صحيفة المثقف

عملية هروب السجناء الشيوعيين من سجن الحلة (7)

ننشر قصة ذلك الهروب على شكل حلقات يومية وبقلم الوالد الفقيد حسين سلطان صبي / أبو علي

... وعدت الى غرفتي وابلغت الرفاق الأربعة أن يكونوا جاهزين خلال دقائق. وأخرجت ما لدينا من وثائق واعطيتها الى الرفيق جميل منير، قلت له: احرقها بسرعة وكانت لدينا من النقود ثمانية عشر دينارا فقط فوزعناها بيننا وشكلنا حلقة كبيرة في الغرفة ورقصنا رقصة الفرح وقبلنا بعضنا البعض وذهبنا الى القاعة المجاورة للنفق واجتمعنا نحن العشرة في القاعة وتكلمت معهم حول الاستفادة من الوقت وقلت لهم: من يخرج سالماً الى المدينة عليه أن يخرج منها بأسرع وقت واذا لم يجد واسطة لنقله الى مكان آخر خلال عشرين دقيقة عليه أن يخرج سيراً على الأقدام نحو الريف. واذا حصلت له واسطة نقل فعليه أن ينزل منها قبل الوصول الى سيطرة الشرطة ومن هناك يذهب سيراً وسألتهم عن الكراج فقالوا لم نستطيع فعل أي عمل، قلت لهم مع الأسف عملنا يفتقر الى بعض المستلزمات والى هنا أشار حسين ياسين الى ساعته فقلت: حل الظلام، قال: نعم. قلت له: اذهب أنـــت وجدو وافتحوا النفق والرفيق فاضل يقف في وسط النفق لإعلامنا بالنزول وانتم اذهبوا ولابد من ذكر العشرة الذين تم اختيارهم للوجبة الأولى للهروب:

جماعة الحزب:

 1) الرفيق الشهيد عبد الأمير سعيد

 2) الرفيق لطيف الحمامي

 3) الرفيق جدو ــ العامل بالنفق ــ

 4) رفيق لا أتذكر اسمه ولا صورته

 5) كاتب هذه السطور

الجماعة المنشقة:

 1) حسين ياسين

 2) حافظ رسن

 3) الرفيق فاضل ــ العامل بالنفق ــ

 4) مظفر النواب

 5) جاسم المطير  

ورغم كل انطباعاتي عن حسين ياسين إلا انه في ذلك اليوم بانت شجاعته ورباطة جأشه وكان حقاً متماسكاً ومتميزاً عن بعض جماعته. وانتقلنا الى غرفة النفق ونزل الجماعة لفتح النفق وبقينا السبعة واقفين على فتحة النفق. وبينما كنا ننتظر الاشارة من فاضل واذا بموجة كبيرة من السجناء دخلوا علينا يتدافعون وكلهم يريد الخروج من السجن ولما كانت غرفة النفق ضيقة بسبب أكياس التراب الصاعدة الى السقف انحشر فيها عدد كبير من الأشخاص وكذلك القاعة المجاورة كان فيها أكثر من خمسين سجيناً كلهم متوجهون نحو النفق وعلى كل حال اختل النظام ولم يبق أي ضبط أو ربط وخاصة عند الناس غير الملتزمين وهم يرزحون تحت أحكام ثقيلة، وخبر النفق انتشر خلال المعركة بين السجناء في قلعتنا. وخلال دقائق جاءت الإشارة بالنزول ونزلت ونزل الرفاق الواحد بعد الآخر وعند الخروج وجدت فتحة النفق جاءت في مكان مناسب حيث تبعد عن جدار السور أقل من متر ويبعد عنها بحدود المتر الواحد عدد من سيارات الحمل على امتداد سور السجن وهذا يعطي امكانية اذا خرج مائة سجين بهدوء وانتظام يمكن أن يبقوا لمدة ساعات دون أن يلاحظهم أحد بـفـضـل ذلك الحاجب من السيارات وخلال لحظات تجمع خلف السيارات أكثر من ثلاثين سجيناً وهنا أدركت ان الحالة قد تكشف خلال دقائق ولا بد من الاسراع ورأيت حسين ياسين يرمي بحجر كلباً صغيراً ينبح بكل قواه ضد الغرباء المختفين خلف السيارات، همست بإذن ياسين: أترك هذا العمل واسرع بالخروج وسألته أين الباب فقال: (ذيك) وفي تلك اللحظة واذا بقربي حافظ رسن مسكته من يده وسلكت به بين سيارتين متجهاً نحو الباب ووجدت حارس الكراج واقفاً الى الجانب الأيسر من الباب وكان حافظ على جانبي الأيمن وعندما وصلت بمحاذاة الحارس قلت له: مساء الخير ودار رأسه نحوي ورد التحية بصورة مرتبكه: أهلاً... أهلاً أساتذة أهلاً وسهلاً، واتجهنا نحو الساحة الرئيسية والتي لا تبعد عن باب الكراج الا بضعة أمتار ونحن نسير قلت لحافظ تعال معي وحافظ قال أنت تعال معي. وافترقنا حيث ذهب هو نحو مركز المدينة وأنا ذهبت الى مـوقـف سـيـارات الـنـجـف وناداني حافظ رسن: (انفض سترتك من التراب) وغاب كل منا عن الآخر وبعد بضعة خطوات وجدت سيارة يـنـادي صـاحـبـهـا الـى الـنـجـف وعندما صعدت الى السيارة قلت للسائق: يا ولدي أنا مستعجل جداً فهل يمكن أن تحرك وكان في داخل السيارة ثلاثة او أربعة مسافرين. قال: يا عم ننتظر قليلاً قد يأتينا واحد أو اثنين، قلت له: أنا أعطيك أجرة هؤلاء ويبدو ان السائق يعرفني ولكنه لا يعرف أية قضية من قضايا الساعة فصعد على الفور وشغل المحرك واتجهنا بسرعة فائقة نحو النجف والمسافة لا تزيد على (60) كيلومتراً. وكنت أفكر أن أنزل في الكفل التي تبعد (30) كيلومترا عن الحلة وأذهب الى النجف سيراً على الأقدام ولكن وجدت الوقت لازال مبكراً حيث لم يمض على تحررنا إلا (20) دقيقة ولاحظت من بعيد الشارع فارغاً من كل شيء، قررت أن أنزل بالكوفة وحينما صرنا في ضواحي الكوفة والوقت لم يمض عليه الا (35) دقيقة قدرت لو كشف الأمر خلال هذا الوقت فحينما تبدأ المخابرات وتجمع مفارز الشرطة فالوقت يتطلب أكثر من ساعة ولذا واصلت ركوب السيارة حتى مدينة النجف وفي الساعة الثامنة والنصف من مساء ذلك اليوم ــ وهو يوم مـجـيد حـيث تم فيه الاعداد لثورة اكتوبر الاشتراكية في عام 1917 ــ كنت جالساً مع أقاربي في البيت لتناول طعام العشاء معهم. ونـتـنـــــاول أطراف الحديث في مواضيع شتى وبقيت عندهم يوما كاملاً وفي مساء اليوم الثاني جاء أحد الرفاق ونقلني الى بيت الحزب وبقيت هناك ما يقارب عشرين يوماً ثم ذهبت الى بغداد ومنه الى الكونفرانس الثالث عام 1967.

أعود بكم الى موضوع النفق والكراج عند وقت الهروب وقبله.

مواصفات النفق:

1) الطول (14) متراً تقريباً. عدا البئر التي يزيد عمقها على مترين.

2) الارتفاع غير متساو ولكن أعلى نقطة منه تبلغ متراً وربع وأقل ارتفاع فيه متر واحد.

3) العرض متر واحد في أبعد نقطة فيه، الا ان العرض والارتفاع ليسا مستويين وانما فيه شيء من شكل الدائرة ولكنه ليس دائرة والطول فيه شيء من (الزكزاك) ولكنه ليس (زكزاك) أيضاً.

الأدوات المستخدمة في حفر النفق:

أدوات بسيطة للغاية، كركات يدوية صغيرة وفؤوس صغيرة أيضاً وحتى استخدمت في البداية الملاعق و(الدررنفيزات).

القياسات:

كنا نقيس الأماكن المستورة بـ (الفيتة) الا ان الأماكن المكشوفة مثل السور كنا نفرش عليه بطانيات ظاهرياً لغاية التشميس ثم ننقلها الى الأماكن المستورة ونقيسها هناك. الا ان السور الثاني قدر تقديراً بمسافات السور الأول وظهر التقدير صحيحاً وكانت الجدران تقاس مسافة سمكها وتضاف الى مجموع المسافات.

مدة العمل في النفق:

بدء التخطيط دام شهر ايار كاملاً وفي بداية شهر حزيران 1967 بدأ العمل في النفق واستمر فيه الى شهر تشرين الأول. أي استمر العمل به خمسة أشهر متواصلة عدا التوقف الذي حصل بسبب أزمة التراب.

الكراج عند الهروب:

قلت ان الحارس كان واقفاً في الباب عند خروجنا من الكراج أنا وحافظ رسن وبعد خروجنا بلحظات خرجوا ثلاثة من الكراج وسلموا عليه أيضاً وبـعـد أقـل مـن نـصف دقـيـقـة واذا بأربـعة أشخاص يـخـرجون من الكراج دفعة واحدة. وتوالت الدفعات بالخروج من الكراج الواحدة تلو الأخرى.

وهنا أصيب حارس الكراج بالذهول، وأخذ يـفـسر الأمـر بالغيـبــيـات مـن ان كراجه مسكون من قبل الجن، وهاهم يخرجون من الكراج على شكل بشر ولابد أن يشهد على هذا الوضع أناس آخرون. وانطلق نحو شـرطـي الـمـرور الواقـف تـحت المظلة في وسط الساحة وأخبره قائلا ً: يا أخي ان كراجي تخرج منه ناس في حين لا يدخل اليه أحد. أظنه مسكون وهؤلاء يخرجون من تحت الأرض، وطلب أن يحضر معه ويشاهد المنظر، الا ان الشرطي رفع سماعة الهاتف وأخبر ادارة السجن بما قاله حارس الكراج، وقال لهم أن صح الخبر فالأمر خطير وعلى أثر ذلك أطلق الرصاص بغزارة في الهواء وهجم السجانة على الكراج وطوقوا من فيه وألقوا عليهم القبض ومسكوا فتحة النفق ثم أخبروا سلطات المحافظة ونزلت قوات حامية الحلة وطوقوا المدينة وأصدروا أمراً بمنع التجول وأوقفوا في تلك الليلة آلاف الأشخاص وعثروا على القليل من الهاربين واستلم الجيش مقاليد الأمور في السجن وفي ذات الليلة يقال ان طاهر يحيى الذي كان رئيس الوزراء حينما سمع بالخبر توجه الى سجن الحلة فوراً وشاهد غرفة النفق والقطعة المكتوبة على باب الغرفة ــ ممنوع الدخول ــ وشاهد أكياس التراب التي التحمت مع السقف، ودخل في النفق وشاهد فيه انارة الكهرباء والأعمال الفنية الأخرى. وعندما خرج من فتحة النفق رغم ضخامة جسمه صاح بصوت غاضب، فاقداً الصبر والاتزان، أأتوني بهذا (...) مدير السجن والمأمور وكل جهازهم، وأخذ يردد بعصبية أين كانوا نائمين.

ومجموع الذين تحرروا من السجن في تلك الليلة ما يزيد على (45) مناضلاً.

 

حـسـيـن سـلـطـان

شباط عـام 1987

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم