صحيفة المثقف

إلهة الحرب العرجاء

430 المقصف الملكيالإثنين

 6 /3/1976

بدأ الوقت يطاردني ..

اختلف الأمر في مكان العمل. قبل الظهر أكملت أنا والعامل في الطابق الأرضي تفكيك المطبعة والأثاث. كنت منهمكا في الشغل حين دخلت القبو لينا الدغيمي، فصعدت معها متأبطا بعض الألواح والمسودات والهيكل المعدني إلى خارج البناية حيث كانت سيارة صغيرة سوداء قديمة تقف بانتظارها عند الرصيف:

- لاتنقطع عن زيارتنا فقد نحتاج لخبرتك.

- إن شاء الله.

ردت باهتمام:

- بل إن شئت أنت.

فاستعذت بداخلي وقلت:

- لكل حادث حديث.

- هل تعرف استخدام السلاح؟

- ليس هناك من عراقي لايعرف السلاح.

حركت إصبعها السبابة كأنها تطلق النار:

- بنادق صيد العصافير.

أنا نفسي يحاصرني الضحك .. السخرية .. فإلهة الحرب تهزأ من الحرب في العراق حرب تكاد لاتبين ولايعرفها أحد .. إنا واحد من شظاياها المنتشرة، ولعل الشظايا تتسع فيدرك العالم أن هناك حربا بين الجبل والسهل:

- الخدمة العسكرية عندنا إجبارية والذي يحدثك قضى ثلاث سنوات في كردستان!

- من أصول كردية؟

السؤال نفسه واجهني في المقصف ذات يوم. هنا الناس يسألون عن الدين والمذهب أنا بين امرأتين واحدة سألتني عن مذهبي والأخرى عن قوميتي:

- عربي بن عربي من الجنوب ربما يرجع نسبي إلى عنترة بن شداد أوسيف بن ذي يزن ولِـمَ لا فقد تكون شجرة العائلة ترجع إلى الخليفة عمر بن الخطاب!

- شيوعي؟

- ذهبت لأداء الخدمة الإلزامية فأصبحت الكلاشنكوف رفيقتي مدة سنتين، ولو لم أغادر العراق لرجعت إليها مثلما رجع رفاقي الآن!

- رائع يعني عندك موقف لاتريد أن تحارب الأكراد.

- بل قولي هربت من الموت . لاأريد أن أموت:

- أحيانا يكون الهرب من الموت موقفا نبيلا.

- طبعا أنا طول حياتي لم أر جبلا إلا في كردستان فلِم َ أذهب إلى هناك.

- المهم يمكن أن نقبلك صديقا للحزب تشارك الرفاق في الدوريات والحراسات ويمكننا أيضا أن نستفيد من خبرتك في الإخراج أو كتابة بعض التحقيقات.

هل أعود إلى أصلي؟

القتل! إنه إطلاق النار. أول مهنة مارستها محترفا! كان عملي مع والدي في محل الإنشاءات أو عند السيد عبد الحميد الحلفي من باب الهواية مهنة درت علي مكافآت سخية وحفظتني لي من الفراغ. احتراف القتل مارسته للمرة الأولى في كردستان . السيد الآمر يقول إذا انهيتم خدمتكم الإلزامية فإن شهرا واحدا كل عام كاف للاحتفاظ بلياقتكم واستذكار دروس فن القتال واستعمال السلاح! لاتريدني الدولة أن أنسى. كردستان انفجرت بعد سفري بأشهر و الشهر أصبح سنة ورفاقي لم يعودوا بعد إلى بيوتهم .. لن أرجع ولو بقيت في قلب النار يمكنني في بيروت أن أعايش الموت .. أروضه .. أهرب منه وقتما أشاء لكني لا أقترفه .. سيدتي لبنان بلد ناعم كالحرير والعراق خشن كصوف الماعز. خشن في كل شيء .. جو حار .. حكم قاس مثل الزمن، كيف أعود إلى نقطة البدء من جديد: الحرب أم أين تقف قدماي؟

الثلاثاء

7/3/1976

عدت عاطلا عن العمل!

من الآن فصاعدا علي أن أطرق الأبواب فأقبل بأي شغل، ومثل تاجر مفلس ينهمك في مراجعة أوراقه القديمة ألوذ برسالة وصلت إليَّ من أهلي قبل أكثر من أسبوع. " ولدي العزيز إذا ضاق بك الحال ورأيت بيروت تشتعل عد إلينا .. البلد مليء بفرص العمل" ياللسخرية .. الغرباء يبحثون عن أية وظيفة في العراق في الأزبال .. النفط .. الزراعة .. الموانيء .. المعامل .. المدارس .. في كل مكان يبحثوث أما أنا إذا عدت فقبل أن أجد عملا لابد من أن أصعد الجبل .. وقبل أن أصعد الجبل علي أن أبحث عن قرار عفو يسمح للهاربين بالعودة .. من حسن حظي أني وجدت عملا في بيروت خلال بضعة أيام. وبيروت على صغرها في حالة السلم والحرب تستطيع أن تبتلع العالم كله من ضمنهم أنا:

- ماذا تفعل في لبنان؟ أنت مجنون العراق بلد الخير!

قالت ذلك والدتي باكية. أخي الأكبر معلمي في المدرسة الإبتدائية لايهمه أمر سفري مشغول بخطبة ابنه وشراء سيارة جديدة، قال كلمته وأشاح بوجهه عني:

- أنظر إلى أعداد المصريين والمغاربة والهنود أصبحنا نستقبل الأجانب والعرب أكثر من أهل الخليج وأنت تذهب إلى الخارج إنك تجري عكس التيار!

 أخي الاصغر الطالب أعتاد أن يتابع حسابات أبي ولايهمه أمري. أمي وحدها تعترض على السفر وأبي أظنه يكتب عن لسانها:

- دعيه يسافر ليبق في لبنان أسبوعا أسبوعين شهرا .. شهرين سيعود حالما تنتهي نقوده!

- أقول لكم بصراحة إذا وجدت عملا فلن أرجع.

أخوك الأكبر على حق ألم تسمع كلامه الأجانب يأتون إلى العراق للعمل وأنت تسافر ثمّ ماذا تعمل هناك بروفيسور في الجامعة الأمريكية؟ كل ماهنالك أنك أكملت المرحلة الثانوية فاشكر ليل نهار الحاج عبد الحميد الحلفي الذي تعلمت على يديه فن الطباعة!

قلت محتدا:

- الآن قانون العسكرية لايرحم. في السابق يعفى من العسكرية من يكمل الصف الخامس الثانوي، فوق كل ذلك خدمة احتياط كل شهر، وربما تُعلن حالة الطواريء فنبقى في العسكرية إلى حيث ..

قاطعتني والدتي:

- لابد أن تجد الحكومة حلا مع الأكراد!

أمي لاتعلم أن الأرنب يطاردني إلى حقل الألغام حيث تمدد جسد من غير ساقين مثل شجرة تكسرها من أسفل الجذع ريح عاتية، والرسالة القادمة من البصرة قبل أسبوع كانت آخر رسالة، هي الذكرى بعينها . أرجع أفضل لك .. الشغل موجود .. إشتغل معي في تجارة المواد الإنشائية، وصديقي يسألني بعد شهرين من دخولنا في حقل الألغام: هل دفنت قدمي؟

- الرقم 554

- نعم سيدي

- أنت قوي البنية تستطيع حمل الجريح.

- أمرك سيدي!

- الرقم 553

- نعم سيدي

- أحمل الساقين ولنرجع من حيث أتينا انتبهوا اتبعوا آثاركم ولاتميلوا عنها قيد شعرة.

- أمرك سيدي

نحن الذين لانقرأ الغيب ينفجر فينا حقل ألغام تجتازه الدببة والسناجب والأرانب. يقول العراق بلد الخير والعمل. فهل أعمل من دون ساقين؟أحمل الساقين فأين أذهب بهما. دم على الحذاء العسكري وبقايا سروال خاكي. دم على أصابعي وفي كتفي تعلقت بندقية فكيف أعمل إذا مافقدت يدي. نعم يا أبي نعم يا أمي نعم سيدي. يمكن أن أجلس عند باب جامع الأمير أو في مقبرة الزبير أمدّ يدي طالبا صدقة .. لكن إذا فقدت يدي .. كيف .. خالد جبار الجندي المكلف يقول أدعو لك في كل صلاة. اين دفنت رجلي؟أين أدفنهما ولامقبرة أمامي سوى قبر ولي جعله الأكراد مزارا فلم أغامر بالوصول إليه خشية من قناص يختفي بين الصخور. أسفل الجبل عند كهف .. قرب النبع .. جنب صف من أشجار الحور .. هنا في بيروت .. أدفن رجليّ في أية حانة وأهتف:دب دبيبها ياللسخرية من جميع الرسائل أنا أيضا ساقاي تخدران فتنفصلان عني لكني لاأحفر لهما فأدسهما مع حذاء وبقايا بنطلون .. الناس تسكر بعقولها وأنا بساقيّ .. فقط وحده كان الأرنب يفاجؤني بصرخة حادة أتراجع من حدتها إلى الوراء فما أشعر إلا والحائط يسند ظهري والسكين تسقط من يدي!

- بسم الله الرحمن الرحيم لاتخف ياولدي!

بقيت صامتا من هول الصرخة. أتذكر اني كنت أرتدي جلابية وبرجلي نعلين:

- أنت ياولدي رجل من ظهر رجل ولو كان أبوك حاضراً أو أخوك الأكبر لما سألتك أن تذبح الأرنب. لايهم .. السنة القادمة إن شاء الله. اثنا عشر عاما مازلت صغير السن. أنت رجل والله!

كانت والدتي تتشبث بأية حجة وأي حلم لتثنيني عن سفري. تظنني قادرا على كل شيء .. أنا رجل مثل أبي .. السنة القادمة أذبح دجاجة وبعدها أرنبا .. أستطيع أن أحمل السكين وأقصد وكر الأرانب فاستل واحدا من أذنيه وأحز خلال لحظات رقبته .. كان أجدادنا يتزوجون في هذه السن وبعد سنة تحبل نساؤهم. الأرنب يصرخ كطفل متوحش. أنسى أني أحمل سكينا. . انفجار اللغم تحت قدمي. الجندي الرقم .. يدفعني إلى الوراء. يطلق صرخة مدوية ثم ينقلب على جنبه كديك يتراقص من ضربة سكين .. دم والرجلان تستقران تحت جسد يصرخ. انا الآن أرتدي السروال الخاكي وقدماي مكبلتان بالحذاء العسكري الثقيل. لاحائط ورائي فتكاد البندقية تنزلق من على كتفي:

- لاتتعبي نفسك ليجرب السفر ويرى ألا بلد أفضل من العراق!

واليوم بالضبط فقدت عملي ولذت كالتاجر المفلس برسالة أمي. يبدو أني عرفت الدنيا متأخرا. للمرة الأولى أركب الطائرة. أشد الحزام. أرى صحفا كثيرة وأحزابا. منظمات لاتعد ولاتحصى. العالم مختلف جدا. مجتمع آخر ودنيا جميلة يزيدها رونقا وبهاء قلق تعايشه كل يوم، وقد خاب ظن أبي. صحيح أن العراق أصبح قبلة العالم في العمل غير أني بعد أيام من وصولي وجدت عملا في مطبعة وعندما اتصلت بأبي عبر الهاتف وأخبرته أني حصلت على شغل وفي كلامي معنى واضح عن الغياب الدائم أجابني إن غيابي يجعل والدتي تموت موتا بطيئا فأجبته إن الأعمار بيد الله وإنها تستطيع زيارتي متى تشاء!

كانت تلك آخر رسالة وصلت إلي من البصرة!

الأربعاء

8/3/1976

الوضع العام تلبد تماما. المنظمات عززت حضورها في الشوارع، والإذاعات الحزبية دخلت بمشاحنات. مهاترات ومذيعون منفعلون .. طيران إسرائيلي يحلق فوق بيروت. أضغان قديمة تتمترس بين الحارات والطوائف .. الجميع يبحث عن حجج .. كل هدف يسير باتجاه عدواني وبيروت ما زالت تسهر وتسكر وتغنّي. وأنا أصبحت بلا عمل. لامجال أمامي- في حال اندلاع حرب – إلا أن أشتغل مقاتلا. لافرق سواء أمت أم أسِرت أو على الأقل أصبح معوقا. هي بيروت ذلك المنفى الجميل والسجن الشفاف. . الموت فيها لايخيف .. وجه آخر لكردستان .. الجبل يتراقص أمام عيني .. أذكر أن موجة من الفزع انتابتني يوم عرفت أنني نُسِبت إلى فوج يقاتل في كردستان .. زوزك الجبل العظيم تصطدم بقمته غيوم كثيفة فيبدو مثل شيخ ذي عمة مهيب .. سكران .. الجبل الأجرد .. ظهر السمكة .. الموت له مرارة هناك، هذه بلدنا، أيها الرفاق: لبنان لنا. الغرباء في بيروت .. اطردوا الغرباء .. لبنان إسفنجة الحضارة .. صراخ يدعو للفناء وعظمة بيروت أنها تبشر بالموت لكنك لاتخشاه فيها. كدت أبكي وأنا أودع أهلي والسيد الحلفي يشد على يدي ويقول : قصة الشمال لن تنتهي كلنا خدمنا هناك أنا شخصيا أديت خدمتي منتصف الثلاثينيات في دهوك الله وحده هو الحافظ. لم أبك يوم توجهت إلى لبنان .. لاشيء يرعبك في بيروت .. فقط قلق وهناك احتمال الهجرة إلى الخارج بجوازك الحقيقي أو أي جواز سفر مزوّر. لكن إلى أين؟ وكيف؟ المال ينقصني وبيني وبين الهرب عقبة النقود وتلك المحطات التي تشيع اليأس في نفسي فلا أجد بدا من أن أخرس أصواتها وأغادر الشقة فأدلف في الجو المشحون بالخيال والخدر!

طلبت كأسا وسألت نوليا؟

- ألن تأتي نريمان؟

- في البيت تعتني بأمي.

- ماذا؟هل من شيء؟

- بسبب الوضع المتوتر ارتفع السكر عندها.

 قصدت الهاتف واتصلت بالبيت. أكدت نريمان أنّ حالة أمها تحسنت . طلبت مني أن أنتظرها ظهر الغد قلت لها إني فقدت العمل فبإمكانها أن تزورني أيّ وقت تشاء. وإذ رجعت إلى مكاني قرب الدكة وجدت رجلا بدينا أصلع يتحدث مع نوليا. ماذا يطلب غير لقاء ليلي عابر. نريمان معجبة بي. امرأة تمنح نفسها لسمار الليل فلِم تمتنع نوليا عني أنا الذي خرجت عن قسمي وسعيت إلى البغايا. رحت أغالط نفسي ثانية وأتشبث بحدسي السابق في أنهن هنا نظيفات. لامرض. لاسفلس. لاسيلان. يختلفن تماما عن غجر حي الطرب .. نساء عجيبات غريبات. واحدة تمنحك نفسها وأخرى تعاملك بجفاء، وثالثة مسترجلة تقول لك أنا أقوى منك. أين هن من البصرة ومن أمي التي تنظر إلى أبي بعيني دجاجة. بالضبط كالدجاجة الأليفة التي تسكن دونما حراك تحت السكين. لم أر أبي يعاملها يوما بجفاء. لم يضربها أو يقسو عليها لكنها عاشت أليفة شأنها شأن النسوة في قريتنا، وفي هذه اللحظة حيث الجو الخافت المفعم برائحة السجائر والموسيقى واللا أمان تتهادى امرأة بظهرها المرمري الرائع أمامي تحتضن جميع الرجال وتصدني وحدي فأدرك أني أكبت رغبة عارمة في امتلاكها .. فأكرع مابقي من كأسي وأقف أمامها غير متردد. قلت:

- متى تغيرين رأيك؟

فالتهمتني بابتسامتها المعهودة وتساءلت كالبلهاء:

- حول أي شي؟

- الذهاب معي.

- أمصر أنت على ذلك؟

- نعم ألست كبقية خلق الله؟

واندفعت أناملها إلى صفحة خدي فقرصتها كأنها تخاطب طفلا:

- ستعرف ذلك فيما بعد

فطلبت قدحا آخر وتساءلت:

- متى؟

وهي تنصرف إلى ماكنة الأغاني:

- ربما غدا. أصبر قليلا ولاتلح كطفل!

عادت وهي تبتسم ابتسامة غامضة. وانطلقت مباشرة من الجهاز:

Who can take you far away

فتمتمت أسخر مني أظنها هي الأغنية التي علقت بذهني أول يوم دخلت فيه المقصف. كانت تلاحق بياع الورد .. لابأس أن ينقلب ديمس روسز إلى حضيري مثلما انقلب جلالة الملك إلى شكل آخر وكما هي بيروت انفصلت كالبكتريا من نعومتها إلى العنف والدم فأصبحت شرقية وغربية .. حضيري ديمس .. الضاحية الأشرفية .. قواد ملك .. أنا اسكر في حانة ولا أقدر على الخمرة في مكان آخر .. حضيري يطل عليّ وهو مرتد قبعة الفس برسلي وديمس روسز يعدل العقال ..

Who can take you

 ورحت أحدق في الكاس منتظرا الخدر يدب إلى رجلي!

الثلاثاء

 14 / 3 /1976

صحوت الساعة الثامنة. أمامي وقت طويل مملّ. خرجت إلى الحمراء، اشتريت جريدة وآويت إلى مقهى في شارع فرعيّ. رحت أتناول قهوتي وأتحسس الجوّ العام. من جديد. الأخبار تنذر بوقوع كارثة، من قبل كنت أسمع التشنج والشد وأرى بعض ملامحه في العيون لكن كل شيء تغير تماما الآن .. لم تعد القسمات والعيون بقادرة على أن تخفي الوعد والوعيد والإصرار على القتل .. كنت أتبين في العيون رغبات الانتقام. ملامح الثأر. القسوة ترتسم على الوجوه ريما لو كنت أعيش في الشرقية لرأيت أكثر من ذلك .. هذا الشعب الطيب انقلب كله إلى تنين .. تمساح .. الجمال .. الطيبة .. الضيافة .. الرقة .. الورود .. السياحة .. تحولت في لحظات إلى مشاهد قاسية تنطق بها الوجوه والعيون، ورغم مايحدث فلديّ أمل أن تطلّ نريمان فأسمع منها حديثا يسرّ .. وفي غرفتي حينما كنت محاصرا مرة أخرى من الإذاعات المختلفة، سمعت طرقات على الباب ثمّ رأيتها تدخل. وضعت حقيبتها على المنضدة وسألتني من دون مقدمات:

- أسمعت الأخبار؟

- حدثيني عن صحة ماما أوّلا.

- بخير . السكر رجع إلى مستواه الطبيعيّ.

- أظن الجو العام أتعبها.

- بلا شك على الرغم من أني نصحتها أن تتجاهل الإذاعات ومحطات التلفزيون.

- هل تتوقعين اندلاع حرب؟

- هذا ماجئت أحدثك به.

- أرجو أنّ يكون ماأراه حلما بغيضا أو نكتة ليس ذات معنى.

من دون مقدمات مرة أخرى:

تعرف من أنا؟

بقيت ساكتا، فاندفعت:

امرأة هوى أليس كذلك؟ قلها لاتخجل. أنا لا أخجل منها قل قحبة .. يمكن أن يكون ذلك تاريخا ماضيا نعد الرجوع إليه من باب المحال.

وواصلت صمتي مطرقا، فاستمرت:

- إسمع أنا أقول كلاما جادا. كان يمكن أن أؤجل الحديث إلى عام أو أكثر لو كان الوضع العام يجري في ظروف طبيعية. وبإمكاني ألا أغضب من محاولاتك مع أختي نوليا مادامت تخرج مع الجميع لا يمكن أن نبقى في مثل هذا الجو الموبوء. عندنا رصيد في بريطانيا كل أموال أمي وزوجها هناك، أما المقصف فلن نبيعه سيظل باسم أختي يديره لها بشير الشاب الذي رأيته فتخيلت أنه يهددك وهو ابن عم أبي، اتفقنا معه أن ينتقل من الغربية ليسكن في منزلنا كي لايدخله أي غريب.

- تعنين أنّ الحرب أصبحت حقيقة قبل وقوعها.

 تطلعت إليّ بعينين حنونين ثمّ أردفت:

- أنت تعرف سلوكي تعرفني من أنا الظروف التي جعلتك تتشرد باختيارك دفعتني باتجاه آخر، لننس كلّ ذلك سأدبر لك جواز سفر ثمّ نرحل جميعنا عبر الميناء إلى قبرص ونتوجه من هناك إلى لندن.

فاجأني عرضها. طلبها صدمني حقا. أريد أن أقول شيئا فلاأقدر عليه. نريمان تواصل حديثها. كنت شارد الذهن. الكثيرون من أمثالي زنادقة ومتدينون تزوجوا أوروبيات .. صدمة جديدة .. أريد أن أقنع نفسي بأية حجة .. لو منحت جسدها لكلّ عابر من دون أجر، ملايين المرات .. خلال لحظات أقنعت نفسي، ونقضت حججي. أمي الدجاجة التي لاتعرف كلمة العيب ولاتحرك ساكنا تأتي أمامي فتحضر لي الطعام. تغسل رجلي. ترتب ملابسي. تحدثني عن الشرف ثم تغادر الغرفة. نريمان تواصل حديثها وقد أخذت رقبتي بين ذراعيها:

- هل أدركت الآن لماذا امتنعت عنك نوليا؟

الحلال يسعى إلي عبر جسر الحرام. فهمت اللعبة متأخرا. ليس اختصاصها بي شفقة وعطفا وتعاطفا. فكرة زواج. اقتران. بيت مسؤولية . أطفال. أنا صاحب قرنين كبيرين مثل وعل يعيش فبي الغابات:

- أجل كنت غبيا.

- لو أنها منحتك نفسها لحرمتُ عليك إلى الابد.

 ربما فكرت أنها تكرهني أو تحتقرني. ذهبت مع زبائن وامتنعت عني. كانت تدرك تماما أنّ نريمان تحبني وتفكر بي، وكأني أهرب من اللحظة الراهنة:

- منذ متى راودتك الفكرة.

" ضغطت على يدي كأنها تستعين بي" منذ الأسبوع الأول قرأت فيك طيبة متناهية. أنت مكشوف كل الذين زاروا المقصف من العراقيين كانوا مبهمين كأن أحدهم يخشى الآخر لكنك كنت واضحا من أول يوم بل من أول وهلة فتردد في ذهني أمر ما ففاتحت نوليا وحذرتها قلت لها مادام هناك بعض الأمل ولو بنسبة خمسة بالمائة فأنا سوف أكون محرمة عليك إلى الأبد!

- والدتك تعرف؟

- قلت لها إني مهتمة بهذا الشاب وأود أن أدعوه إلىبيتنا فلم تمانع.

لابأس أن أكون مغفلا ولست بغبي. ماذا أتوقع .. كنت في سجن كبير .. لاصحف .. لامجلات .. لامحطات حرة .. أعشى يفاجيء عينيه مكان رشيق الألوان، أبي متأكد تماما من أني أعود بعد أسبوعين أو إن نقودي ستسرق مني الأسبوع الأول لكن مافي جيبي لم يُسَرق بل عرضت علي بيروت الهرب وأغرتني بالمال:

- لاشك أني مغفل وأعمى حين لم أشعر بما يدور حولي!

- لا إنك طفل كبير لك روح طفل وهذا السبب هو الذي جعلني أتعلق بك!

هل أسيء الظن بها. لِمَ أنا؟ طلاب البعثات موظفو السفارات لاأحد في حاجة إليها مثلي ربما هناك من العراقيين أمثالي يتجاهلون الموت فيختارون .. لكني عاجز الآن عن تحديد أين أكون فألوذ بالبعيد الآتي إلي من البصرة:

- تعرفين آخر رسالة وصلت إلي من أهلي يسألونني فيها الرجوع!

- ثمة حرب هناك أيضا!

نهضت والتقطت حقيبتها وهي تقول:

يمكننا أن نعيش بسلام في أي بلد ولاداعي للمغامرة!

- ستعرفين جوابي في الوقت المناسب.

مازال هناك أمل لم يختف من عينيها:

- فكّر بالأمر جيدا، وانتبه كي لايسرقك الوقت.

 لعلني أحبها ولعلني أكابر، ربما أمثل طفولتها البريئة المفقودة، في الوقت نفسه مازال عنادي حادا، وترددي يقوى، ويخفت. من يوصل الخبر لأبي وكيف تعرف أمي. بيروت تشتعل. كردستان تحارب .. ونهر خوز مشغولة بصنع الحلوى والتمر .. كلما اشتد رفضي ازدادت قناعتي.

كنت أهرب من تلك اللحظات فآخذها بين ذراعي لأنسى الجوّ المشحون.

الجمعة

13 / 4 /1976

استفقت على صوت انفجار صاخب ..

عرفت من المذياع أنّها سيارة ملغومة. لايهمّ المكان فأعاصير الموت سوف تلفّ كلّ الزوايا، ويذيب جحيمها الوقت بطوله. غدا كما تقول نريمان يأتي الموت بأشكال غريبة:سيارات مفخخة .. صواريخ موجّهة .. قذائف مدفعيّة .. مسدسات مقنعة أوينزوي بكاتمات صوت. يأتي صامتا ومدويا يزهق الأرواح خلسة وعلنا .. اختفت صورة لبنان الناعمة الأليفة وتلاشت كسراب غابات الكرز والليمون والتفاح وخضرة التلال وشجر الأرز. أصبحت في لحظات ماضيا مثل الخرافات التي تسكن داخل أغوار سحيقة من أعماقنا .. خوفي يبلغ الذروة على الرغم من أنّ الوضع الشاذ والفوضى تصبّ لمصلحتي. لاأحد يلتفت لجواز سفري .. إقامتي .. كلّهم مشغولون بالموت يغنون له أمّا أنا فليس أمامي لكي أخرج من هذا الجحيم إلاّ أن أصبح قوادا.

هل أعود للقتل من جديد؟

فتح .. الجبهة الشعبية .. الصاعقة .. العربية .. جبهة التحرير .. أم في خندق واحد مع الرفيقة لينا؟

نريمان الرقيقة قذفت أخطبوطا على الأسفلت فخمدت حركته بثوان عندذاك قالت لي أمي: ألا تذبح الأرنب؟في الوقت نفسه بالضبط .. الوقت ضحى ففي بيروت تذوب الأوقات بزمن واحد. الآن الساعة العاشرة سوف يأتي أبوك من العمل جائعا. أخي الأكبر معلمي وأستاذي مارس الذبح وهو ابن ست سنوات. على يده مازالت ندبة من مخلب أرنب .. وأخي الأصغر ذبح أرنبا ببرودة أعصاب وهو في الثانية عشرة من عمره .. في الوقت الذي رأيت فيه الأخطبوط يهمد حملت سكيني واندفعت .. تطلع في عيني .. تطلع طويلا. ثمة صرخة. زعيق ينطلق من قطرة الدم ويدفع بي إلى الوراء، فأرتجف مذعورا .. لاأرغب في الذهاب إلى الحانة، فأتذكر مع قتام بيروت وقسوتها المفرطة أني أقدر على الصحو في جو مفعم بالضباب متلفع بجلباب الخوف والموت على بعد خطوات مني. قد تكون أنت أو أي شخص غيرك. عملية حظ. سحبة يانصيب .. كان الرصاص ينطلق من جبل زوزك ويغطي قرص الشمس. لست متأكدا من أنه نال أحدا ما، ولعله أصاب الهدف بدقة. قد يكون رصاصي طائشا كأفكاري فبالأمس فقط راودني خيال مفعم بسوء الظن. نوليا استباحت كل الرجال ولم تستبحني. كم أنا وقح حقا؟كان الأجدر بي أن أنتبه إلى مشاعر نريمان الأخت الكبرى. المستقبل أمامي نتن:قواد أم قاتل؟لكن نريمان لن تخرج مع أيّ زبون .. يمكن أن تخلص لي. ربما أقتنع أن يكون لي قرن ليوم أو ثلاثة .. حجتها غير بعيدة عن الصواب. بدلا من بيروت قد أكون في أوروبا الآن مقترنا بفرنسية أو روسية كيف أعرف عدد الذين ضاجعوا امرأتي قبلي؟هذا اليوم راودتني رغبة في الخروج .. أي شيء أعمله سوى الخروج إلى أقرب كشك، فتعبث عيناي بحثا عن خبر مفرح. أمامي يوم ممل طويل، ولدي رغبة بعد لقائي الأخير بنريمان ألا أذهب إلى المقصف. لاأرغب في الشرب. كرهته. قرفت من رائحة العرق التي حجبت عني أمرا في غاية الوضوح. أنا الآن صاح بينما راح لبنان يوغل في الشرب .. في مثل هذه الأجواء مجنون من يبحث عن عمل. في الطريق وسط غابات الحور والجوز مباشرة ونحن نهم بالصعود، انفجر لغم فسقط جندي على بعد بضعة أمتار مني . اصطبغت بدلته بلون أحمر قان. لغم من صنع محلي، وبعد شهر من الحادث كتب إليّ الجندي ذو الساقين المفقودتين: أشكرك لأنك دفنت ساقيَ. أنا أدعو لك كل صلاة، وفي اليوم نفسه وأنا عائد إلى المنزل قابلت لينا. بدت ببدلة عسكرية خاكية اللون وقبعة على رأسها. قلت أن جميع أوقات العالم ولقاآته تنصهر في بيروت .. سألتها مباشرة من دون مقدمات:

- هل تقبلين الزواج مني؟

قالت، وهي تقبض على ذراعي:

- هيا بنا إلى أقرب مأذون.

فصحوت لأجدني أضم الجريدة إلى صدري، وعلى الرغم من أنني قررت اليوم أن أعتكف في الغرفة إلا أن الحلم استفزني، وداعب خيالي خاطر في أن أذهب إلى مكتب صوت الشغيلة. حين توغلت قليلا في عمق المحلة أذهلتني حالة الشارع. إستنفار. ميليشيات .. حواجز منظمات .. مسلحون. آمن لبنان بالحرب ولو كنت سكران لما فهمته. قد أكون الصاحي الوحيد:

- إلى أين؟

- لن أذهب بعيدا زيارة للأصدقاء؟

- أنت من العراق رفيق؟

- نعم.

- مرحبا بك!

- لو سمحت بطاقة تعريف؟

العراق مرحبا بك !

التحقيق نفسه. حاجز آخر، مسلحون .. العراق .. مرحبا بك .. مقر حزب الشغيلة غص بالمسلحين. كانت الرفيقة لينا ترتدي بدلة عسكرية ومسدس يتدلى من حزامها العريض. ابتسامة واسعة :

- هل جئت تتطوع؟

- ليس الآن!

وهي تعبث بمنفضة السجائر:

- علام جئت إذاً؟

-أقول لك بصراحة إني رأيتك قبل ساعتين في حلم!

رافقتني إلى غرفة المطبعة الفارغة التي لفت نظري بابها المغلق أول يوم اجتزت فيه الدهليز فإذا هي صالة كبيرة تغص بأثاث قديم:

- هنا يمكن أن تبيت مع الرفاق إذا ضاق بك الحال. " التفتت إلى قصة المنام": ماذا بعد؟

- لقد عرضت عليك الزواج!

- أهذا كل شيء؟

- الأدهى من ذلك أنك وافقت وأنت تعرفين أنني لاأملك أي منزل وليس معي مايكفي من النقود!

- أنظر كيف بدأت تفهم معنى الصراع الطبقي! " ثم نفثت الدخان وأضافت": تعرف أنك مجنون!

- هي العبارة ذاتها قلتها عنك بعدما غادرت المطبعة وعرفت من السيد فاروق الأشقر أنك تركت الدراسة في الجامعة ولم تبالي بأي شيء!

وجلجلت القاعة ضحكة صاخبة منها:

- من المجنون أنا أم شخص يعبر الحواجز ويمشي كل تلك المسافة في ظروف استثنائية ليحكي لامراة لاتعترف بتأويل الاحلام عن حلم!

ربما أكون أنا أو أنت من يضمن نفسه وقد يكون لبنان كله مجنونا وأنا العاقل الوحيد هذه الأيام:

- هذا الزمن هو زمن الجنون!

السبت

14/4/1976

العاشرة صباحا ..

تلك الساعة أتذكر لقاء ساحة " أم البروم".

وأنت جالس في غرفتك تخشى أن تخرج إلى الشارع حيث الشظايا المتناثرة من علب الموت والسيارات الملغومة .. العابرون يشيرون إليك: مات وهو يمر من هنا. أدَع العالم يأتي إليّ من بعيد أتركه مثل سمكة مشدودة إلى خيط. لا أرومه يفلت من يدي، وإذا بطرقات على الباب. من تكون نريمان أم لينا؟حان وقت الهرب أم توزيع الصحف؟ لا أتجاهل أيا منهما، أسأل نفسي مقاتل أم زوج غير مخدوع، فأغادر والوقت ربيع إلى ساحة أم البروم عند عرافة غجرية في الثلاثين من عمرها ذات عينين ثاقبتين. رمت الحصوات الصغيرة على الأرض فكان من تناثرها شكل أقرب إلى الدائرة. تطلعت لحظة في الحصى ثم في عيني وبدأت الكلام:

وراءك سفر طويل!

ابن جارنا سمع نبؤة من عرافة عن سفر طويل مزعوم ينتظره فحمل حقيبته وذهب إلى الكويت ثلاثة أيام كي يحقق نبؤة الغجرية لكنه قتل في معركة حرير. لم يبق أمامي سوى ثلاثة أيام أقضيها في البصرة ثم التحق بالخدمة الإلزامية وها أنا أمام قارئة الطالع أروم كشف أسرار الزمن:

والعمر؟

حام إصبعها حول حصوات متواصلة تكاد تكون خطا واحدا:

ستعيش إلى ماشاء الله!

كم ؟ خمسين ؟أقل؟ أكثر؟

العلم عند الله لكن خط العمر طويل!

إذاً لن أقتل في كردستان. سوف ألتحق في الخدمة العسكرية وأسافر، وأعيش طويلا. أخبار سارة:

والمال؟

لن تجوع وتعرى!

والهوى؟

يواتيك مرة في الدهر!

لم أسافر إلى الكويت مثلما فعل ابن الجيران غير أن النبوءة تحققت بعد تسريحي من الجيش. سافرت فجاءت إلي النبؤة هذه المرة بدلا من أن أسعى إليها. قارئات الطالع البدويات. البصارات. لاتعيقهن بوادر الحرب وحواجز الطريق بل يكثرن مع القذائف والشظايا مثل الأحزاب. يدخلن البيوت، فتشيع مع قدومهن لقاء بعض القروش راحة في النفوس. كانت في الخمسين من عمرها. ازاحتني عن الباب متسائلة:

- من أين أنت ياشاطر!

- من العراق.

- الله يصبر قلب أمك!

- إسمعي النقود عندي قليلة فلا تظني أني غني!

- لاتهتم للأمر ربع ليرة لن تضرك!

الحصوات المتناثرة تستلب عيني تناثرت هنا وهناك فوق جريدة غطت المنضدة، وهي تحثني:

- اسأل ياولدي عن أي شيء يمر بخاطرك!

- الحرب؟ هل تندلع؟

- الحرب ماوقفت ياولدي منذ عهد قابيل وهابيل؟

- والعمر؟

- العمر طويل إن شاء الله!

- هل تعرفين كم من السنين!

- بيد الله لكنك سوف تعيش إلى ماشاء الله!

هكذا نجوت من حرب كردستان. وقفت على جبل حرير وزوزك وحذرني جنود من أن أتحاشى التدخين في الظلام وقت الحراسة فلا أكون عرضة للقناص. اتفق الغجر والبدو على أن حياتي طويلة:

- الصحة ياحاجة؟

- عال ماشاء الله.

- والسفر؟

- كلنا في سفر ياولدي

- ماذا ترين بشأن الهوى!

تتأمل طويلا وتقف عند حصاة التمت على أخرى مثل الجنين :

- إنسان قلبه عليك!

- وماذا عن الزواج والأسرة؟

- قلت هناك شخص قلبه عليك.

- ماذا بعد؟

- هذا كل شيء.

وجمعت الحصاة، وغادرت غابت مثل حلم جميل يمر بك وأنت نائم في قفص مع وحوش ضارية وكانت ساحة أم البروم تغيب معها وتتركني وحدي وفي إحساسي تسطع فكرة خبيثة وتوسوس لي أن نريمان أرسلت تلك العرافة لتحدثني بطريق الغيب عن حبها لي!

الأحد .. الإثنين .. الثلاثاء

 .. / .. /

الأسبوع كلّه .. كل الأوقات

بدأ النهار بنغمة حادة، فهاهي بيروت تكشر عن أنيابها ..

يوم مبهم الملامح ..

يمكن أن يكون أيّ يوم في التاريخ ..

تلك الساعة وقع الزلزال العظيم. وتصاعدت الأحداث إلى مدى بعيد من المحال تصديقه. أصبح الموت يحيط ببيروت .. تكاثرت المنظمات وانشطرت الأحزاب كالبكتريا. في بضعة أيام بل ساعات أو دقائق أصبح الناس كثيران متوحشة وكأن تلك الأرض الطيبة لم تتفجر منها أعذب العيون ولا أجمل الأغاني .. كان الصنوبر والكرز والعنب والتفاح وهماً و الأرز تحول إلى شوك .. إذ أذكر خوف الناس فإنّ خوفي يخفّ قليلا. إذاعة فلسطين .. صوت لبنان .. الإذاعة الوطنيّة .. محطة الكتائب تلقي بالوم على الغرباء الذين خربوا لبنان. لبنان إسفنجة الحضارة العراقي فيها والمصري والتونسي والياباني .. جميع أهل الأرض .. مصحة العرب. مشفى نأوي إليه فننقل العدوى إلى أهله .. راديو .. محطات التلفاز .. أحزاب صغيرة لبنانية ومنظمات فلسطينية تستقبلك لايهمها من تكون سوى أنك تحمل السلاح وتشارك في الحراسة والدوريات. حوادث تسطع في ذاكرة اللبنانيين مثل جمر أزاحت الرماد عنه لفحة ريح. الشرقية لاتنسى محاولة اغتيال بيار الجميل. الغربية تلهج بمقتل معروف سعد فيالثأر سبعة وعشرين راكبا في حافلة قتلهم حزب الكتائب عند عين الرمانة. القتل هو آخر الأخبار، والموت محور الكلام. في منطقتنا قال لي بائع الفلافل:

- سوف نقتحم الشرقية هؤلاء المارونيون ليسوا عربا عملاء إسرائيل من بقايا الحروب الصليبية جاؤوا إلى لبنان غزاة واستقروا هنا في بلدنا!

وعلق لبناني آخر:

- جنبلاط قائدنا الشرقية ساقطة من الناحية العسكرية ولانحتاج إلا إلى ساعات.

- هناك نحو الشرق باتجاه المرتفعات تستطيع القوى الوطنية أن تحتل عالية فتشرف على بيروت من فوق.

الكل مفكرون، والكل قادة عسكريون يضعون الخطط .. ويباشرون مهمات القتال .. لبنان أصبحت تأكل نفسها .. تعض جسدها وتقطع أوصالها ..

عند الظهيرة شعرت بالجوع. وضعت ماء بالوعاء أسلق بيضتين ثمّ اكتشفت فراغ القنينة. اليوم عليّ أن أملأها وسط هذا الخراب المتناثر حولي، ولم يبق من راتب الشهر سوى أقل من مائة ليرة. الجوع يقرصني .. والضجة تنشب مخلبها .. داخل الغرفة تنخر المحطات وفي الخارج انفجارات متتابعة. أيهما أتجاهل الجوع أم الرعب. ارتديت ملابسي وكنت أطلّ على الخارج. كلّ مارأيته يهون أمام الموت .. الهلع بعيون الناس .. القذائف تخترق السماء وتستقر مسعورة على الشوارع والابنية .. الطيران .. الرصاص هنا وهناك ..

أين أذهب؟

نوليا نريمان .. لينا إلهات الجنس والحكمة والحرب. الحروف التي طوقتني في أحد الأحلام هي ذاتها عادت بالحرب .. الحاء وحده أصبح حلقة وسطا فاين نريمان ياترى الآن:

- أنظري هذه آخر رسالة من أبي!

- ماذا عن الشمال والأكراد؟

- كردستان تشتعل الآن؟

- أتهرب من نار بيروت إلى نار الجبال!

- تعال معي!

- لينا .. نريمان .. نار .. البحر ..

الموت .. القتل .. الجريمة .. فلسطين .. بيروت الغربية .. الشرقية .. مصائد الموت. الحواجز الطيارة .. ما الذي جعلني أغادر العراق .. شيوعي .. قومي .. من الإخوان .. ربما أكون كل هؤلاء مادامت كردستان في خاطري فخدمة العلم يمكن أن تتكرر كل سنة .. واجب الإحتياط عمل مقدس .. أنسخ حياة العسكرية في وحدتي المرابطة على جبل زوزك كل عام بدلا من أن أهمل نفسي فأصبح ذا كرش كما يقول الضابط .. وهاهي بيروت تريدني أن أستنسخها. أقرأ في وجه لينا كل قسمات اللبنانين وأسمع أصواتهم. صوت واحد: احمل بندقية واتبعني .. مقاتل في الجبهة الشعبية .. فدائي مع فتح .. رفيق أساند الحزب الإشتراكي، في الخندق نفسه مع صوت الشغيلة. الحرب في داخلي تتناسخ والسؤال الوحيد يلح عليّ بقسوة. يقرصني كمخلب جارح.

أين أذهب؟

بيروت سألتني من أول يوم أنت سياسي؟ .. شيوعي .. قومي .. مدينتي البصرة ملايين النخل تسبح على بحيرة بترول لكن مافائدة أن تكون جيوبك معبأة بالنقود ولاتجد شيئا؟ مادمت غير سياسي فهل أعود إلى السجن من جديد وكردستان برميل بارود يندلع في أية لحظة. بركان يخفت ببيان مصالحة من بغداد وينفجر في أي حين .. قد تنتهي الحرب هنا ذات يوم لكن هناك على الجبل سأظل طوال عمري أطلق الرصاص وأعبر حقول الألغام!

التأمل لحظة يمنحني صراع قرون وتناقض أجيال. ماقيمة حياة التشرد؟ثروة .. مال .. واستقرار. كلنا نخطيء. أنا أخطأت حين ذهبت إلى المبغى. نريمان تحدثت بقلب مفتوح .. وثقت بي .. صادقتني .. دعتني إلى بيتها .. عرفتني بأمها أي حاجز رفعته بيني وبينها وتقسم أنها لم تسلم جسدها لأحد منذ عرفتني وفي مثل هذه الظروف المثقلة بالأخطار سلمتها مفتاح شقتي لكني أظل دائما أبحث عن قريتي وأنظر بين نخيلها إلى النساء على استحياء. وأنا صغير في الصف الخامس الابتدائي خربت القنطرة التي كانت الجسر الوحيد الذي نعبره إلى المدرسة، فخلعت الفتيات أحذيتهن ورفعن تنوراتهن الزرقاء الطويلة إلى الركب. كنت مندسا بين السواقي ومختفيا وسط الحشائش أنعم النظر إلىسيقانهن المصقولة، وفي المدينة بالكاد أختلس نظرة إلى وجه امرأة فكم رجلا ضاجع نريمان؟يمكن لها أن تتوب وتخلص لي، فأتخلص من عقدة القرون بمرور الوقت أم أذهب إلى هناك مع التي تريدني قاتلا أطلق النار على من لاأعرف .. إن لم أمت في كردستان ففي بيروت بانفجار تحكي عنه صحافة اليوم وتتناقله وكالات الأنباء وتلوكه شفاه مذيعات التلفزيون الجميلات: عشرون قتيلا حصيلة أنفجار في بيروت الغربية وعشرات الجرحى، ولعلني أعثر على ساقين دفنتهما ذات يوم عند السفح فلاأجدهما فأكتب إلى صاحبهما في اليوم التالي ردا .. بضعة أسطر أتحفظ في انتقاء كلماتها حتى لاأثير ضغينة الرقيب:

عزيزي ..

إطمئن .. دفنت قدميك أسفل الجبل من الجهة القريبة للعين إذ كان من المحال أن أتجاوز بعيدا عبر الغابة حيث قبر الولي فأدفنهما هناك. انت تعرف السبب. ادع لنا في صلاتك.

 فهل أوشكت أن أفقد ساقي فلا أعثر عليهما وسط الفوضى والدمار؟

الزمن كفيل بمعالجة كل شيء.

فأين أذهب.

قاتل كما في كردستان أم قواد؟

أكرر السؤال أكثر من مرّة، فتراودني جرأة غير معهودة على أن أتجاهل الخطر وأخرج إلى الشارع!

كانت قدماي تقوداني إلى حيث لاأدري .. أمنية قد تكون أقرب إلى الممكن او المحال، وكلما ازداد الرعب من حولي وأحدق بي مخلب الموت ازدادت خطواتي ..

ثمّ التفت إلى نفسي.

كان القصف يزداد في حين كنت أهرول في الشارع ولما أقرر بعد هل آوي إلى مقر الرفاق التحق بإلهة الحرب العرجاء أم أقصد المقصف الملكي!

 

بيروت – شتورة - دمشق

1986

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم