صحيفة المثقف

العراق بدلة قديمة يجب استبدالها وليس ترقيعها (1)

لطفي شفيق سعيدإن البدلة التي يرتديها العراق الآن كان قد مضى على ارتدائها قرونا عديدة من الزمن وأصبحت قديمة ومتهرئة لا يمكن ترقيعها وأن استمرار ارتدائها في هذا الشكل والخروج فيها أمام انظار العالم يبعث على القرف والسخرية والاستهجان والتندر ويبعث على التساؤل كيف لبلد مثل العراق وهو يمتلك كل هذه الخيرات أن يرتدي مثل هذه الاسمال التي مضى عليها ردح من الزمن؟  البدلة التي توارثها من أناس جاءوا اليه من مختلف الأمصار كان هدفهم الرئيس إذلاله وجعله خاضعا لسيطرتهم وفرض نوع اللباس الذي يختارونه له بعد أن ويحرمونه من جميع مقومات الحياة والعيش الرغيد.؟

إن من تلك الأقوام والشعوب التي فرضت هيمنتها وسطوتها على العراق قبل قرون مضت والتي اجبرت العراق على ارتداء ما يطلب منه من لباس هم المغول الذين اجتاحوا العراق ودمروا بغداد وسبوا وقتلوا ما لا يقل عن مليون نسمة من سكنتها تحت قيادة قائدهم الدموي هولاكو.

إن اجتياح المغول لبغداد قد أنهى فترة حكم العباسيين في العراق الذي دام أكثر من خمسمائة سنة والذي انتهى ايضا بقتل آخر خلفاءهم (المستعصم بالله).

لقد كانت فترة حكم العباسيين من الفترات التي عانى فيها الشعب العراقي الذل والهوان وخاصة الطبقة الفقيرة وهي الغالبية العظمى منهم والذين كانوا يعيشون في فقر مدقع في وقت كان حكامهم من الخلفاء يتمتعون بعيش رغيد ويكتنزون الذهب والفضة والجواهر النفيسة ويمتلك واحدهم عددا كبيرا من الجواري والغلمان إضافة إلى ما ملكت أيمانهم, حتى أن هولاكو  قد تفاجأ بتلك الكنوز والعدد الكبير من جواري الخليفة المستعصم بالله والتي بلغ عددها أكثر من سبعمائة جارية وقد عقب على ذلك بقوله (لو أن هؤلاء الخلفاء قد وزعوا هذه الكنوز والموارد الهائلة على الشعب لما سقط حكمهم)

لقد صارت تلك الكنوز والجواري ملكا للمغول وإن ما تبقى من الناس البسطاء في بغداد بعد تلك المجزرة والذين كان عددهم قليلا جدا فقد اختبأ العديد منهم في مجاري الصرف الصحي وداخل الآبار والمقابر والسراديب وخرجوا منها كالأموات بعد أن ترك المغول بغداد وبعد أن جعلوها مدينة خربة تعج بالفوضى وتنتشر فيها الأوبئة ومرض الطاعون بسبب تفسخ آلاف الجثث التي تركت في الشوارع والأزقة والسراديب.

بعد أن غادرت جحافل المغول أرض العراق وعاصمته بغداد وأصبحت خالية ممن يدير شؤونها وجدت الخرفان السود المتمركزة في أواسط آسيا الفرصة مواتية لاحتلاله وإعلان دولتهم التي أطلقوا عليها (دولة الخروف الأسود) وهي قبائل تنتمي إلى القوقاز والشيشان والتتار وإن أول ما قاموا به هو استبدال بدلة العراق وجعلها من صوف الخرفان السود, إلا أن دولة الخروف الأسود لم تدم طويلا فقد وجدت جماعة الخرفان البيض الفرصة سانحة للانقضاض على الخرفان السود والقضاء عليهم واستلام حكم العراق وتبديل بدلته من الصوف الأسود إلى الصوف الأبيض وإن الخرفان البيض تنتمي إلى نفس عشائر الخرفان السود والاختلاف الوحيد بينهما هو التناحر والعداوات والصراعات من أجل الاستحواذ على حكم العراق في تلك الحقبة السوداء من الزمن.

هذا هو حال الشعب دوما عندما يسقط حكامهم في مزبلة التاريخ.

لقد تلت تلك المرحلة المأساوية التي مرت على العراق التي خلفها اجتياح المغول وجماعات الخرفان السود والبيض مرحلة أخرى لا تقل عن سابقتها في العسف والأذلال متمثلة باحتلاله من قبل الدولة العثمانية والتي فرضت سيطرتها على العراق وعاصمته بغداد  زهاء أربعمائة سنة أخرى أجبر فيها سلاطين بني عثمان العراقيين على ارتداء نفس البدلة القديمة الوسخة بعد أن أجروا عليها بعض الرقع هنا وهناك  وبمقاساتهم والوان يختارونها  حسب اذواقهم وأصبح شكل تلك البدلة والذي أطلقوا على تسميتها اسم  بدلة  (التتريك) أي بمعنى أن يكون كل فرد في العراق خاضعا  لإرادة السلطان والوالي التركي ويأتمر بأوامره حتى وصل الحال بالعراقي عند ارتداء تلك البدلة أن يتقن اللغة التركية بدلا من لغته العربية  عند التعامل مع الدولة ولا زال بعض العراقيين القدماء يتداولون مفردات منها لحد الآن .

لقد اعقب العثمانيون قوم عتاة كان جلهم ينحدرون من أشقياء بغداد ومملوكي الدولة العثمانية من الشركس والشيشان والقوقاز وسميت فترة حكمهم تلك بحكم المماليك والذي دام ما يقرب من مائة عام, لقد كان المملوك يستولي على الحكم من مملوك آخر بعد أن يقطع رأسه ويرسله إلى الإستانة بكيس من الكنفاص ليحصل على فرمان جديد يأهله الحكم والتحكم في رقاب الناس في بغداد خاصة ويفرض تصرفاته ورغباته المشبوهة والسادية عليهم و من تلك الأرادات الشاذة والغريبة التي فرضها أحد هؤلاء المماليك  والتي تتعلق أيضا بنوع البدلة والملابس التي اختارها  للناس هو (منع النساء من ارتداء ملابس داخلية!) وأخر اشتهر بقطع رؤوس الناس معارضين كانوا أو غير معارضين حتى وصل الأمر به أن يقيم تلا من الجماجم في وسط بغداد لكي يتمكن من مشاهدته من أماكن عدة والغرض منه ترهيب الناس وجعلهم يخشون بطشه.

انتهت تلك الحقبة المظلمة والناس في العراق وبغداد خاصة لم ينضوا بدلتهم القديمة والمتهرئة عنهم والتي فرضت عليهم من أقوام جلهم أجانب وغرباء وإن كل ما قامت به تلك الجماعات هو ترقيع تلك البدلة البالية والقديمة فزادوها تشويها ونفورا بادعاء أن لهم خبرة في جعل تلك البدلة تبدوا جميلة وزاهية تسر الناضرين خلال إجراء بعض التحسينات عليها بعد غسلها وكيها وخياطة الأماكن الممزقة منها.

إن مرحلة الفوضى والاضطرابات التي عمت العراق خلال فترات متعاقبة من الزمن والتي قد تجاوزت عشرات العقود تداول الحكم فيها  جماعات وشخصيات لا تمت بصله بمكونات شعبه الحقيقي فجعلت بدلته أشبه ببدلة (الأرجوز) مهلهلة ومرقعة بقطع من الأقمشة الغريبة والملونة بمختلف الألوان.

لقد وفرت هذه الحالة أرضية مناسبة لاستمرار اجتياح العراق وجعل أرضه ساحة لصراعات وحروب ناعمة وخشنة فما أن تنتهي واحدة حتى تبدأ أخرى, إن أكثر تلك الحروب بشاعة ودموية هي الحرب العالمية الأولى التي ألقت بظلالها السوداء والكئيبة على العالم وبضمنه العراق الذ قاسى شعبه المجاعة والفقر والمرض والحرمان طيلة فترة الحرب وخلال الفتال الدموي الذي جرى على أرضه بين جيوش الدولة العثمانية وجيوش بريطانيا العظمى والتي انتهت بهزيمة العثمانيين وسيطرة بريطانيا على مقدرات العراق وذلك في العام 1919 م ومحاولتها تغيير معالم البدلة القديمة التي ظل العراق يرتديها لعدة قرون وبالطريقة والأسلوب الإنجليزي المتعارف عليه عند احتلالهم للبلدان واستعمارها والسيطرة على مواردها وخاماتها ومنها (النفط مستعبد الشعوب).

انتهى القسم الأول من (العراق بدلة قديمة) وإلى القسم الثاني.

 

لطفي شفيق سعيد

8 تشرين ثان 2018

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم