صحيفة المثقف

هل نعرفُ حقاً ثورةَ الحسين؟

مافائدة أن تمرَ ذكرى شهادة قدوة الأحرار الإمام الحسين إذا لم نستلهمْ منها شجاعةَ الموقف؟

إذا تلقيّتَ الشجاعةَ في بيئتك الأولى فأنت تحملُ نفساً من تلقائها قويةً، فتكون سندَك المتين في مواجهة الأخطار التي قد تهدد حياتك، وتهبك القدرةَ على تقويم الوضع الخطأ أو نقده، في أي منحى تنحوه في هذا الفضاء الواسع، أو حتى مواجهة الظواهر الحياتية والمجتمعية الخاطئة(أُجرؤ على استخدام فهمك الخاص).

الجبن والتردد والحذر والخوف من المواجهة أو قول الحقيقة هي شقوق تتخلل النفسَ فتحدث فيها هشاشةً، وهي نابعةٌ من عنف وقمع وإرهاب سلطوي ممارس أيا كان نوعه، في مراحل مختلفة من حياة أي أحد. الاستبداد يكبل القوى الجسدية والنفسية للناس ويسجنها في زنزانته التي تحلو له، ويسرق الثقة من نفوسهم ، فيكونوا ضعفاء أمام مواجهة الخطأ.

من يستطع حشوَ الشقوق بجرعات من الشجاعة والصدق والإقدام، تغدو النفسُ قويةً في مواجهة الخطأ، بالضبط كما تنبت الأشجار من بين شقوق الصخور (الانتصار على الخوف بداية الحكمة).

الإبقاء على الخطأ وتأييده والوجل من التصريح به، هو حالة خطيرة، ونتائجه سلبية على المستقبل البعيد. المجتمع الذي يخاف من الفكرة الجديدة لايتقدم خطوة واحدة للأمام، ولايمكنه مواكبةَ عصر المعلومة السريعة، والبالغ التعقيد الذي شكل العالم بأسره في قرية صغيرة متلونة بشتى الألوان التي غزت حياتنا وأذهبت حتى النوم عن أعيننا؛ يفرض علينا التسابقَ معه شئنا أم أبينا.

سادت حالةٌ ملحوظةٌ في مجتمعنا في السنوات الأخيرة؛ هي التطرف في إظهار المظاهر والمشاعر في مناسبات الفرح أو الحزن فنرى إسرافاً وبذخاً بأدق وأتفه تفاصيل المناسبة التي ربما لايليق بها الإسراف والبذخ. مردُّ ذلك كله الضغوط الشديدة المختلفة النابعة من سلطات عليا مستبدة كأن تكون مجتمعية، أو دينية، أو سياسية. حالة الحماس هذه أحيانا تشعرك إما بالتفاعل معها، أو الإحتجاج العلني أو السري، أو في بعض الأحيان يتولد شعور لديك بالرغبة في أخذ قسط من الهدوء وسط الضجيج والضوضاء اللذين يصكّان الآذان، وتجلس بعيدا لتقرأ كتابا جديرا بالمناسبة.

أي مناسبة مهمة إذا استطعت أن تقرأ فيها حال حدوثها أو ذكراها، فسوف تجد متعة خاصة غير ماتقرأ عنها خارج زمان الحدث، بشرط الاعتماد على منابع مهمة للقراءة فيها.

نحن في مناسبة مهمة هي ذكرى شهادة الثائر العظيم، الإمام الحسين (ع). أقرأُ في هذه الأيام كتاب (ثورة الحسين) للشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله) وهو أهم ماكتب عن ثورة الإمام (ع).

في هذه المناسبة؛ لاتجد فرقاً بين المثقف وغيره في التعبير عن المظاهر والمشاعر، فوتيرته واحدة في كل فئات المجتمع. إذا اعترضت ولو قليلا فسوف يوجهون لك سهام النقد والاتهام الباطل، وأنت ليس لديك قصدٌ سوى التروّي والعقلنة في التعبير عن المناسبة بأسلوب هادىء وليس هستيريا ضمن هستيريا مجتمعية، ولديك رغبة في توجيه دفة برنامج المناسبة وترويضه بالشكل اللائق بالحدث.

لايوجد فرقٌ مطلقا بين الواعي واللاواعي، منطق الناس نفسه (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)[1].

إما أن تحتج وتطلق سراح كلماتك المسجونة في عالمك الداخلي؛ في موضع آخر غير موضعك وفضائك، أو أن تسجنها في داخلك وربما لاتجد وقتا لإطلاق سراحها، فتلقي على نفسك الأسئلة، منها: مافائدة العلم والثقافة إذا لم يلهماني أسلوبا مختلفا في التعامل مع المواقف والمشاهد والناس؟

لكن الجواب لايأتي الاّ من نفسك التي في الغالب تجدها غريبةً في مجتمع توحّدك به قواسمُ مشتركةٌ، فتضطر أن تحتفظ بقناعاتك لنفسك، والتعايش مع المجتمع، الذي لايتقبل فكرة التغيير، فالانسان كائن اجتماعي بالطبع، رافعا لافتة أبي العلاء المعري:

ولما رأيتُ الجهلَ في الناس فاشياً        تجاهلتُ حتى قيل أني جاهل

المقصود بالجهل هنا ليس جهل القراءة والكتابة، انما جهل بالكثير من وقائع وأهداف كل حدث، فضلا على الجهل بالتعاطي مع الأحداث المهمة بالمظاهر والمشاعر.

مناسبة مثل ذكرى شهادة الإمام الحسين(ع)، فيها الكثير من المفردات من بين العشرات نذكر منها:

المفردة الأولى: يكتنف المناسبة من الغث والسمين في التفنن بإظهار المظاهر أي الشعائر، والمشاعر، وقد نالت الحصة الأكبر في المبالغة بكل تفاصيلها. صحيح أن إحدى أسباب خلود النهضة الحسينية هو الشعائر والمشاعر التي حفظها مجتمعنا، لكن فيهما الكثير من الأخطاء والمغالطات التي لم نرَ ولم نسمع عنها شيئا من قبل، وأكثرها مستقاة عن علم أو غير علم؛ من حضارة بلدان الجوار والأديان الأخرى.

المفردة الثانية: مناسبة ذكرى شهادة الامام الحسين (ع) أضحت اليوم حالة موسمية استعراضية؛ يمضي الناس وقتا للتسلية فيها؛ وهو مانراه ونلمسه على  الدوام. تحولت الى مناسبة للاحتفاء بما لذ وطاب من المأكول والمشروب، واستعراض آخر صيحات الموضة غير اللائقة في اللباس الأسود، لمناسبة شهادة امام قدم دمه لنا لنحيى بكرامة وعزة نفس. التبذير والاسراف في كل شيء؛ والله نهانا في محكم كتابه عن التبذير (ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا).[2]

روح الإمام التي أُزهقت من أجل رفع الظلم والفساد المستشري في المجتمع والإرتقاء به نحو الخير والفضيلة، وانتقلت الى بارئها مطمئنة راضية مرضية، من المفروض أن تُكرّم، وذلك بالسعي نحو الإصلاح، الذي هو أهم أهداف الثورة الحسينية؛ وماأحوجنا اليه!

كل المتصدين سواء خطباء أو أصحاب الحسينيات والمواكب؛ من المفروض أن يشحذوا الهمم باتجاه الإصلاح.

الظرف العصيب الذي يمر به وطننا الممزق الأشلاء والمهشّم بكله؛ يفرض علينا التمعن جيدا بالثورة الحسينية وإضاءة مقاصدها. الإصلاح فيه تفاصيل كثيرة منها؛ إصلاح الخطأ في الوضع الاجتماعي أو السياسي أو الإقتصادي. ووطننا الآن بأمس الحاجة لأخيار مصلحين، قادرين على احتواء المناسبة بكلها؛ بالجهود والطاقات الشابة والأموال التي تُهدر بإسراف. على سبيل المثال؛ يُؤسس صندوق خيري يجمع كل الأموال من المعنيين والمتبرعين لإنشاء مشاريع تعود بالخير على الناس؛ كمشروع تحلية للمياه، أو مستشفيات للمرضى، أو بناء مدارس،  أو تبليط شوارع، أو فتح مراكز ميدانية للتبرع بالدم يوم عاشوراء بدلا عن إهدار الدماء بشج الرؤوس بآلات حادة حتى يتحقق رضا الإمام، ورضاه (ع) لايتحقق الاّ بترشيد المشاعر والشعائر وتوجيههما بالسبل الصحيحة الصائبة.

بأداء هذه الوظائف العظيمة بالتأكيد سوف تقرّ روح الإمام؛ وتتضاعف سعادتها.

المفردة الثالثة: على الدوام يذكر الخطباء على المنابر، أن روح الإمام جالسة بيننا، ترصدنا بدقة؛ وهذا مايتطلب من الحاضرين الإلتزام بالأدب العالي لأن روح الإمام تتألم اذا رأت حركة غير لائقة أو تصرفا مشينا.

روح الإمام (ع) أضحت اليوم ألعوبة بيد الخطباء وكأنها دمية مطاطية، يشكلونها كيفما شاءوا؛ فمرة يجلسونها في السماء تنظر لمن في الأرض، ومرة ينزلونها للأرض جالسة بين الناس؛ ترصد حركاتهم وسكناتهم وتنتقل من موكب لآخر، ومن بلد لآخر، تتألم أو تفرح، متناسين أن روحه روح شهيد طاهرة قديسة قارّة عند ربها في عليين وفي الخالدين، ولاعلاقة لها بالأرض. الموجودون بيننا هم الملائكة فقط وهم يحصون أنفاسنا ويعدونها عداً (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)[3] .

مشكلة الخطباء حين يعتلون المنبر ينسون أن في المجالس ربما يوجد من يتمتع بعلم وثقافة أعلى منهم بكثير.

الامام الصادق (ع) يخاطب الإمام الحسين (ع) في زيارة له: أشهد أن دمك سكن في الخلد. اذا تمعّنا في خطابه أنه لم يتعرض لروح الإمام، ولم يقل له: أشهد أن روحك سكنت في الخلد، أو أن روحك سائحة في الأرض تراقب وتحاسب الناس وتوزع صكوك غفران عليهم، مهما اقترفوا من خطايا؛ وهم يعلمون حق العلم أن الرسول(ص) بمقامه يجهل أمر الروح، والله يخاطبه بالآية الكريمة (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وماأوتيتم من العلم الا قليلا)[4] ، فمن أين أتوا الخطباء بعلمهم الروحاني هذا؟!!

نتمنى على المتصدين وعلى رأسهم الخطباء؛ وهي مسؤوليتهم التي سيُسألون عنها لاحقا أمام الله، أن يؤمنوا أولاً بما يقولونه، وأن يراقبوا ما يفصحون عنه على المنابر، والكلمة هي المسؤولية. العظماء الذين خلدهم التاريخ لم يموتوا حتى تُغلف قضاياهم التي قدموا أرواحهم قربانا لها بخليط مزركش من الخرافات والخزعبلات؛ يملونها الخطباء على الناس، مستغلين بساطة وبراءة الأغلبية منهم.

على الخطباء أن يوضحوا المعاني الحياتية المهمة التي نستلهمها من الثورة الحسينية، منها الخلود وكيف يمكن للمرء أن يسجل خلودا بعد رحيله، والخلود معنى عظيم إذا تمعنا فيه، وسبيله عدم الخنوع للظالم ومحاربة الاستبداد بالمضي قدما حتى تقديم الروح قربانا لتحقيق العدل وبسط الحرية واسترداد الكرامة. ونرجو أن يكونوا على بصيرة ويبصّرون الناس عليها أن (العباقرةَ شهبٌ كُتِب عليها أن تحترقَ لإنارةِ عصورِها) .

 

بقلم: انتزال الجبوري

..................

[1]- الزخرف- 22.

[2] - الاسراء – 27.

[3] - ق -16.

[4] - الاسراء- 85.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم