صحيفة المثقف

إلهة الحرب لينا

قصي الشيخ عسكرالجمعة

 26/ 1 /1976

 قضيت الليلة معها..

بقيت في المقصف إلى ساعة متأخرة. كانت ترفض أيّا من العروض وفضلت الذهاب إلى شقتي. عاملتني معاملة صديق ولم تتطرق إلى مسألة السعر وهي المرة الأولى أقضي هنا في شقتي ليلة كاملة مع امرأة. كنت أشعر بالسعادة. اللحظات الأولى اضطرمت فيّ الرغبة. أخذتها بين ذراعي، وملت أستريح على صدرها لكن فجأة خفت كل شيء. مثلما جاءت النزوة اندحرت. ليس خوفا من الإصابة بالمرض ولم يكن بهاجس شرير بل هناك وازع ما.. برود مفاجيء اجتاحني بعد انفعال حاد. اشتهيتها على البحر وعجزت عنها في منزلي:

- مابك هل أنت متعب؟

- يبدو كما قلت.

- لاعليك في المرة القادمة.

قلت بعد صمت أطبق دقائق:

- سواء أحدث أم لم يحدث فلن أنكر حقك!

فداعبت صدري بكفها الناعمة، وقالت:

- إخجل ياولد نحن أصدقاء!

- آسف

حاولت مرّة أخرى فلم أستطع فانقلبت على ظهري جنبها أحلق في السقف. أخفقت مع المرأة الوحيدة التي قبلت بي. لينا رفضت الجميع. تريدني مغتصبا فتحقق رغبتها معي مادامت رفضت جميع الرجال فالأولى بي ألا أعدها هزيمة لي وحدي. كلنا برأيها نحن الرجال مغتصبون لابد أن نغتصب بعضنا بعضا لنعرف الجنس، أما نوليا فتقول لي لا.. تمتنع عني وحدي. لا أدري كيف يتعامل معي لبنان. صديق أم عدو أو مشبوه أمر لا أفهمه إلا من خلال نريمان ونوليا ولينا المرأة الرجل الثالوث القديم اللات والعزى ومناة إلهات عبدهن أجدادي قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ثم عدن من جديد فقبلتني واحدة وأخرى رفضتني من دون سبب والثالثة لم تقبل نذري لأني كذاب ودجال كل هذا حدث كوني رأيت غير الجميل جميلا. إلهة الحرب لينا. أنسى أني عاهدت نفسي ألا أذهب مع بغي. هي المرة الأولى التي زرت فيها حي الطرب فأصبت بالسيلان قلت لتكن الأولى والأخيرة. بنات الهوى والليل في بيروت يختلفن. أكثر نظافة أم أكثر حصانة. كل الافتراضات لاتسوغ عجزي. ثلاث نساء أمازونيات متوحشات يحملن الرماح شبه عاريات وقد تركت قريتي في اقصى الجنوب وذهبت إلى أقصى الشمال أطلق النار ثم هربت إلى بيروت فبرزن لي. المهم إني أخفقت وصوتها ينتشلني:

- ألا تحدثني عن نفسك؟

فقلت وعيناي تحومان فوق جبينها:

- هل ذقت حلاوة نهر خوز الشهيرة؟

- حلاوة ماذا؟

- نهر خوز ربما لم تسمع بها السيدة والدتك لكنها بالتأكيد سمعت عن الطنطل هل سألتها عنه؟

- هذا الذي يخيفك في الماء؟

- في كل مكان

- قل مم تصنع؟

- تشبه حلاوة الطحينية الشهيرة عندكم لكنها ألذ والدي محترف في صنعها ثم شاءت ظروفنا أن ننتقل إلى العشار فنملك ورشة صغيرة لبيع المواد الإنشائية!

- ألك إخوة؟

- اثنان معلم تاريخ وآخر ورث مهنة أبي!

- أنت الأكبر؟

نهر خوز والمدرسة الإبتدائية. خالد مردان. انتهك حرمة كيس الفستق، ومازال ضميري يؤنبني. يبدو لي أني بسببه أصبحت انطوائيا لاصديق لي:

- انا الأوسط.

- عندك أخوات!

- أمي ودت ذلك فكثيرا ماكانت تكرر لو رزقت بنتا لساعدتني في عمل البيت!

- يعني أنت الوحيد من بين أهلك غادرت العراق!

- نعم من حسن حظي

- سياسي؟

كأنك تقولين لم جئت وقد سبقتك نوليا. لوتعرفين أن خدمة الجيش عندنا مفتوحة ومشكلة الأكراد باقية، أية دعوة سنوية للالتحاق بقطعات الاحتياط تعني لاعودة للبيت فمتى أستقر وأبني بيتا أما الألغام على الجبل فتحيط بي من كل مكان. إما أن ينفجر بي لغم أو يقتلني قناص. أخي الأصغر مدلل بيني وبينه خمس سنوات ورث مهنة أبي ومازال طالبا وبيني وبين الأكبر معلمي سبع سنوات و كانت أمي تبحث عن مولودة بنت ولم تعثر عليها:

- يمكن أن تقولي إني لا أحب العسكرية ومن حسن حظي أني هاجرت إلى لبنان وبعد سفري بشهرين تحرك الشمال فاستدعونا للاحتياط ومازال أفراد دفعتي ينتظرون العودة للحياة المدنية .

فداعبت صدري براحة يدها:

- هل تشتاق لأمك؟

- أبي كتب لي حين عرف برغبتي في البقاء إن قراري يعني موت أمي البطيء!

- ابق هنا معنا أفضل لك!

لكن لبنان يتغير سوف ينشر فيه الموت ظلاله فيصبح مثل كردستان، وقطعت علي أفكاري:

- هل أنت مرتاح في سكنك!

لا اظن نريمان تفهم ماذا تعني بريهة والعشار وبيت واسع في باحتة شجرة سدر ونخلة. أسماء أرددها فتعرف عن حياتي. البصرة والنخل غابات الطلع ورائحة التلقيح العطرة ولشد ما سحرني الجبل في أثناء استدارة السيارة فشد عيني إلى نخلة رابضة فوقه. نخلة وحيدة على جبل فوق بيروت بين الأرز . نهر خوز أبو النخل.. بريهة منطقة سكننا.. العشار ومحل العمل ثم البربير، كل هذا الخير لاشيء نخل وبترول وجيوب معبأة بالنقود، ساحل على شط العرب .. الخليج وأنا لم أر في حياتي بدلة غوص وداعبت أنفي كأنها لاتريدني أن أتوقف عن الكلام:

- يعني شيء أفضل من لاشيء!

ومن دون مقدمات التفتت إلي وقالت بلهجة جادة:

- هل أنت سني؟

بيروت عادت تنظر إلي بوجهها الذي خلقت له. ماعلاقة امرأة تبيع جسدها كل ليلة بالدين والطائفة. لغة جديدة تتحدث بها لبنان معي. عندنا في العراق من يشرب لايتدخل بالدين ومن يرتاد الملاهي لايعرف الطوائف. يمكن أن أكون شيوعيا أو قوميا وربما من الإخوان المسلمين لكن:

- يمكن أن تقولي إني مولود من أبوين سنيين!

- سألتك لأن غالبية سكان البربير من السنة وفي لبنان وقت المحن كل يلتجيء إلى طائفته!

ربما أعرف ولاأعرف، ولعلي سمعت الأذان فأدركت ذلك ربما اسمع المؤذن يذكر عليا أو لايذكره. مثل دقات الكنائس عندنا في البصرة لا أعرف أهو ناقوس فرح أم وفاة فأنا القادم من قرية الحلاوة الشهيرة فتحت عيني في القرية على عوائل سنية وأخرى شيعية. بريهة والعشار.. لم يشكل لي الاختلاط عقدة وحين وصلت إلى لبنان وحصلت على العمل في مطبعة المشرق دلني السيد فاروق الأشقر صاحب المطبعة والجريدة على سكن قريب من عملي. فرصة لاتعوض توفر لي أجور النقل والوقت:

- لو لم أجد هنا لوجدت في الضاحية.

- هنا مكان جيد أنت قريب من الحمراء ونحن لنا علاقة بالمسيحيين في الشرقية وبالمسلمين في الضاحية والبربير على الأقل نشعر ببعض الامان!

- أنت والدتك مسلمة؟

- أجل إسلام سني!

بيروت.. لبنان.. إسلام.. مسيحيون .. سنة.. شيعة.. دروز.. مارونيون.. أسماء .. ألقاب لعلها لاتمثل لي معنى أنا الذي لم أكن أعرف أني سني حين عشت في البصرة، وربما لم أع حقا أن السيد عبد الحميد الحلفي الذي علمني فن الطباعة شيعي، فقلت وأناملي تتراقص على ذراعها البض:

وأنت؟

لاأدري مثلك والدتي سنية وأختي مسيحية!

السبت

27/1/1976

اليوم أبلغنا السيد الأشقر قراره الأخير.

قال إنه سيفكك المطبعة وينتقل إلى شتورة. يعني أن الحرب قادمة لامحالة. بيروت على وشك انفجار هائل. بركان ظل يغلي في باطن الأرض سرعان ماينداح إلى الاعلى، سوف تنقسم بيروت إلى شطر مسيحي وآخر مسلم وأنا فيها من الشطر السني. لاأخشىأن أموت جوعا. فبيروت حاضنتي لاتفنى من الجوع. قد نرى مدنا تذبل لأنها لاتأكل.. مدينة بصورة طفلة تعود إلى البائع وبيدها بيضة: عمي أمي تسلم عليك تقول هذه البيضة التي بعتنا إياها صغيرة لو أبدلتها بأكبر كي تكفيني أنا وإخوتي، وسمعت في عاصمة عن خمسة أطفال يشتركون بمثلث من جبنة كيري، وأطفال يجلسون أمام مطعم منتظرين بفارغ الصبر نفايات العظام لكن بيروت لاتموت جوعا. إنه التسكع في الشوارع والأزقة والعبور من الحواجز والمشي على الالغام، يبقى العمل هو المحال.. مع المقاومة. المنظمات كثيرة.. بندقية .. حراسة الوقوف عند حاجز.. اقتحام بيت .. إلقاء القبض على مشبوه. هل أفكر بالعمل في الحمراء؟ لكن ماذا أعمل؟ عاملا في بار؟ اللبنانيون يتقاتلون وأنا أسقيهم الخمر فمن يقدم لي الخمر؟ الجميع يتحدثون عن شارع الحمراء . ربما تتحول الشرقية إلى حطام. ويصبح المطار مثل المنخل. تصير الضاحية سيارة ملغومة محترقة وتبقى الحمراء ساحة خضراء لاتطالها النار.. رئة بيروت التي تتنفس منها. لا أريد أن اصبح مقاتلا. كفاني أني قضيت خدمتي الإلزامية في كردستان. على جبل زوزك صعدت. ضباب ومطر .. هل أصاب رصاصي الهدف؟الظواهر تدل أن المقاومة تمردت على اتفاق الحكومة وخرجت من مخيماتها. الآن أصبحت مخيرا الآن بين أن أتسكع في الشوارع أو أن اقصد أقرب مكتب. لايهمني إن كان مكتب فتح أو الشعبية. أي مكتب كان.

علي أن أحمي نفسي.

 غادرت الجريدة قبل الواحدة بدقائق. وقصدت البيت مباشرة. ارتميت على السرير ولم تكن بي رغبة للطعام. بطالة وموت قادم. خلال دقائق كنت استسلم للنوم... حلمت بالحروف وأشياء أخرى غريبة، في منتزه ما حيث الأضواء المعتمة الخضراء والمناضد المنتشرة تحت أشجار الليمون نساء جميلات عاريات الظهور يحضرن الحفل. يتخذن مواقعهن على الكراسي وثمت في الممر وجدت نفسي أقف كأنني نادل يلبي طلبات الزبائن فيقع بصري على قامة فارعة القوام نادت بأصبعها السبابة ودعتني نظرة عينيها أن أقدم.. اقتربت منها على ضوء المصابيح الخافتة وحينما وقفت أمام المنضدة ورفعت رأسها إلي اكتشفت أنها لينا الدغيمي. !  

لم أصب بالدهشة أمام جمالها، وتسريحتها الرائعة التي تحدت بها تسريحة ممثلات السينما في عقدي الخمسينيات والستينيات. قالت لي بصوت رقيق إنها جاءت وفي نفسها البحث عن شاب وسيم سوف تلبي كل رغباته ويسعدها أن تنتظره هنا وما علي إلا أن أناديها حالما يأتي. هو أكثر وسامة من أي شاب آخر، رحت أتطلع إلى الباب من غير أن أعرف أو أعير أية التفاتة للأسماء لكني فوجئت بصاحب المطبعة وهو ينهض من كرسيه ليقول لي إن هناك تلبكا واختلاطا في الحروف يجب أن أعالجه ودس يده في جيبه. سلمني مجموعة من الحروف كانت جميعها تشتبك مع حرف الحاء الذي كان أكبر من الجميع. سلسلة حروف متشابكة.. سألت نفسي هل يقصد الحروف العربية أم الأجنبية؟ وتكاسلت عن العودة. لم أتوجه إلى المطبعة بل ذهبت مباشرة إلى البيت وفي رغبة لأن أغسل الحروف بالماء لعل ذلك يساعدني على فصلها.. وجدتهن بانتظاري ولما يزل حروف الحاء بيدي. صرخت بصوت حاد:

سأفصلكن. سأفصلكن .. انتظرن!

 كاد المنزل يغص بهن إذ تفرقن. حاوية الأزبال ممتلئة.. حوض الغسيل.. سرير النوم.. الحمام.. المطبخ.. الطباخ الغازي.. حنفية الماء.. بعيدا ينط سيل منها فيشفط حقول الشعيبة ليشخص في المكان شجر سدر ويلتم ثانية يطلع نحو النخيل يقتلعه فينبت مكانه كافور طيب الريح ثم تعود الحروف في الوقت ذاته إلى بيروت. بعد المكالمة الهاتفية تصل إلي رسالة من والدي: أمك مشتاقة إليك. إذا ضاقت بك الحال تعال فكل شيء على مايرام. حروف الرسالة تختلط ببقية الحروف يضيع أثرها ماعلي إلا أن أفصل جميع تلك الحروف واعلقها بسلسلة مفاتيح حرف الحاء التي مازالت بيدي لكني لم أفلح.. كلما قبضت على مجموعة وجدت أخرى جديدة تحل محلها لا أعرف من أين تأتي الحروف غير أني تكاسلت فارتميت على السرير وكنت أتقلب في تلك اللحظة على جنبي الأيمن فأجد نفسي وحدي وقد تقحّمني هياج جارف وفحولة غير متناهية لا أشك قط في أنها فحولة كاذبة.. تمنيت في تلك اللحظة أن تكون نريمان جنبي أو نوليا. هؤلاء عائلتي. ألم تقل نريمان ابق معنا أفضل لك! هناك امرأة أريد أن أعريها وإن كانت امرأة رجلا مثل لينا. أية منهن لايهم.

 فقط أريد أن أثبت فحولتي!

الإثنين

29/1/1976

كدت أتحسس بعينيّ جسدها عاريا من الثياب وقد اتخذت مكاني على كرسي عال مجاور لدكة المقصف في محاولة لأن أكون قريبا منها مااستطعت.. عادت بي الفكرة إلى عجزي البارحة. لاشيء ينقصني. أستطيع في أية لحظة أن أثبت فحولتي، ولعلّ المحاولة معها تعيد إليّ الثقة برجولتي. أنا ونوليا أصدقاء، كلتاهما تخرج مع أيّ كان. لا أظنّ أنّها تنزعج.. حالي كالآخرين. قلت بهمس وأنا أتلفت كاللص:

- تذهبين معي حالما تفرغين من عملك؟

- آسفة "ثمّ بتمنع مع ابتسامة ": مرتبطة بعمل هذه الليلة.

لم أعلّق وعدت إلى كأسي من جديد. أمور كثيرة تدور من حولي فلا أفهمها. نريمان تقبل ونوليا ترفض، لينا تمتنع سواء وقعت الحرب أم لم تقع أهناك من سبب؟ أين أمضي بل كيف يصبح المقصف. أرغب أن أتحدث مباشرة معها. لماذا ترفضني. تقبل كل الرجال وترفضني. مسألة رجولة وكرامة. وشوشة ما تختلط تنهكني. ماعادت الموسيقى القديمة العارية عن صوت المغني تضطرب في رأسي. أتلك فيروز تغني عن المركب والبحر أم أم كلثوم. لقد سقطت نظريتي القديمة حول المومسات. من قبل آليت ألا ألمس امرأة تبيع جسدها. كم كنت ساذجا حقا! أليست نوليا مومسا فلم أودها. رغبتي إليها تطغى على خوفي. أين هذا القوام الساحر الاسمر من جسد لينا. أنا بانتظار أن أفقد رجلي. رفعت يدي أطلب كأسا آخر:

- كم تطلبين لقاء..

فنظرت إلي بحنق وسرعان ما انقلب غضبها إلى ابتسامة هادئة، قالت كأنها تخاطب طفلا:

- لاتشرب أكثر!

- أنا أتكلم جادا!

بقيت صامتة تتطلع في وجهي لحظات:

- كم تقدر سعري؟

- لك ماتشائين خمسين مائة؟

أجابت بلهجة فيها الكثير من الرقة والحنان:

- لكنك عندي لاتقدر بثمن!

أسطوانة قديمة لا أفهمها. حكمة من حكم القدماء. رددت بعجرفة:

- العالم كله لا يساوي ليرة تخيلي هذا الكون بما فيه من شمس وأرض ومجرات لايساوي ليرة " راحت شفتاي ترتخيان"فكيف وأنا ذرة حقيرة منه لا أقَـدَّر بثمن!

- أتحب أن تسمع أغنية عراقية؟

وقبل أن تنتظر ردي ذهبت إلى الآلة فتهادى صوت قديم كدت أنساه من زمن بعيد:

عمي يابياع الورد

كلي الورد بيش

ورجعت إلي بخفة فهتفت أعماقي:

- هذه هي الأغنية التي سمعتها أول يوم جئت إلى المقصف ويبدو أني تذكرتها الآن.

 لكن تهادى إلى سمعي نغم ما لم أتبينه ثم انتبهت إلى أنه جرس التلفون :

- عن إذنك أرد على الهاتف.

انصرفت إلى طرف المنصة القريب من الباب الخارجي حيث محصلة النقود والهاتف . تحدثت بضع دقائق وأطالت قليلا في الحديث وبقيت في مكانها ترد على طلبات الزبائن أو تدلف إلى المطبخ تنبه الطباخة الفلبينية وتحث النادل إلى مراعاة ما ينقص من مقبلات وطعام. في هذه الاثناء أطل شاب في الثلاثين من عمره عملاق ذو عضلات بارزة يرتدي قميصا نصف كم. وقف عند المنصة وانسجم معها في حديث بدا لي أنه خاص. لم يلتفت العملاق إلي. وقتها ذهبت بي الظنون بعيدا. فاتني أنها استقبلت مكالمة حين كانت تتحدث معي ولو أرادت بي شرا لذهبت إلى التلفون وبادرت بالاتصال. كنت أوغل في أوهامي، وأحس أن رجليَّ بدأتا تتنملان وتخدران. في بيروت تفقد رجليك فتشعر أنك يجب أن تنام لتستعيدهما بعدئذٍ أما في مكان آخر.. في مثل هذا الموقف علي أن أخلق عدوا لي وألعق هزيمتي. الحق إن المومسات هن اللائي أعرضن عني. هاهي واحدة منهن تعاشر الكويتي واللبناني والمصري والسوري والخليجي وترفضني أنا فمن أكون ؟

وجدت أن من الأفضل لي أن أغادر!

الثلاثاء

 30/1 /1976

قابلتني نريمان بوجه متجهم.

لم أكن أتوقّع زيارتها، فقد عدت الساعة الثالثة من العمل. كنت في الحمام .. حين سمعت الطرقات خرجت متلفعا بالمنشفة. لاحت لي علامة سخط ترتسم على وجهها، وحين عدت إليها فاجأتني لهجتها الخشنة، ونبرة صوتها الحادة:

- سألت نوليا الذهاب معك البارحة أليس كذلك؟

هل أقول إني أردت شهادة لإثبات رجولتي التي خانتني قبل ليلتين، فتدرك أن الصمت يدينني:

- هكذا إذاً !

- لكنها تذهب مع أيّ زبون.

- أرجو ألاّ تعقد الأمور.

- قد يكون إلحاحي مجرد عناد لأنها تقبل الجميع وترفضني " ولم أجد بدا من التنازل" قد أتحرر معها من حياء رافقني فأستعيد ..

فعبر وجهها عن نفاد صبر وقلق:

- قلت أرجوك!

- أعدك بذلك.

- عدني أيضا ألا تشرب كثيرا!

أنا نفسي لا أدري لِـمَ أشرب. هل أصبحت مدمنا؟ كنت قبل عثوري على المقصف الملكي أشرب فقط في عطلة نهاية الاسبوع. ليلة الأحد أذهب إلى أي بار وأحيانا في الشقة. لم تكن الخمرة لتشكل لي عقدة قبل الهجرة. شربناها في كردستان داخل المواضع. رحنا نهرب بها من الموت فحلقت بنا بعيدا عن أجواء الرعب. كان الكاكا الحاج عثمان صاحب محطة البنزين عند تقاطع زوزك وهندرين يبيعنا عرقا يعمله في البيت من الرز فماذا أصنع في بيروت حيث يلوح الموت ولخمرة لبنان طعم آخر:

- سأحاول!" استدركت"

- هذا أمر يمكن أن تتجاوزه والوقت أمامك طويل. هل تعدني؟

- نعم.

 وبلهجة آمرة:

- أبسط يدك؟

ماذا؟ هل تراني مثلما رأيت لينا، أو تقرأ كفي الذي قرأته لي ذات يوم في ساحة أم البروم بصَارة بدوية حدثتني عن عن طول العمر وخط الزواج وسفر بعيد:

- أراك تتصرفين مثلما تصرفت مع غيرك!

فلاح بعض القلق والارتباك على جبينها:

- كيف؟ فتناولت يدها وطلبت أن تتبعني إلى المطبخ:

- أنظري مازالت منفضة السجائر كما هي ولأكن صريحا أنا كسول .

فدفعها فضول غطى على غضب كاد يتطاير من عينيها أكثر من انزعاج لاح بعينيها:

- متى حدث ذلك؟

- وما يهم الوقت؟!

- مجرد حب استطلاع!

- قبل أسبوعين!

- عجيب أسبوعان ولم ترم محتويات المنفضة؟

قلت لك إني كسول!

فتجاهلت عبارتي الأخيرة:

- كم دفعت؟

- لاشيء ولم يحدث الذي في بالك!

تأملت مليا وترددت ثم قالت:

- تقصد حدث لك..

- لا أبدا .. أتعرفين رفيقة ذات مركز مهم في حزب الشغيلة اسمها لينا الدغيمي تعاني من عرج خفيف برجلها اليمنى؟

- لا لم أسمع بهذا الاسم من قبل " وأضافت وهي تلتفت إلى الجريدة على المنضدة دون أن تكلف نفسها عناء تصفحها" في لبنان الأحزاب كثيرة والمسؤولون كثر يصعب تذكرهم.

- ياسيدتي جاءت إلى المطبعة لإخراج الجريدة هذه التي أمامك وفي يوم السبت كنت مستلقيا على السرير فسمعت طرقات على الباب وإذا بها هي توزع الجريدة على البيوت.

ضحكت من أعماقها :

- حمار شغل بلاش!

- شيء من هذا القبيل.

- يعني لم تخبرها بعنوانك!

- أبدا بل هي التي أعطتني بطاقة بعنوان مكتبهم!

- هل هي جميلة!

- حاولت ألا أكشف جميع أوراقي وأحجمت عن أن أذكر محاولتي استدراج لينا إلى السرير. هل أقول إن امرأة أخرى غير أختها نوليا ترفضني، وإحساس واضح وضوح الشمس يتلجلج في أعماقي عن بنت ليل تستلطفني أكثر من غيري وتمتنع أن تأخذ مني أجرا:

- أبدا والله رجل.. سلوكها وكل مافيها.. هل أنام مع رجل مثلي؟

وعادت تلقي نظرة من بعيد على الجريدة:

- هكذا هن الشيوعيات مسترجلات دائما يحاولن أن يلغين أنوثتهن!

عندئذ بسطت ثانية يدي:

- نعم قولي ماشئت ماذا ترين؟

- أنظر رجفة خفيفة تعتري يدك مجرد أن تبقيها لحظات مبسوطة أمامك إنتبه شغلك يعتمد على يدك. حفر الزنكغراف والحروف وعمل الجريدة. كيف تستطيع أن تعمل؟

فقلت يائسا:

- غدا تندلع الحرب فأفقد العمل!

- لن تنتهي الدنيا إذا اندلعت أي حرب.

- الغريب أني هربت من القتل فوجدته أمامي.

- لكل حادث حديث!

وبعد فترة صمت:

- سأمرّ عليك السبت فأصحبك إلى الغطس. " واضافت وهي تشير بإصبعها محذرة" لا تشرب قطرة خمر واحدة.. ممنوع.. هذه هي شروط رياضة الغطس والمهم أن تكرع كثيرا من الماء. حاول أن تشرب الماء في الصباح قبل حضوري إليك.

- سأفعل ذلك!

- واحسب حساب الأحد ستتغدى عندنا في البيت.

احتضنتها معبرا لها عن شكري .. بضع دقائق استدعيت نولينا ولينا كنت هذه المرّة آخذها وأنجح.. صورتان اندمجتتا في خيالي نريمان ذات الأنوثة المتفجرة ولينا الخشنة المسترجلة. لم أشك في آهاتها وتأوهها. كانت في غاية الرقة والانفعال، وكنت في غاية السعادة لشعوري بالنجاح.

السبت

3/2/1976

قضيت الليلة في البيت.

 نريمان تريدني صاحيا وتفرض علي طقوسا لا أتجاوزها. هدوء واسترخاء.. لاكحول.. لا أرق هي طقوس الغطس، وأنا كطفل أطالع أشياء جديدة فأبهر بها. كان بإمكاني أن أذهب إلى المقصف وأتناول العشاء هناك غير أن الفكرة تلاشت من خيالي تماما كأني لا أريد أن أدخل هذا المكان صاحيا وأخرج منه مثلما دخلت. ارتحت كثيرا لاهتمام نريمان بي وتفضيلها لي على الآخرين. أقنعت نفسي أني وجدت صديقا في بلاد الغربة يمكن أن استند إليه ورغم الشعور بالراحة فقد اجتاحتني موجة من الضجر لاحنينا للشرب بل لأني لم أتقبل فكرة أن أظل بقية اليوم في البيت مثل السجين. لقد قضيت النهار في المطبعة، وتوقعت حضور لينا فها هي ثلاثة أسابيع تمر وما من خبر عن العدد الأول وعندما سألت صاحب الجريدة عنها أجابني:

- يبدو أنهم اكتفوا بالعدد التجريبي صفر أو أفلسوا

- أو اشتروا مطبعة!

- لا أظن وإلا لطالعتنا بالجريدة الرفيقة ساعية البريد!

خرجت من المطبعة متأبطا حزمة من الصحف وبعض النشرات التي تصفحها السيد فاروق الأشقر وركنها جانبا.. كانت جميعها تدفع إلى جو مشحون بالحماسة والريبة. كل يشكك بالآخر.. وكل صحيفة تدعو للثأر والانتقام. أي خبر صغير.. صفحات عمرها أقصر من الفراشة.. يوم واحد تمر بعيوننا تحرض على القتل أخيرا أفرشها على منضدة الطعام بدل الشرشف.. أي انتقام تحمله صحيفة عمرها أربع وعشرون ساعة.. أية شاردة وواردة.. سأغطس غدا.. والجرائد تبحث عن انتقام.. ولا أحد يهتم بوجودي تحت الماء .. ياترى كيف هو شكل البحر من الداخل.. كيف سيكون شكلي في بدلة الغوص. اللواء البيروتية تهاجم.. السفير تدعو للتهدئة .. كمال جنبلاط يحذر الشرقية والقوى الرجعية من مغامرة.. المسلمون على وشك قول كلمة الفصل في لبنان.. شباب الكتائب يستعرضون عضلاتهم.. النداء تدعو جميع الدول اليسارية إلى الوقوف مع القوى الوطنية.. الاتحاد السوفيتي يحذر إسرائيل من التدخل في النزاع اللبناني.. كوبا الرئيس كاسترو.. الفلسطينيون في بلادنا.. لاللتجنيس.. النهار تنبش التاريخ. والشرق تتحدث عن علاقات سكان بيروت وتستنبط أخبارا صغيرة عن حوادث ذبح ومجازر جرت قبل قرن .. الزمن الماضي .. اليوم.. إسرائيل.. شرق بيروت.. الضاحية.. الحماس غير المنقطع النظير وتحريض الصحافة. لبنان تغلي قبل أن أغطس، وأنا لاأعرف بعدُ طعم البحر، فكيف يكون شط العرب الصغير محتدما بالكواسج الفاتكة، وحلمي لايخيب. أدركت سر الحروف المتشابكة في حلم سابق وحرف الحاء الحلقة. كيف نسيت أن الحرب تبدأ بحرف الحاء. والإلهات الثلاث أسماؤهن تخلو منه. أين كان حرف النون عني في الحلم.. نريمان.. نوليا.. لينا أكاد أختنق من عنف الجرائد، فأستلقي على الفراش. أضع المذياع على بطني. ألف الموجـّه فتـأتي موجات أعنف وأقسى: الرئيس فرنجية يتمسك بالحكم ويعلن استعداده لكل طاريء .. الشرقية سوف تعيش إلى الأبد.. الشيخ الجميل يبعث رسالة خاصة إلى باريس. المردة في الطريق.. الموارنة بقايا الصليبيين في لبنان.. صوت وصورة ، ماأقرأه أدهى وما أسمعه أمر. صوت لبنان الرسمي يضيع. لاأحد يرى ويسمع مع أن الجميع يتكلم. من يسمع من ومن ينظر إلى من، وبعض الناس لايهمهم هذا أم ذاك يذهبون إلى المطاعم والبارات. يسكرون ويرقصون. وحدي أشعر بالاختناق. أقاوم الصحو حتى لو فكرت بالسكر فإنني لا أرغب أن أسكر في أي بار كان وتعاف نفسي السكر في الشقة. المقصف الملكي هو الذي يبعث النشوة في رأسي. أصبحت الخمرة ترتيلة لا أقدر أن أؤديها إلا في معبد يدعى المقصف الملكي هناك أجلس على الدكة أو أختار كرسيا في زاوية خافتة ناعسة خدرة بالموسيقى وعيناي على نريمان ولينا. عالم بعيد عن بيروت والمطبعة والحروف. هذه الليلة أنا محروم منه لكن خاطرا عاجلا مر بذهني. لمحة عابرة أشارت إلي ان أتحرر من خوفي وقيود الصحافة وصخب المحطات فدفعتني إلى أن أنحي المذياع وأغادر السرير إلى مقر صوت الشغيلة، وماهي إلا دقائق وكنت في المكتب. التسريحة ذاتها، البنطال الكابوي، الحذاء .. السجارة.. هي هي لم تتغير. استقبلتني مرحبة فقلت:

- مرت ثلاثة أسابيع فقلت أجيء استفسر عنك!

- نحن نستقبل الآن آراء القراء في العدد التجريبي، ولدينا مقالات لأكثر من عدد.

واستفزني جو الصالة المشبع بدخان كثيف تراقص بعضه على هالة المصباح المتدلي من السقف ولفت انتباهي نقاش حاد بين العراقي وشاب لبناني وسيم الطلعة في العشرين من عمره، فغمزتني بصوت خافت:

- ابن بلدك أنتم العراقيين تتحدثون بانفعال!

- مثل المحطات والجرائد هنا!

- مايحدث حالة مؤقتة أو استثناء لايشكل قاعدة عامة كما هو الأمر عندكم!

فقلت على البديهة:

- ربما لأننا لانعرف المجاملة!

وغيرت مجرى الحديث:

- هل وجدت عملا؟

أجبت من غير تفكير:

- تقريبا

- في المطابع؟

- هل تعرفين محلا اسمه المقصف الملكي؟

- أين؟ في الضاحية؟

- هناك في شارع جانبي يدعى عطفة الساقية يتفرع من الحمراء.

فالتفتت باتجاه الشابين اللذين توقفا عن النقاش وراحا يستعدان لجولة شطرنج:

- رفيق فرانس هل تعرف مقصفا في الحمراء يدعى المقصف الملكي؟

قال بلا مبالاة:

- معظم المحلات هناك تمارس الدعارة!

ونادى العراقي ساخرا:

- كحاب والله كحاب يعني بلهجتنا قحاب!

ثم رفع صوته وراح يقلد أغنية شائعة:

- كحاب والله كحاب

وانتبهت إلى ضيق لاح على وجهي:

- هذه كلمات عادية قحاب .. فرج .. عضو .. قواد.. أير يقول عنها الرفيق لينين إن البرجوازية هي التي جعلت الناس يخجلون من النطق بها علناً لمآرب تخص البرجوازيين أنفسهم!

هذه امرأة تختلف عن بنات حواء. أمي كانت تخجل من أن تنطق بكلمة قبيحة أمام أبي وأجدني أمام امرأة تتلاعب بكلمات بذيـئة وتدعوني إلى القتل:

- الأمر لم يحسم بعد ولا أعرف أن كنت سأباشر العمل أم لا.

أشعلت سجارة فتصاعد دخان يتراقص تحت قبعة المصباح، وعقبت ممازحا:

- من ير الدخان يظنها حربا مصغرة قبل اندلاع الحرب الكبيرة!

- من علامات المناضلين إدمان الشاي والدخان.

فنهضت أشد على يدها، وبادرتني:

- لا تقلق حين تندلع الحرب تستطيع أن تأتي إلينا نقبلك مثل أي مقاتل أو أممي!

مرة ثانية الرشاشة والقتل والعنف. كردستان والجبل. لابد من أن أقتُل أو أقتَل لكني حين دخلت بيروت أول يوم ورأيت ألفة الناس ونعومتهم قلت نحن وحوش إذا قارنا أنفسنا بهم:

- أشكرك!

- المنطقة هنا تحت سيطرتنا نحن وجماعة قليلات في حالة حدوث أي طاريء وربما سيكسر الفلسطينيون الحظر فيخرجون ليغطوا جميع مناطق بيروت.

فأفلت يدي وأوغلت في ممازحة ثقيلة:

- يعني سيكون قليلات القومي الرجعي معكم في خندق واحدة!

فهزت كتفها قائلة:

- تحالف مرحلي!

ورافقتني إلى الباب.

الأحد

4 /2 /1976

اليوم هربت من همومي إلى الماء.

زورق قاده كابتن لبناني من نادي الغوص بشوش الوجه في الخمسين من عمره يدعى سليم إلى مكان غير بعيد عن الشاطيء:

هنا عمي سليم. فتوقف الزورق والتفتت إلي:

لا يهمني العمق لكنك تغطس أول مرة .. هنا المكان لايزيد عن ثلاثين مترا.

بدلتان في أسفل الزورق، وعلبتا أوكسجين، فأسأل مثل الطفل:

إشتريتهما؟

بدلتي ابتعتها من لندن هي والأخرى الصيفية أما هذه فهي إيجار من نادي الغوص!

كل شيء متألق من حولي. رائد فضاء يحلق بعالم جديد لم أره إلا في الخيال، فتراودني ثانية روح الطفل:

بكم ابتعتها؟

هذه بخمسمائة باون والصيفية أرخص منها.

ساعدتني قبل أن ترتدي عدّتها. لاادري لم اقتحمت دنيا الطفولة ذاكرتي الآن. أمي ساعدتني في ارتداء ملابسي إلى الصف الرابع الإبتدائي .. وأرى طفلا يصعد نخلة إلى أعلاها فينط في النهر الصغير وهو يزعق مثل طرزان. كمان.. كمان.. لفحة " نهر خوز" تجتاح وجهي مثقلة بالطين ، وأصابعي تنغرزان في القعر. أينا أطول نفسا. عرفت الطين والقواقع وأعشاب النهر، وصادقت الشلنت والشنبلان. طفولة رائعة.. حرية واسعة بين البساتين والنخيل. السواقي تجري بين أرجلنا وأهلنا لايمنعون عنا أي شيء مع ذلك نشعر بالحرمان فنحس أن هناك شيئا ما ينقصنا شيء أجده بصحبة نريمان والساحل والبحر والأسئلة تلح علي:

- نوليا والوالدة ماذا يحبان ياترى؟

قالت إنّهما لايرغبان في الغطس أمها تفضّل ركوب الدراجة ونوليا تمارس رياضة الجري. أمّا منتهى المتعة عندها فحين تصطاد الأخطبوط:

- هل أكلته من قبل؟

- كلا.

- تستطيع أن تتذوّقه معي.   

معي امرأة تساعدني على أن أكون من مخلوقات البحر. مخلوقا مفترسا ذا طبع آخر . من قبل رأيت العدة وحافظة الأوكسجين ولم أكن أتصور أنها بهذا الثقل. ظننتني أحمل جبلا أو أنوء بعبء ثقيل يكاد يمنعني من التقاط أنفاسي. لمحت من بعيد غواصي اللؤلؤ القدامى وهم يقاومون الماء بأنفاسهم.. خلال لحظات أصبحت ضفدعا أو سمكة.. تغير شكلي.. أنا لست في الأرض بل أحلق فوق السماوات فأرى القمر والنجوم والمجرات كل منها باسطة ذراعيها لي.. هنا لعلني أجد جنة عدن المفقودة.. ربما أكون قرشا كاسرا.. هبطت خلفها.. وبقيت يدها ملتصقة بذراعي. أنبوبة الأوكسجين تثقل عليّ تنفسي. بعض الأسماك قريبة منّي. لاتهرب كأنّها تعرفني. أبصرت أسماكا ملونة وأعشابا وفيما يشبه الطاق دخلنا حيث تجمعت أسفل جسدينا مربعات أرجوانيّة. جسدي خفيف. كلّ شيء واضح أمامي. أشجار كالصفصاف والصنوبر. أسماك ملونة تعوم بين شجر يشبه الأثل. مخلوقات تزيح الرمل لتدلف تحته. هو عالم الطفولة يجتاحني في كل لحظة فلا فرق في أن نهبط إلى قاع البحر أو نصعد إلى السماء. ترى أين أختفي إذا اندلعت الحرب؟وعن مسافة لاحت لي حشائش وحقول من سفانا وكان في الحفر مخلوقات تتقلص وتنبسط فتبدو وكأنها عيون جاحظة من محاجرها. صخور كمخ الإنسان تدبّ عليها مخلوقات أشبه بالحيات. هاهو البحر يستقبلني باحتفالية قلما أجدها على البرّ. خلف تلك المشاهد جثمت مستعمرة من مستعمرات الأخطبوط. شكت بالرمح أخطبوطا وتابعتُ مثلها، أرجل سوداء تلوذ بالوحل فتتعقبها حربة.. أقلدها، ووددت لو بقيت في الماء أعيش تائها مع الأعماق البعيدة الملونة لكن من لي بحورية بحر تمنحني زيتا أطلي به جسدي فلاأخرج من الماء مدى الحياة. كانت تصعد بي إلى الأعلى حتّى تلمست حافة الزورق ثم يد الكابتن سليم تلتقطنا. وهو يسأل:

- كيف كان معك!

- عال!

كنا نجلس ملتصقين ونحن نصغي إلى البحر كأنه يحدثنا عن رحلتنا القصيرة معه. قالت:

- هل أعجبك الغوص؟

ضغطت على يدها مؤكدا، فأردفت:

- هذه المرة تمرين لك إذ ليس من المعقول أن تبقى خلال الغطسة الأولى فترة أطول في المرة القادمة سأزيد الوقت.

جلسنا على سطح الزورق وكان العم سليم في الداخل خلف المقود رحت أصغي إليها، ولمّا تزل يدي بيدها، وعيناي معلقتان بالبحر، وشفتاي تتمتمان:

لعل الحرب لاتندلع!

كانت تتطلع بعيني طويلا كأنها تبحث عن جواب ضائع والزورق يمخر وجه الماء الساكن متجها إلى الساحل!

الأربعاء

16/ 2 /1976

جنبي على السرير.

أناملها تداعب شعري. كانت عيناها تتمعنان بوجهي. لم يعد بيني وبينها تحفظ أو فواصل. التوجس تلاشى. تجرأت أن أعطيها نسخة المفتاح الثانية، فرأت في شقتي الصغيرة بيتها ويبدو أني نمت نوما عميقا بعد عمل طويل شاق.. فقد اشتغلت في تفكيك المطبعة ولملمة الأثاث إلى الثالثة، وحين عدت ارتميت على السرير. فتحت عينيّ بعد ساعة فشعرت بالجوع.

- أحضرت أخطبوطا من التي اصطدناها.

- لقد نمت نوما عميقا نفض التعب عن جسدي.

رائحة الأخطبوط المطبوخ بالليمون والفطر تلفح أنفي وتستفز عبثا ذاكرتي:

- كنت هادئا ماعدا همهمة مكتومة.

ذكرتني بحلم مشوش نسيته ، في أثناء ذلك ثقلت صفحة وجهي، شيء يشبه الجبل عجزت أن أزحزحه، ولم أتذكره كحلم تجمعت فيه حولي الحروف:

- كابوس.

- لكنك عدت إلى هدوئك بعد لحظات.

- أظنني صرخت.

سمعت همهمة تصدر عنك همهمة خفيفة.

كم وددت لو يسمع الصاحون صراخي فيهرعون إلي ينتشلونني من حلم بغيض. كوابيس تراودني بين فترات متباعدة. اريد أن أنهزم فيقيد رجلي كساح ويثقل وجهي خدر لكن صرخاتي العالية تصبح مجرد همهمات ياترى كم حلما مبهما تذكرت وكم حلما ضاع مني :

- أتحبه؟

- لم أجربه من قبل.

تناولت قطعة من أحد الأرجل ودستها في فمي:

- جرب!

- فعلا لذيذ على الرغم من شكله المخيف.

- ليس بالضرورة أن يكون كل قبيح غير لذيذ!

- من كثرة ماقرأنا عن الاخطبوط وسمعنا عنه كرهناه!

فقالت ضاحكة:

- أظن أن كل شيء عندكم في العراق معقد.

ماذا أقول عن أشياء قبيحة قد تكون لذيذة. الوزغ.. الفئران.. لعل الجراد الهائل الهاب على مزارع البصرة منتصف الخمسينيات كان قبيحا أما والدتي فإنها جمعت أعدادا كبيرة منه سلقتها وعبأتها في أكياس كبيرة. كنت أنهمك بالتهامه. جرادة ليست ذات جناح، برأس وعينين أتلذذ بالتحديق فيهما مازال طعمها في فمي:

- لذلك نحن العراقيين في لبنان على الرغم من طبول الحرب التي تقرع!

- ماذا تقول في الضفادع هل جربتها من قبل؟

- أوو كلا أرجوك!

- منظرها قبيح وطعمها لذيذ إذا أحببت أن تتناولها معي يوما ما.

- كيف تأكلونها؟

ليس كلها الفخذان فقط.

- ثم وهي تضم شفتيها وتهز رأسها بشغف:

- هناك أكلات كثيرة مفيدة ولذيذة المحار.. القواقع.. السرطان البحري أنا لاأحب اللحوم كثيرا وأهوى مخلوقات البحر والخضار!

سرطان البحر " أبو الجنيب" كنت أصطاده وأستل أحشاءه أصيد بها الأسماك، فتبقى رائحته العفنة على أصابعي وصفرة بطنه على راحة يدي .. أغير الموضوع كأنني أهرب من شيء لاأعرفه ولا أرغب في معرفته ونريمان تحولني إلى وحش ناعم وتكاد تروضني إلى مخلوق يعاف كل شيء ويفترس أحشاء البحر:

- هل نغطس ثانية يوم الأحد؟

- أراك أغرمت بالبحر؟

- شعرت كما لو كنت في الفضاء.

- هذا الأحد لا لأننا سنتناول الطعام مع ماما.

قالت ذلك وبدأت تجمع بقايا الطعام ثم تلف الجريدة ، وكنت في تلك اللحظة أفكر بنوع الهدية التي أقدمها لأمها الأحد القادم.

 

الأحد

 20 / 2 /1976

كانت معي حزمة ورد..

ورد ذهبيّ تذوقت رائحته قبل أن تمتد يدي به إليها..

الحق بهرني مارأيته من أثاث ترتيبه يدلّ على ذوق رفيع، وحانت مني التفاتة أوّل مادخلت فلمحت صورة السيد بيير الرجل الخمسيني ذي الوجه الطويل والشعر المفروق من هامة الرأس ثمّ شغلني عن الصورة دخول سيدة البيت أم نريمان ونوليا. نهضت أشدّ على يدها وأقدم لها باقة الورد. كنت أقابل امرأة متهدمة تماما. وجه ذو تجاعيد، سحنة متعبة. بقايا امرأة تعاند الزمن على الرغم من طقوس الرفاهية التي تعيشها أمّا ابتسامتها الطيبة فقد طفت على موجة التعب والإرهاق اللذين حاكتهما السنين في ملامحها. بعد دقائق زالت الكلفة بيننا. أصبحنا صديقين كأنّ أحدنا يعرف الآخر منذ زمن طويل. امرأة مازالت تفخر بالماضي. لاترضخ للزمن. ليس من اللائق أن أسألها عن المأساة كونها كانت خارج البلد يوم 14 تمّوز، ولم أرد أن أثير شجونها. كبت ّ فضولي ، وكانت تسبقني :

- منذ متى جئت من العراق؟

- سنة تقريبا ألم تخبرك نريمان؟

أظن أنها أخبرتني وربما نسيت.

 فوجدتها فسحت لفضولي مجالا واسعا:

- ألم تفكري بزيارة العراق؟

وردت نريمان عن أمها:

- ليس لنا أحد هناك

فقالت الأم شبه معترضة:

- حتى وإن كان لك أعمام ولي أهل الجميع نسونا ونسيناهم!

كانت أم نريمان تتمعن بوجهي كأنها تعرفني منذ أمد بعيد، وكنت متحفظا في كلامي. بعد الغداء مباشرة جلبت نريمان ألبوم الصور ووضعته في حضن أمها وهي تقول:

- سترى ماما وهي صبية.

- من حسن حظي أني احتفظت بكثير من الصور الخاصة معي، والبعض وصل إليّ من صديقات بعد أن مرت أشهر وهدأت الأوضاع.

لزمت الصمت وعقبت نريمان:

- يبدو أن العراق كان أجمل حينذاك.

وأتحت لنفسي فرصة الحديث:

- ليس العراق وحده فمن يشاهد الأفلام القديمة يدرك أنّ البلدان العربية كانت في تلك الفترة أجمل، أنظري إلى القاهرة أيام الرومانسية الآن فوضى وبناء عشوائي، ونفوس كثيرة..

وفيما يشبه النائم لاح لي ذلك الخدر اللذيذ القادم من ثلاثينيات القرن:

- أنظر كم هي جميلة أمي!

رأيتها وهي طفلة بين أبيها وأمها، وهي صبية في مراهقتها وشبابها.. فتاة متوسطة الطول رائعة الملامح عريضة الوجه. الملك فيصل الأوّل نفسه حملها وهي طفلة. كانت عيناي تنتقلان بين الصور وتتابعان إصبعها التي توقّفت عند صورة تجمعها هي وزوجها مع نوري السعيد، صور لها مع أبيها وزوجها في آسيا وأوروبا. ومعه حين كان ملحقا ثقافيا في طوكيو امرأة رأت كلّ العالم. الصبا.. الشباب .. الألق على الورق.. أمامي فقط الكهولة والذكرى، فلجأت إليها بالسؤال:

- حضرتك رأيت مدنا كثيرة ألم تكن في السابق أجمل؟

- بالتأكيد نحن الآن في بيروت نهاية الخمسينيات كانت أجمل!

وتوقف إصبع نريمان عند صورة لفتاة وهي تبتسم من دون أن تعلق، فانتبهت الأم وقالت :

- عزة أخت الملك غازي "ثم صمتت كأنما تستعين بذكرى ذات عبق خاص "كنت صديقتها الوحيدة التي أباحت لها بسرها قبل أن تهرب من قصر أبيها مع الطباخ اليوناني أنستاسيا الذي أحبته.

 في بالي سخرية وأسف ألا تعد المسألة بعرفنا نحن الناس العاديين مسألة شرف. أمي دعت الله أن يرزقها بنتا وحمدتُ الله أن لاأحد يقول لي في حال اندلاع شجار :إذهب يا أخا القحبة. لاأدري ليس من حقي أن أعقب ولم يكن في ذهني أي تصور كوني أمام امرأة شجعت على ممارسة الخطيئة.. حب وهرب:

- الحب لايعرف العقبات لو لم أساعدها لوجدت شخصا آخر.

وقالت نريمان:

- التقيناها مرتين في لندن وعمان.

وعقبت الأم وهي تقول بأسف:

كدت لاأعرفها تماما كانت قد تغيرت تماما..

فألح عليّ فضول لم أستطع مقاومته:

- وماذا عن زوجها اليوناني.

- أووه انفصلت عنه وبقيت في أوروبا سنين إلى أن شملها الملك حسين برعايته فاستقرت في الأردن!

عاودتني روح السخرية.. ياجلالة الملك ياأخا القحبة ابنة ملك تفر، حفيدة ملوك وأنا أفر أنباء رائعة تحتاج إلى كأس.. هذيان يقودني إلى حقائق غريبة ملوك زناة مؤمنون كفرة كلنا هربنا فنلتقي من غير أن يعرف أحدنا الآخر، وقد انتشلتني الصور من أفكاري العدوانية لحظة أخرى:

- لي مع المرحوم البيير قبل ولادة نريمان .

"صمت لحظات، وتمعن "كان يأتي إلى العراق فيحل ضيفا عند الوزير رستم حيدر.

أمامي متحف ناطق. أحداث تتكلم وتاريخ.. شخص أليف .. امرأة وديعة مسالمة كانت كأنثى طاووس في عصرها الذهبي فجعلتني المدرسة والمجتمع وأهلي أكرهها.. ملك أم ملكة.. أم نريمان في عصرها الذهبي سيدة القصر تفتح لي بيتها وتتحدث معي عن بعض خفايا الأمس الجميلة صور كثيرة تتكدس من الماضي البعيد والقريب شخصيات معروفة. الأحد الماضي كنت في البحر، وهذا الأحد رحلت إلى واد جميل انبسط في لحظات أمام عينيّ، لم أسمع من قبل بفرار أخت ملك العراق وبين لحظة وأخرى تراودني فكرة عدوانية فألجم نفسي:

- لكل صورة قصة.

- لِـَم لاتملين علي مذكراتك من الممكن أن يدفع لك أحد الناشرين مبلغا لابأس به؟

فانبرت نريمان قائلة:

- كثيرا ما ألححت على أمي لكنها ترفض.

ردت بأسف:

- في ذكرياتي والصور الكثير من الحقائق الحلوة والكثير من الإساءة لشخصيات ماتزال حية إلى الآن..

فقاطعت نريمان باندفاعها السابق:

- انشري الحقائق الحلوة فقط.

فقالت بين الانزعاج والرفض :

- ذكر الحقائق الجميلة وحدها يمكن أن يكشف عن أمور قبيحة مثلما تذكرين النهار فإن ذكرك إياه وحده يستدعي تذكر الليل والحق وحده يذكِّر بالباطل تلك سنة الحياة يابنتي!

ثم التفتت إلي، وقالت وهي تغلق الألبوم:

- لاتنس نحن ثلاث نساء وعلاقتنا جيدة مع كل الأطراف من مسلمين ومسيحيين داخل لبنان وخارجة حالتنا والحمد لله ميسورة فما قيمة كتاب مذكرات وصور!

وقالت نريمان :

- صحيح تذكرت ماهي الكلمة التي قلت لي أن اسأل أمي عنها؟

- ما الذي ذكرك بها الآن؟

- كلما أردت أن أتذكر أنساها!

- الطنطل!

فافتر ثغر الأم عن ابتسامة واسعة أقرب إلى ضحكة مكبوتة:

- الطنطل ذلك المخلوق الوهمي الذي يقطع الطريق على الناس في الخلاء عند الظلام!

وقلت مع نفسي:

ويقطع الطريق على أي إنسان يمشي وحده فإما أن ينكحه أو يركب على ظهره فيحرث به الأرض حتى الصباح ورفعت نريمان حاجبيها كالشامتة أو المداعبة:

- إذاً انت تخاف من الوهم!

وصدر عن الأم احتجاج رزين:

- الإنسان في هذا العصر اصبح هو الطنطل!

 

د. قصي الشيخ عسكر

  

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم