صحيفة المثقف

الاندلس عصور من العطاء والتنوير (2): قرطبة - Cordoba

كاظم شمهوديذكر بعض المؤرخين ان مدينة قرطبة ظهرت في زمن الفينيقيين القرطاجنيين (تونس) واطلقوا عليها اسم كاردوبا Karduba – (Kart-Juba) اي مدينة خوبا Juba وقد قام بتأسيسها زعيم الفينيقيين أميلكا باركا Amilcar Barca على شرف احد قواده المسمى Juba والذي قتل في أحد المعارك مع الرومان نحو 230 ق.م ومن المعروف أن اميلكا باركا هو والد المحارب هانيبال (هاني بعل) وهو الذي ايضا قام بتأسيس مدينة برشلونه وسميت بأسمه باركا Barca (Barcelona) . وبعد وصول المسيحية الى قرطبة في القرن الثالث ميلادي بزعامة الاسقف اوسيو Osio اخذت المعابد الدينية تنتشر واخذ الناس يعتنقون المسيحية ويتخلون عن المعتقدات الوثنية القديمة ويذكر ان الاسقف اوسيو كان يشغل المستشار الاول للامبراطور أوغسطين الاول مما سهل أنتشار المسيحية في القرن الرابع ميلادي .

عصر المسلمين:

دخل المسلمون الى شبه الجزيرة عام 711 م وكان في اول الامر اتخذوا اشبيلية عاصمة لهم ثم انتقلت العاصمة الى قرطبة في عام 756 عندما أسس عبدالرحمن الداخل أمارة منفصلة عن الدولة العباسية .

وفي سنة 929 اصبحت قرطبة عاصمة الخلافة الاموية في الاندلس حيث وصلت الى اوج عظمتها وازدهارها ورقيها وتمدنها الحضاري، واعتبرها البعض عاصمة الدول الاوربية .

و كانت قرطبة في هذه الفترة من اكثر مدن العالم كثافة سكانية وقد بلغ عدد سكانها عام 1000م الى 450.000 نسمة، وفي رواية اخرى الى مليون نسمة .

وكانت مركزا اقتصاديا وعلميا ودينيا وكانت جامعة قرطبة يشد اليها الرحال من كل اطراف المعمورة . وكان ابناء الاشراف والملوك من الاوربيين يأتون الى قرطبة لدراسة مختلف العلوم والفنون، وكان جامع قرطبة صرحا حضاريا ليس له مثيل في العالم . اما عمارته فهي من عجائب الدنيا جمالا وسعة وفنا وشموخا يسحر كل من شاهده . وقد استمر العمل في بناءه حوالي قرنين من الزمان وخلال هذه الفترة اشترك في بناء عدد كبير من الخلفاء والامراء وآلاف المعماريين والعمال وجلبت اليه الحجارة من مدن ودول بعيدة، حتى غدى آية جمالية تقر لها العين وتلذ .

436 قرطبة

ثم شيدت مدينة الزهراء الاسطورية في زمن عبد الرحمن الثالث (الناصر) وتقع غرب قرطبة على بعد نحو 7 كم وكان يشرف على بناءها ابنه الحكم الثاني، واستغرق العمل فيها حوالي 15 سنة وقيل اكثر من ذلك . وغدت اية في الصناعة والجمال لم تلحقها اي مدينة في اوربا .. ولكن تدور الايام ويدخل الموحدون المتعصبون اسبانيا فيأتون الى هذه المدينة ويحرقونها ويحولونها الى ركام وانقاض بحجة انها مخالفة للدين .. وما اشبه ذلك باليوم والمنظمات المتطرفة و داعش والتعصب والتحجر وحرقها للمدن والآثار وقتل وتهجير الناس بحجة انهم كفار ..

زرت المدينة اكثر من مرة وقد وجدت ان علماء الاثار الاسبان قد انتشلوا المدينة الساقطة واقاموها من جديد واعادوا بناء اسوارها واقواسها وحجارتها وزخارفها واعمدتها . وغدت اليوم كأنها قد بعثت بها الحياة من جديد واصبح الزائر والمشاهد يتخيل حضور صور الخلفاء وأهل المدينة وحركة الناس بطرازهم وتقاليدهم القديمة.

أما على الصعيد الثقافي والعلمي فقد بلغت قرطبة في زمن الحكم الثاني أوج عظمتها ورقيها وتألقها وكان يمتلك أكبر مكتبة في العالم وكان يرسل الاشخاص الى مختلف الدول والمراكز العلمية لشراء وجلب المخطوطات العلمية والادبية والثقافية، ويذكر ان عددها بلغ نحو 400،000 الف مخطوط وقيل في مصدر آخر مليون مخطوط في كل صنوف المعرفة .

ولكن قرطبة لم تستمر في تألقها الحضاري طويلا حيث سيطر الموحدون على الاندلس ونقلوا العاصمة الى اشبيلية وبذلك فقدت قرطبة مركزها الحضاري واخذت جذوتها المضيئة تخمد شيئا فشيئا ثم تحولت الى خراب ودمار ايام حكم الطوائف بفعل الصراعات السياسية الداخلية المستمرة

435 قرطبة

مسجد قرطبه:

واليوم نجد مسجد قرطبة الاسطوري قد اهملت جدرانه وتركت للزمن ان يعبث بها واخذت زخارفه تتآكل وتتساقط نتيجة الاهمال المقصود والمتعمد، ولازالت الابواب الاصلية تحيط بها الاقواس والاعمدة الرشيقة وتزيينها الايات القرآنية والزخارف الاسلامية المحفورة على الحجر أما الجهات المتضررة من الجدران فقد حولت اليوم الى سطوح ملساء صماء مكسوة بالجبس الابيض واقواس نصف دائرية الشكل ذات لون اصفر غامق أو داكن ..

وحلت محل السقوف القديمة السقوف المنحنية المضلعة، وانشأت على جوانبه المصلات المسيحية تزينها الصور والتماثيل والصلبان وغيرها من الزخارف المسيحية وبقى محراب المسجد على حاله بزينته وزخارفه وآياته القرآنية التي تحيط به والذي يعتبر من أجمل رواع الفن الاسلامي الاندلسي، كما يوجد الى الان محراب صغير يقع على الجهة اليمنى ويبدو انه المحراب القديم الاول الذي نصبه حنش بن عبدالله الصنعاني الذي اسس المسجد وعين قبلته .

واليوم نجد ونشاهد هناك حملة كبيرة لتحويل عمارة المسجد من الطراز الاسلامي الاندلسي الى طراز مسيحي . وهذه الحملة بدأت منذ قرون ولكن بشكل بطىء تتخللها محطات توقف وانقطاع حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية .

وكانت هذه الحملة قد لاقت معارضة شديدة من قبل علماء الاثار الغربيين وحتى الاسبان وقد وصفه البعض بأنه (أشنع عمل همجي) وكان اضافة الهيكل في زمن الملك كارلوس الاول عام 1521 وهو الذي أمر بتغيير المسجد .. ولكن عندما زاره شاهد جمال عمارته احتج وتراجع عن اوامره السابقة فقال لهم (لقد بنيتم هنا ماكان يمكن بناءه في اي مكان آخر وقد قضيتم بذلك على ماكان اثراً وحيداً في العالم) .

وفي الفترة الاخيرة احتجت حكومة قرطبة والاحزاب الاشتراكية الاندلسية على هذه التجاوزات الغير قانونية على عمارة المسجد وتغييرها من قبل الكنيسة ودعت الى اعادة النظر في حق ملكية الكنيسة للمسجد، وقادت هذه الحملة ايضا نائبة رئيس الحكومة الاشتراكية الاسبانية الحالية-2018- ودعت الى طرح هذه القضية الى القانون والمحاكم .. علما ان المسجد يعتبر اليوم تحت رعاية منظمة الامم المتحدة اليونسكو للحفاظ على التراث العالمي وفيه يمنع التجاوز على التراث وتغييره او تحويره او اهماله او هدمه ..

 

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم