنا لذلك. فبعث لهن وفود كثيرة من اهل المدينة للحؤول بينهن وبين فكرة اخذ الارث، وكثرت المراسلات بين الطرفين، وتعددت المباحث. لكن اصرارهن ظل ثابتاً ولم يخضعن الى أي تأثير، بل ازداد اصرارهن اكثر من ذي قبل، لكنه كان مصراً، هو الآخر، على رأيه.

وبعد عدة اشهر اشيع خبراً في وسط المدينة مفاده أن حسان محمود المنسي قد اختفى عن الوجود على حين غرة، ولم تعرف اسباب اختفائه، وظل اهل المدينة يشرّقون ويغربون في الكلام، وبات حديث الناس هو اختفاء حسان محمود المنسي ليس في حديثهم غير هذا حديث، وبعضهم ذهبت به الظنون الى أمور أخرى.

وبعد عدة أيام عثرت الشرطة على جثة رجل مجهول الهوية، مطعونة بعدة طعنات بسكينة، قيل ان الجثة تعود الى حسام محمود المنسي.

 

قصة قصيرة

داود السلمان

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم