صحيفة المثقف

تعويم المحكي في رواية: غواية العزلة لفاضل الغزي

عمار ابراهيم عزتلا شك إن رواية غواية العزلة للروائي فاضل الغزي رواية تجريبية وجدت هويتها من خلال ابتكارها لعالمها الروائي واختلاق شخوصه بالشكل الذي يوحي من الوهلة الاولى بمجافاة الرواية للواقع والابتعاد عن الدلالات الزمانية او المكانية التي تحيل عليه، والاكتفاء بقدرة التلميح الفاعلة دلاليا بدلا من محدودية التصريح ذي الخطاب المقترن غالبا ببنى اجتماعية واقعية أو مرتبط بزمن له مرجعياته في واقع المتلقي المادي.

إن القول هذا لا يعني إن الرواية تسعى الى تلبس عوالم الخرافة وسرديات العرّافة ومحكيات القديسين وغيرها مما ينتمي الى فضاء التخييل كغاية بذاته، بل على العكس من ذلك يتشكل الفضاء الروائي عند الغزي كتمثيل رمزي يضمر احالاته ومرجعياتها الواقعية، وبالرغم من (التعويم) المقصود لزمن الحكاية الا ان الرواية تشير في التمهيد وأماكن أخرى بأنها قد تجاوزت مئات السنين، وخلافا لهذا القول فإن الزمن الراهن هو ما يستشفه المتلقي من بعض دلاتها، ومنه حادثة حرق المشفى لمرات مع توجيه الاتهام الى مجهول وغيرها مما سيأتي ذكره لاحقا.

انه لمن المؤسف – تبعا لصناعة الرواية – ان يكون التمهيد فاضحا وموجها لثيمة النص الكلية لما لهذا التوجيه من أثر في اختزال الطاقة الايحائية للرواية وانتهاك لعنصر التشويق الناجم عن أفق الانتظار، فضلا عن تحديدها لقصدية المؤلف ورؤيته لعمله في ثيمة واحدة، وقد كان الأجدر لو ترك الروائي الستار مفتوحا للتلقي لالتقاط اشارات النص ودلالاته المعلنة والمضمرة في آن بعيدا عن نية الكاتب وغاياته والكيفية التي أراد ان يقدم بها سرديته وما تنسجه من وقائع وأحداث داخل النص.

مهما يكن، للكاتب خياراته وللقراءة خياراتها في تأويل ما تضمنه التمهيد من مقولات ومنها ان" الرواية تحكي مئات السنين"، بمعنى، أن الرواية سردية ذاكرة جماعية لا فردية شيدت معماريتها على تقنية (ميتا سردية) فالكاتب أوكل مهمة السرد الى سارد لم يسمه كما عوّم هويته الا من بعض الاشارات المعتمة لماضيه والملتبسة لحاضره المسرود في زمن القصة، ليفتتح سرده بقصة عثوره على مخطوطة سيكون السرد بعدها معنيا بكشف ما تتضمنه من قصص وحكايا عن مدينة (أم الودع) وأهلها والنازحين اليها وما يتوالى عليها من أحداث.

إن هذه التقنية (الميتا سردية) ليس جديدة على الرواية العربية والعالمية، بل إن السرد الروائي قد استهلكها، ولعل ما أشار له الناقد داود سلمان الشويلي في مقال له بعنوان "غواية العزلة ... رواية انتقادية لواقعنا " الى التماثل بين رواية "غواية العزلة" ورواية" الراووق" لعبد الخالق الركابي هو شاهد على ما ذكرناه، فقد انبثقت   احداث (الراووق) من مخطوطة سابقة لعشيرة البواشق، وقد أثير على هذه الاخيرة جدل ولغط لاقترابها من رواية ماركيز" مائة عام من العزلة ".

إن السارد الرئيسي لا ينتمي الى مدينة (أم الودع) كما يصرح بقوله: "افتتاح الرواية بهذه السطور ذكرني بالأمس الذي غادرت فيه مدينتي التي تشتهي ان تكون مدينة، وما سمعت حينها عن أم الودع المدينة المنهوبة ". وعدم انتمائه الى أم الودع يوحي الى حد ما بحيادية وموضوعية سرده وعدم انحيازه لطرف من أطراف الصراع فهو شاهد على الأحداث وراوٍ لها.

لقد أدى (تعويم الزمن) الى انسلاخ الرواية من محيطها الواقعي، وقد أكد هذا الانسلاخ افتراض بنية مكانية تمثلت في فضائين متضادين وهما (وادي الرعيان ومدينة ام الودع). يفرز هذا التقابل نسقين متمايزين لبنيتين اجتماعيتين يفترقان على طرفي نقيض وهما (المدينة – القرية). نستدل من بعض العبارات تحيّز الكاتب الواضح للمدينة كما في قوله:" هذه المدينة لا تحب احدا، ولكنها لا تسئ الى أحد "، فأم الودع تلك المدينة التي خانها "اولئك الذين جاءوا على ظهور الحمير ليستبدلوها بسيارات الجامبو" (ص14)، وان هذه المدينة سرقت من "مافيا الحمير " كما ينعتهم الكاتب.

وفي المقابل كان" وادي الرعيان "ملاذا " يجذب اليه من يريدون نزع جلودهم وارتداء التقوى الكاذبة التي تقوم على التنويم والتضليل " (ص25). 

لقد مرت الرحلة من ام الودع الى وادي الرعيان وبالعكس، كما تصف الرواية، بمرحلتين تم خلالهما انتقال السلطة من الأمير الى جراء تشبهه كما يقول الراوي:" ويتوارى الأمير ورجاله الغلاظ الشداد في جحور سرية لا مخارج لها، وعند هدوء العاصفة تخرج جراء تشبه الأمير وجنوده، كائنات غريبة لها ملامح الموت".

تجدر الإشارة الى إن لعبة المتقابلات الضدية على بنية المكان (وادي الرعيان – ام الودع)، أو البنية الزمانية (زمن الامير – زمن جرائه) لم تتوقف عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل شخصيات الرواية المحورية حيث ينمو الصراع الذي يتشعب منه الحدث وتشكل منه الرواية بأكملها من تقابل بين شخصيتين وهما (زينب البصاص) و(عليّه الخبازة)، ومن اللافت للنظر إن طبيعة الصراع لا يعدو كونه صراع سرديات فحسب. فلزينب البصاص سردياتها التي تمزج الواقع بالأسطوري والعجيب على حد سواء مما يضيف لحكاياتها عنصر جذب واستقطاب وملتقى اهتمام الكل واعجابهم. في الجهة المقابلة ترّوج (عليّه الخبازة) وابنها المنحرف (سلمان)، لحكاياتهما الوضيعة ضد (زينب البصاص) دفعت الأخيرة الى الانزواء، ثم نزوحها من (وادي الرعيان) للإقامة في (أم الودع).

أما سر هذه العداوة فيرجع – كما تشير الرواية – الى العلاقة المريبة للشخصيتين كلاهما مع الشيخ الماكر (أبو خلف) كما تنعته الرواية وتصفه بأنه: "يستبطن عكس ما يظهر، كعادة المشايخ ذوي اللحى الطويلة والدشاديش القصيرة جدا الذين يبحثون عن اشعال الفتن وجهاد النكاح في العالم ".

في هذا الموضع وغيره يعمد الكاتب الى تحطيم (النسق الديني) وذلك بفضح ممارسات هذا الشيخ وما سيفعله، لاحقا، ابنه غير الشرعي وخليفته في الغواية (سلمان) في المسجد تحت قناع الدين، فسلمان ثمرة "جهاد النكاح او المسبار او المتعة او اي مسمى اخر" كما تصفه الرواية.

إن غيرة (عليّه الخبازة) التي تفضل الاستحواذ على مودة الشيخ لنفسها فحسب، دفعتها الى التفكير والعمل على الانتقام من (زينب البصاص) التي يفضلها الشيخ على (عليّه (الى الحد الذي أثمرت فيه علاقته بزينب أن حملت بسلمان الذي سرقته (عليه) يوم ولادته أثناء انشغالهم بحريق المسجد المفاجئ والمجهول.

تشتغل هذه الثيمة على استثمار التوتر بين الطرفين، فضلا عن احجية العلاقة بينهما، في تقدم السرد وتناميه بوصفه عاملا مشوقا انتهى باكتشاف سلمان لأمه الحقيقية (زينب). الا إن موتها في تلك اللحظة الصادمة لم يتح له اكتشاف أبيه الذي ظل لغزا لولا الإشارة التي جاءت عرضا بأن درويشا زارهم قبل شهر وعشرة ايام من يوم ولادة سلمان. إشارة توحي ضمنا او تلمّح الى أن سلمان هو ابن الدرويش.

يُمارس (التعويم)، كما وضحنا سابقا، بشكل ملفت، فلم تنجو الشخصيات من هذا التعويم بدءا بالسارد وانتهاءً بالشخصيات الهامشية. كأنما هناك فجوة او حلقة زمنية مفقودة جعلت من ماضي الشخصية مجهولا او معتما الا من تلميحات جاءت هنا وهناك لخدمة الحبكة التي رُفدت بتواريخ عابرة لبعض الشخصيات بما يتناغم ونمو العقدة أو باتجاهها نحو حلها الذي أُنجز بشكل كلي في الصفحات الاخيرة من الرواية ولا أبالغ ان قلت إن القصة قد أُجّلت حتى هذه الوريقات لكسر رتابة المتوالية الحدثية ولعلها محاولة الكاتب للملمة خيوط السرد المبعثرة في حبكة موجزة تعيد ما سقط من احداث المتوالية الى مواقعها الصحيحة وتملأ الفجوات السردية.

تحفل الرواية بالعرافين والعرافات والنبوءات والشعوذات وحكايا تنتمي لعالم الخرافة، وما هذا الفضاء الا " تمثيل رمزي " يحيل الى واقع عاشه الراوي في زمنين: "زمن المدينة الميتة سريريا" كما يصفه، وهو زمن الأمير وحاشيته الظالمة، وزمن القرية التي استولى فيها النازحون من الأطراف على مقاليد السلطة واستحوذوا على قرار تقرير المصير.

بعد هذا، بات من السهل القول ان هذه الرواية تضمر ادانة ضمنية الى مجتمع يؤمن بالخرافة المتلبسة برداء الاسلام المزيف الذي نعيشه واقعا مع اسلام داعش وقبلها مع سلوكيات الاحزاب المتأسلمة التي كانت سببا في خراب "أم الودع ". أما إذا نظرنا الى (أم الودع) كموقع آثاري واقعي لحضارة سومرية فإن الإدانة حتما ستكون أعم واشمل فالخراب الذي تصفه الرواية يشي بإدانة للإنسانية التي تغافلت عن العراق حتى أصبح غنائم لحروب متوالية عملت على تدمير حضارته ومسخها.

لم تقف الرواية عند هذا الحد من الإدانة المعلنة أو المضمرة، وإنما عملت بشكل منظم على تحطيم النسق الفحولي لمعظم شخصيات الرواية، فالرجل إما عقيم وإما مخصي. بذلك يكون نسق الأنثى اللعوب " عليّه الخبازة " نسق مهيمن، كما تختلق الرواية نسقا هجينا حيث تتحول "زينب البصاص " الى نصف رجل كما تنص القصة، نستشف منه دلالة تحول الفعل الى المرأة، وفي ذلك تعطيل واضح لقدرة الرجل على انجاز فعل ايجابي تجاه ما يجري، كما تشي دلالة الأنثى اللعوب عن زمن عاهر اختلت فيه الموازين.

إن النسق الهجين هو ذلك الزمن الذي تكون فيه النساء كالرجال كما تروي المرويات التاريخية وغيرها من الاحتمالات المنفتحة على فعل القراءة. بشرط ان نعي إن فعل القراءة ممارسة مغلوطة دائما، كما يصفه النقاد، لأنه لا يشتغل على قصدية الكاتب بقدر ما يتفاعل ويندمج مع ما يمتلكه المتلقي من معرفة وتجربة حية.

في الختام تجدر الإشارة الى إن رواية (غواية العزلة) عمل غير مكتمل فهو أقر الى القصة الطويلة منه الى الرواية، كما يشوبه التشويش في مستوى المتن الحكائي ويفتقر مبناه الحكائي لعناصر الرواية الجديدة.

 

عمار إبراهيم عزت

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم