صحيفة المثقف

يوم ممطر

صحيفة المثقفأعادت عقص شعرها فسجنته في شريطة مطاطية مغلفة جميلة، كانت قد انتهت من إرتداء ملابسها ووضع طبقة من "مكياج خفيف" تليق بها كطالبة جامعية . أتمت استعداداتها للخروج وإذ كانت تسمع وقع المطر أزاحت طرف الستارة قليلا لترى مدى كثافته : حسنا انه كثيف ... قالت ذلك في نفسها لذا ما كان عليها الا أن ترتدي حذاءها الجلدي ذا العنق الطويل الذي يغطي ربلتيها الجميلتين ويحاذي ذيل تنورتها المصنوعة من قماش صوفي سميك يتكون من مربعات متداخلة مع بعضها اصطلح الناس على تسميتها "سن الذيب" وكان في سترتها " ياقة " كبيرة وجيبان من نفس القماش وكذلك غطاء للرأس قابلا للوضع والرفع حسب ما تقتضيه الحاجة وحالة الجو . وأخيرا سمعت صوت نفير الحافلة الصغيرة التي ستقلها مع بضع طالبات اخر وطلاب الى الجامعة .

كان يومها تقريبا عاديا مثل كل الأيام الاخرى حضرت دروسها وثرثرت مع زميلاتها في مختلف موضوعات الحياة من الجو الى الفلسفة والأدب والسياسة الى سعر قناني الغاز الذي ارتفع كما تقول امُّها الى الضعف . ثم استنسخت ما فاتها من محاضرات مهمة فامتحانات منتصف السنة وشيكة، ثم سعت بلهفة المشتاق الى من تتمنى وتتوقع أن يكون شريك عمرها فحيته وثرثرت معه مبتعدين عن وابل المطر الذي بدأ يغطي حدائق الجامعة ومقترباتها حتى انها بدت واحة أو غديرا  .

لم ينقطع المطر حتى لدقيقة واحدة بل كان مستمرا متواصلا . فكان التلامذة جميعا يحتمون منه متجمهرين داخل القاعات الدراسية أو في الممرات نصف المظلمة والحافلة برطوبة عالية .

وإذ حان موعد الرجوع الى البيت أسرع الطلاب وهم يخوضون في مستنقع الماء الذي ارتفع فوق الأرصفة والممرات الإسمنتية حتى انه دخل بلا استئذان الى أحذية الطلبة الذين لم ينتبهوا فلم يحتاطوا بلبس أحذية عالية الأعناق . أما الطالبات المحجبات ذوات " التنانير " الطويلة فقد تناوش الماء ملابسهن ببساطة  فأصبحت - حينما يصلن لمكان مرتفع لم تصله المياه - اصبحت " تنانيرهن " هي أيضا تمطر كالسماء وكأنها موضوعة على حبال الغسيل لتجف . كانت المظلات مفتوحة فوق الرؤوس المتقاربة لتحمي إثنين أو ثلاثة معا . ومع ان المسافة الى الحافلة التي ستعود بهم لديارهم لم تكن كبيرة غير إن شدة المطر قضت أن تبتل ملابس الجميع حتى التصقت بأجسادهم الا من احتاط لنفسه بمعطف مطري اشتراه ذووه في أزمنة الخير فهو الآن يرتديه للضرورة مع إن " مودته " غالبا قد تجاوزها الزمن . وطالت يد المطر الأهوج حتى الأساتذة الذين انسفحت وسالت شعراتهم التي عافها الصلع المستشري برؤوسهم على جباههم وأقفيتهم فبدد هيبتهم وأزرى بهندامهم . ومن بعض الأيدي الرخوة المرتبكة سقطت أوراق المحاضرات لتسبح في البحيرة الموحلة كسرب من البط .

التحم الطلاب عند أبواب السيارات للدخول اليها فما انفك المطر يلقي بما في قربه فوق رؤوسهم حاسرة كانت أو مغطاة . وحين استقروا بدأوا يهدؤون نوعا ما، فتنفسوا الصعداء وأخذوا يتحدثون كل منهم يروي ما جابه من صعوبات هذا اليوم غزير المطر غير المعتاد . كان العصر قد ولى منذ زمن وبدأ المغرب يطل برأسه في سماء كابية توشك غيومها أن تلغي زرقة السماء تماما . ولأن سائق الحافلة الصغيرة توجس من الطريق وخشي أن يدخل الماء الى أجهزة السيارة فيعطلها انقلب وحافلته سلحفاة في طريق إعادة الطلاب الى منازلهم . قلق الطلاب جميعا من شبان وفتيات لقلق أهليهم بسبب تأخر وقت العودة الذي ألفوه هم وأهلوهم . وإذ كان الماء مستطردا في الارتفاع في الشارع الذي أصبح إناء مفعما بماء المطر المتسارع والسائق المتوتر يحاول جهده الا يؤدي بسيارته الى مرحلة الإنطفاء أو العطل، كان عليه أن ينعطف الى شارع آخر لا كما هو طريقه اليومي المعتاد . وهنا انبرى له إشكالٌ من نوع جديد إذ رأى عمودا كهربائيا طويلا يعترض الشارع وقد تمدد في وسطه وكانت الكهرباء تتناثر منه على شكل نافورة مضيئة أو العاب نارية في احتفال ما . ما كان عليه أن يتقدم خطوة اخرى بل جمد السائق وحافلته في منتصف الشارع مفكرا .

كانت بيوت بعض الطلبة قد أصبحت قريبة ومع أن الطريق موحل والبرد شديد غير أن بعض العجولات والمتهورين فضلوا قطع المسافة المتبقية مشيا وفكرت الاخريات والآخرون انهم ربما استطاعوا الحصول على سيارة اجرة تقلهم الى بيوتهم ...هذا ما تحدثوا به مع بعضهم .

كان بيتها على بعد معقول وهناك كان الدفء والحنان والطعام الساخن فقد اعتادت امها أن تطبخ في مثل هذا الجو حساء مصنوعا من العدس اللذيذ، وبما انها كانت تجلس قرب باب الحافلة قفزت الى الشارع بشبابها الغض وما هي الا خطوات وإذا بصرخة هائلة وإذا بحقيبتها ترتمي في الماء ويتناثر ما فيها ويقفز غطاء رأسها المصنوع من قماشة " سن الذيب " ليبتعد عنها سابحا ككلب ضال في الغدير الموحل الذي ولد اليوم على حافات المدينة المهملة . قفزوا بعدها جميعا وبلا استثناء الى الشارع ليسقطوا بعد خطوات . ظن المتأخرون ان زملائهم تزحلقوا وكبوا لذا لم يرتدعوا بل أسرعوا بالنزول من الحافلة أيضا الى شارع الموت الجماعي .

*** 

سمية العبيدي - بغداد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم