صحيفة المثقف

زيزفون البحر

قصي الشيخ عسكرومضت ستة أيام وسبع أمسيات

ولم تزل زوابع الطوفان تعصف

ثم هدأ البحر وسكنت العاصفة

ورأيت البشر قد عادوا جميعا إلى طين

من ملحمة جلجامش

وفيما هم مبحرون نام ونزلت على البحيرة عاصفة ريح عنيفة، وأخيرا تقدموا إليه وأيقظوه، فنهض وانتهر الريح وهيجان الماء فهمدا وساد سكون

العهد الجديد

إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية

القرآن الكريم

..................

ظهر لنا بعد طلوع الفجر جبل في البحر بيننا وبينه نحو عشرين ميلا والريح تحملنا صوبه فعجب البحرية وقالوا لسنا بقرب من البر ولايعهد في البحر جبل وإن اضطرتنا الريح إليه هلكنا فلجأ الناس إلى التضرع وابتهلنا إلى الله بالدعاء وتوسلنا بنبيه وسكنت الريح بعض سكون

رحلة ابن بطوطة

اثنان أو ثلاثة بملابس بيضاء صافية كالثلج يحيطون بي!

كأنّ البياض انشق فتشظّىوقذف بهم نحوي ثم انشطروا وتناثروا  إلى أكثر من واحد وواحدة حتى كادوا يحبسون الهواء عني... تكاثر هائل يلتبس بصورة بكتريا بدائية تتناثر ولاتفنى، وعالم البياض ذو بعد لاقرار له يغطيني كما يفعل الثلج بالأرض من كتفي إلى قدمي.كان ذلك بعد لقائي بالدكتور " ياكوب بيترسون" الذي لم أحتج معه إلى مترجم فقد بدا لطيفا في حديثه كأنه صديق يعرفني حق المعرفة منذ كان عالقا باسمه القديم.

وحده فقط بقي عاريا رأسي خارج البياض فسخرت من الأرض التي تلف هامتها بشال أبيض وتكشف عن جسدها بألوان شتى.كان يسابقني ليدلف قبلي.ظلت القبة ثابتة أحشاؤها تراقب رأسي في حين امتدت إلي مع بقية المسافرين أيد خشنة لصيادين عمالقة انتشلتنا من معسكرنا وقفذت بنا واحدا واحدا في جوف شاحنة من شاحنات نقل اللحوم العملاقة.

ساعتان من تالين إلى الساحل وسط الظلام والصمت اللذين اعتدنا عليهما ونحن في المعسكر...

لكنّي حالما دخلت القبة البيضويّة الشفافة غبت عن الوعي تماما،وتسربت حواسي مع نتف البياض المتناثرة من حولي.فاجأتني ضربة حادة فصلت رأسي عن باقي جسدي.كنت أتابع الأمر باهتمام وأختلف معهم في التسمية.يطلقون عليها آلة،وأسمّيها مدينة المحال.خرزة كبيرة شفافة خاوية البطن. سائل بنفسجيّ متراقص الألوان يقتحم وريدي. كأني أدخل قبرا وأسمع أزيزا أشبه مايكون بصوت طائرة هيليكوبتر.. طنين ذباب .. أزيز حشرة..ذلك الوحش المجهول المرعب أدركته قبل أن يدركني.انعدام عامل الخوف..الطفل لايخاف.. المعتوه أيضا أنا؟.رافقتني ممرضة حسناء إلى الداخل،وبيّنت لي الطرق المحتملة التي وفقها سوف تتحقق النهاية إما أن يكون رأسي حافلا بشيء ما خطر أو لا.إنّها مجرد احتمالات، وهي عقدة تشبه الكرة ارتسمت على هامتي ذات يوم واختفت تماما فما يجري داخل القبّة الشفافة يستعصي فهمه على أيّ من يقف خلف السور.ربما من هم في الداخل لايرون ما في الخارج.معادلة صعبة.. خمسة وأربعون دقيقة أقضيها في هذه الآلة.. أسأل نفسي ما الفرق بينها وبين تلك الحاويات المتحركة التي قُذِفْتُ في أحشائها منذ غادرت معسكر الاعتقال؟ وهنا كان علينا أن ننتظر حتى يعود زورق صغير بعثه الكابتن يستطلع إن كان البحر آمنا من دوريات خفر السواحل، والزورق راسٍ مثل اللص في حقل من التيارات البحرية.. لامجال أمامي للحركة والاعتراض فالصمت يطبق والظلام.. والكوة مغلقة..قد أجد نفسي لحظة أدلف نحو العمق  شيخا في الثمانين أسعفه الحظ في أن ينجو من الموت مرّات.عاصرت حربا شرسة  ثماني سنوات كان من الأجدر أن أموت في لحظة عابرة تتكدس مع لحظات مهملة نسيها الكون اللامتناهي الأطراف ففي الشاحنة المغلقة حيث الظلام لم يطرد عني القلق ولارجات العجلات بقايا رائحة غريبة للحوم طازجة تسللت عبر الظلمة إلى انفي .. تلك اللحظة كبوت فارتطم رأسي بشيء صلب فعشيت حمى الصدمة عيني وأنستني فحيح الشظايا جنبي ..رأيت رأسا تطيح به سرفة دبابة من على جسد صاحبه..مع ذلك تجاوزت المصادفة ونسيت.تجاهلت تماما اللحظة المفاجئة للموت مفضلا أن أختار الوقت بنفسي مثلما تجاهلت الخطر المحدق بي حين تجرأت على دخول النار لأنتشل جثّة ضابط كبير،فأكتشف بعدئذ أنّي عن غير وعي أقف وجها لوجه أمام الدكتاتور كما هو حالي  الآن مع تلك الآلة العجيبة التي حلمت بها منذ أن دخلت الأرض الإسكندنافيّة." نورس البحر" الطبيب ذو المريلة البيضاء والوجه الاشقر الودود يسأل:

- هل تتذكر آخر لحظة فارقت فيها الخوف!

كنت أحدق في السقف الأبيض:

- دخلت حقل الألغام وكان الرصاص يتناثر من حولي والقذائف انتشلت الجثة من دون أن اشعر بخوف حتى إني كدت أنسى إصابة تناولت رأسي.

- هل كنت مجبرا على ذلك؟

الطبيب لايعرف أنك حين تعيش الحرب وجها لوجه تخاف أول مرة ثم تتحصن بمناعة غامضة تطرد عنك الخوف،فتسعد لأنك تبقى حيا ومن حولك يتساقطون إنك بطول العشرة روضت الموت، فتخشى حين لاترى يوما أحدا يموت أن تكون أنت المقصود. :

- أبدا وجدت الرعب يلوح على وجوه الآخرين فنسيته تماما.

- ولم فعلت ذلك؟

ربما رغبة جامحة في مكأفاة من السيد الآمر..إجازة وامتيازات على الأقل أقضي بعض الايام بعيدا عن ساحة الحرب.. من أجلها هي خطيبتي التي نسيت اسمها السابق وسميتها "حبار البحر" أفعل كل شيء .. إجازة عشرة إيام بعد غياب ثلاثة اشهر.. ستجلس قبالتي يدي بيدها في حين تروح أمي وتأتي بين المطبخ وغرفة الضيوف.. من حقي أن أحتفظ بخصوصيات لا ابوح بها للمحقق أو الطبيب ولا أي إنسان آخر حتى لو كان صديقي المترجم " لاحق السراب" . لقد غامرت من أجل تلك اللحظة الفريدة..انتشلت الجثة ورافقتها إلى بلد الدكتاتور ثم جبنت خفت فزعت حين فكرت أن أصافحه وهو يحضر مجلس الفاتحة في بلدته معزيا ذوي القتيل من أقاربه البعيدين ثم في معسكر اللاجئين هناك تلاشى الخوف مني تماما. الآن لو احترق العالم من حولي لما باليت!

قلت ذلك وقد أخفيت نصف الحقيقة. لا أريد أن أبدو صغيرا جدا أمام غيري ، فأقول إن خطيبتي هجرتني وأنا في الجبهة. حرب تكاد لاتنتهي، فأي مستقبل تنتظر؟ الإجازة.. العشرة أيام التي التي غامرت بحياتي داخل حقل الموت جاءتني بملامح قاتمة أما أهل محلتي فكانوا مشغولين عن الخبر والعقدة المنتفخة في هامتي بهموم الحرب. خبر يمس كرامتي علي أن أخفيه . والدتي قالت إن خطيبتي تلك التي نسيت اسمها وسميتها بعد انقلابي على رأسي في السفينة الزورق وتغيير جميع الأسماء " حبار البحر" خطيبتي تلك فسخت الخطبة.اقترنت بتاجر عراقي يعمل في الإمارات. وجدت من العبث انتظاري، ووالدتي تقول: من باعك بعه البنات كثيرات ياولدي. أصبحن كثر الأزبال بفضل الحرب..المهم أن أرجع سالما.. الشباب يتآكلون .. وهناك الكثيرات . لعلني أنسى فأطلق الاسم ذاته " حبار البحر" على خطيبة جديدة أختارها مصادفة وربما عن حب لكن أليس من حقي أن أخفي  الحقيقة الوحيدة عن صديقي المترجم والمحقق والمشرفة والجميع..  إنها مسألة تخص كرامتي ورجولتي!

لاأدري لِمَ اخترت أن أكون في لحظة الموت شيخاً أبيض الشعر واهن العظام ضعيف البصر . لا أكثر من هذا...لا أرغب في أن أستبق الأحداث لكنّ بعض الأمور تشابكت مع المستقبل في ذاكرتي أصبحت أقرب من الحلم أو الهلوسة حين تتحقق قبل أوانها.

ولعلني وهو الاحتمال الأقرب للواقع أتعرّض لحادث كما يرد عادة في الصحف: انقلاب قاطرة..قتل..انفجار..موت طبيعيّ.. انتحار من الضجر. نعم هو الضجر نفسه. فهناك ساعتان نهشتا جلدي داخل الشاحنة.. لا أسمع صوتا ولاأرى أحدا مع أني جلست القرفصاء بين آخرين وقد تكون رائحة اللحم الطازج الغريبة اختصتني وحدي أو تسربت إلى أنوفهم حتى وصلت الساحل فوجدت هناك زورقا صغيرا انحشرنا فيه مثل السناجب البليدة .. التصقنا بقعره ساعتين ثلاثا.. أكثر ثم انطلقنا والوقت ضحى يغشاه ضباب وغيوم..

ساعة أخرى وهاهي السفينة الزورق وسط البحر تنتظرنا....

آلة أخرى...

قيل  سوف أكون محظوظا إذا حصلت على إقامة  وسط السويد والأفضل الجنوب..هناك أقصى الأرض في  الشمال تغطي الثلوج الأرض طوال السنة .الظلام والثلج..ستة شهور شتاء دامس ثم صيف قاتم.من شدة الظلام تكاد ترى العالم أسود ومن كثافة الثلج يترآى إليك أن كل شيء أبيض.كان هدفي الحصول على الإقامة ثم ليكن مايكون.لاتهمني أحداث لم أرها قط يرويها الشرقيون عن قسوة الشمال. إنها حوافز كثيرة توفرها السويد للشرقيين القادمين من المناطق الحارة غرض أن يقبلوا العيش في الشمال. السويديون أنفسهم ينتحرون هناك..يكفينا نحن العرب تلك السيدة المصرية التي قدمت مع زوجها المقاول فوُجِدت ميتة من الرعب وهي مستندة إلى النافذة  تحدق من خلال الزجاج بالكفن الممتد أمامها ويدها تحت حنكها. سكتة قلبيّة. أيّ  افتراض  يمكن أن ينجح وقد تخطيء جميع الافتراضات..الصدق وحده يكمن في تلك البقعة الزجاجيّة التي تبدأ من الموت نفسه.لم أكن وحدي رأيت آخرين يتوجهون إلى المكان وعندما دخلت انقطعت علاقتي بهم..الممرضة السويدية الشقراء رافقتني إلى فم الكهف البللوريّ.. شاحنة.. زورق.. سفينة.. قبة بلورية..الجنة تتفتق عن حوريات يستقبلنك وعلى الأرض حوريات طوال.هناك في أرض منزوعة من الحور بين نقطة الوداع والاستقبال قابلت الموت وجها لوجه..شيء رهيب..انفجار هائل..فرقعة ما.لعل الحياة تفقد لذّتها إذا بدأت من النهاية. لِمَ نعيشها إذا بدأنا بها من آخر لحظة ؟قانون قديم اعتادته البشرية منذ وعت ذاتها أحاول كسره..سوف يدفع سلوكي وسائل الإعلام والمجلات  والصحف والفضائيات إلى الاهتمام بعملي الذي سبقت إليه كل وسائل التقنية الحديثة...

الحياة هكذا تحتاج في بعض الأحيان أن نبدأ من النهاية.

انتحار... محاولة انتحار.

جنون... انهيار عصبي.

هؤلاء الشقر الذين ظلوا قابعين دهورا في ممالكهم الإسكندنافية  اختلطت عليهم  المفاهيم حتى جئنا نحن الشرقيين فدخلت قاموسهم مصطلحات جديدة .. الشرف.. غسل العار..السنة .. الشيعة.. الفلافل.. شاورما.. يظنونها محاولة انتحار ولم أقصد هذا قطعا.. يتحدثون عن لساني ويحددون نيتي سلفا..السيدة المصرية قتلها الرعب. باديء الأمر انبهرت بالثلج وهي القابعة في الضياء  المحملة بشمس الأهرام الساطعة منذ أن فتحت عينيها للنور.. ذلك مثل يعزز وجهة نظري ..لم أزر القاهرة من قبل لكن السيد  " حوت البحر  " عمي المفترض  يقول عنها إنها ربيع دائم شمس ولامطر،وها أنا أكفَّن مثل أيِّ ميت بخرقة بيضاء لم يبق  خارجا منها إلا رأسي .فاسخر من أرض تغطي هامتها بخرقة بيضاء وتكشف جسدها.الأرض لاتخجل إطلاقا.. تغطي رأسها وقدميها بشال أبيض وتكشف عن وسطها وعورتها... لاأدري إن كنت دخلت آلة ما ليطهروا جسدي من أدران الماضي أم حقا كنت سادرا في محاولة انتحار بعد روح عدوانية ساورتني... كل ما أذكره أني هاجمت شخصا ما ذات يوم في ساعة ما.عمي نفسه  والد خطيبتي المزعومة الذي أطلق عليه كل يوم بل كل ساعة  اسما مركبا هدّأ الأمور بحنكة خبير مقتدر فتجد أنك أمامه على خطأ وإن كنت في البداية على ثقة تامة من أن الحق بجانبك.. بعدما اطلعت على آخر المقابلات التي كتبت عنه. والموضوع الحالي في صحيفة السياسة اليومية " اتهم بالتجسس وثبتت براءته السيد " نجم البحر "..أربعون ألف ليرة تعويض لتهمة باطلة،ونسيت الصحيفة أن تقول عنه إنه أبو خطيبتي في المستقبل لكن المحرر لايستطيع أن يستنفر الأيام القادمة مثلي ويخاطر بمستقبله،يبدو أني لمحت عبر الزجاج من عربة القطار أزمات كثيرة.. كانت الصحافة السويدية تستغل المناسبات لتثير قضية الرجل المشبوه.. إذا ما هدد العراق الكويت فإن الصحف تنبش قصة تاجر الجملة الذي اتهم بقضية تجسس ثم أطلق سراحه لبراءته وإذا تسلل لاجؤون جدد عبر البحر على متن باخرة قادمة من دولة ما، وأنا منهم بلا شك، فلا بئس أن نرى صورته في الصحافة،إذا ما انتحر عربي.. وهو نفسه يتهم بعض فصائل الأكراد باغتيال رئيس وزراء السويد "أولف بالمة".كان المقال أمامي ..فهمت بعض جمله ولم أفهم الكثير منها..فبسطت يدي إليه به..قاطعني ساخرا:

- اطلعت عليه منذ الصباح!

قلت بلهجة ودود كأني أشفق عليه:

- عاد اسمك إلى الصحافة من جديد!

فقال وقد تغيرت سحنته من الهزل إلى الجد:

- إما أن يكون هناك توتر حدث بين العراق والسويد أو ربما هدد العراق بلدا عربيا أو مسؤول عراقي وصل إلى هنا وربما رست باخرة تحمل متسللين عراقيين يطلبون اللجوء. إنهم يستغلون أية مناسبة لنبش أوراقي!

- ولم تظنهم يفعلون ذلك؟

- مجرد إثارة ... الصحف هنا تعتمد على الفضائح والنبش رزقهم على ذلك!

- أقصد الشرقيين لا الجانب السويدي الذي يحق له أن يتأكد من أي خبر كان!

- الأمر محصور في جماعة الأكراد واليسارين وبعض الإسلاميين!

دفعتني الدهشة إلى الاعتراض:

- تعني المعارضة كلها!

فعاد إلى تهكمه:

- أتسمي هؤلاء معارضة؟ مضاريط جبناء  يخشون أن يكشفوا عن أسمائهم الحقيقة أبو فلان وفلان أبو ضرغام ..طظ من هو هذا الضرغام الذي لاتعرف عنه سوى أن زوجته فرت مع عشيق لها.. مجرد كنى وألقاب وهم في الأساس مرضى الحسد والغيرة يرون المال يسيل بين يديك ويجدونك تصرف بغير حساب فيدفعهم الغل والحقد والطمع إلى أن يلفقوا لك تهمة جاهزة!

- مع ذلك رب ضارة نافعة على الأقل من الناحية المادية فالصحيفة تدعي أن المحكمة أصدرت حكمها العادل وعوضتك عن التهمة الباطلة تكفيرا عما مس سمعتك!

تحمس كأن اعتراضي استفزه مع اني حاولت دائما أن ابتعد عن أي إحراج له منذ طرح علي صديقي المترجم"لاحق السراب " فكرة طلب يد ابنته:

- الصحة والمعاناة من يعوضها؟أربعون ألف كرونة ماقيمتها مقابل اعتقالك شهرين في السجن يقولون  السجون السويدية مثل الفنادق ذات الخمس نجوم..حمام..تلفزيون أي سجين يحق له أن يتصل من هاتف المركز بعاهرة تأتي إليه فيضاجعها في غرفة خاصة  مع ذلك فقد أبى مرض السكر إلا أن يداهمني  في السجن فما قيمة اربعين ألف كرونة مقابل أن تفقد صحتك!

أعطني أربعين ألف كرونة واسجني ستة أشهر.فرق كبير بين سجن جنة وتيار بحري مغناطيسي يفتح فمه وسط البحر ليبتعلك إما هو أو إحدى الدوريات:

- على أية حال إنه أفضل من زورق صغير تفوح منه رائحة نتنة وظلام دامس!

- السجن يظل سجنا سلني أنا لافرق عندي بين سجن في السويد لدي فيه كل وسائل الراحة وسجن نقرة السلمان المرعب المفتوح وسط الصحراء.

قد أنسى كل ذلك وأعود من اللحظة التي فقدت بها حياتي.في تلك الدقائق كانت  الشمس في وكرها البعيد تنسلّ من الغرب باتجاه آخر... لكن لم يكن هناك من بدٍ سوى أن أمسك بيدي جريدة أعرف أخبارها من الغد وأمامي عابران يجلسان قبالتي.يتعانقان.يتحدثان بهمس.وعلى المقعد اليمين هرّة عجوز فاقعة اللون سارحة العينين نحو النافذة وإذ تراجع القطار القهقرى قرب المحطة التفت عن غير قصد فتقع نظراتي على شابة ضريرة يقودها كلب.

لحدّ الآن لم ألمح البياض وحده ينفرد بالعالم!

قالت أمي إنها على مايبدو فتاة طيبة.

بالتاكيد.. كانت طيبة قبل الحرب. في هذا الجو الهاديء الدافيء المريح. كان من المفترض لو لم ترحل مع ذلك التاجر لجلست جنبي أو على المقعد المقابل. أمسك يدها ونتحدث عن الماضي نستذكر ايام الحرب أو نوغل في المستقبل..نبني آمالا نعرف أنها بعض من ضروب المحال.. هل امنحها الحق فالحرب تبدو لانهاية لها.طوفان السواد يطغى يوما بعد يوم. آخر يوم التقيتها في بيتنا الإجازة قبل الأخيرة. غاية ما فعلته أني هصرت يدها وملأت رئتيّ من رائحة كفها البضة. لم تلح لي فرصة لافعل أكثر فوالدتي كانت تروح وتجيء بين غرفة الجلوس والمطبخ . تفتعل أمورا لكي لاتجعلني أنفرد بها..ترى وكأنها لاترى وثمت غياب دام ثلاثة اشهر أو يزيد حتى فؤجئت بالخبر الجديد بعد مغامرتي في حقل الموت واصطدام شيء ما برأسي..

بغض النظر عن التفصيلات فقد قتلت اليوم بحادث سير. ليكن هو القطار الذي لحقته وأنا اهرب خلف الشاب الجالس في الكافتريا أو حافلة ما صدمتني..كدت في اليوم نفسه  أفسخ خطبتي على الآنسة المدعوة "زيزفون البحر "هو اسمها الذي اخترته لها .الناس يجدون اسماءهم معهم. لست مجبرا على قبول أي اسم. من حقّي أن أرفض وأختار لأيّ واحد ذكرا كان أم أنثى اسما يفي بالغرض وفق تصوّري.كان البحر هو الذي يختار معي الأسماء . لو نجح تسللي إلى السويد عبر الطائرة لكانت الاسماء ومن ضمنها اسمي تتخذ منحى آخر.. لبدت حقا كل أسماء البشر ترتبط بالهواء غير أن ذلك لم يحدث قط ..الهواء نفسه تخلى عني..رأسي الأسود الذي عجز الثلج عن أن يغطيه من قبل ولون بشرتي وشيا بي فيما بعد.. قال لي المهرب العراقي حاول أن تحفظ بعض الكلمات السويدية فلعل هناك في حرس المطار من يرى جواز سفرك السويدي فيشك فيك..لونك.. والله هناك لاجيء عراقي قدم قبل بضعة اشهر أشقر كأنه أوروبي قح لم يثر أي شك حوله.. لو كنت ثريا لغيرت لوني مثل مايكل جاكسن ووقفت أصرخ ويداي تغطيان قضيبي black and white فتنهمر دموع المراهقات في جميع أنحاء العالم..لكني بسطت يدي في المنطقة الحرة ونسيت أن أغير لوني ..كان المال ينقصني .. رحت أدندن ولا أية منهن تبكي..صباح الخير.. مرحبا. قلها بالسويدية.. جواز سفر سويدي مزور ليكن قلبك من حديد وأعصابك من حجر   god dag  …Jeg heder…أعبر الحاجز.. ترى هل تبكي هؤلاء المسافرات في المطار لو فعلتها ووضعت يدي ّ على عورتي وصرخت ؟ لكني أعبر الحاجز من دون أن أثير أية ريبة ..ألتقط أنفاسي قليلا.ثقل هائل عن صدري ينزاح فأرتمي على أقرب مسطبة في المنطقة الحرة لحظات..دقائق.. ساعات.. دهور..وإذا بيد  من الخلف تهبط على كتفي، فأفز مذعورا:

Black and white

- ما اسمك؟

- يانسن!

- من أي بلد بلد انت؟

- السويد!

- جواز سفرك من فضلك؟

Ok this-

يرطن بالسويدية أو لغة أخرى لاأفهمها..كلمتان.. جملتان.. تعلمتهما من أجل أن أعبر الحاجز واضعا في حسباني أن الشرطي المسؤول عن دمغة المغادرة يعرف السويدية فأتقي شره.. كل ذلك لم ينفع.. أما الحاجز الممتد من نقطة التفتيش إلى الشدق المفتوح في خاصرة الطائرة فلم يكن  أصعب ولا أعنف من حقل الموت الذي عبرته من أجل بضعة أيام أقضيها مع خطيبتي التي فاجأتني برحيلها مع زوجها إلى إحدى مدن البترول....قصتك في عبورك حقل الألغام وسط القصف الكثيف مثل حكاية شيبوب سوف تظل تصقلها وتعيد كل يوم بل كل ساعة.. عمل بطولي سوف تفسده بالتكرار.. يقول العريف مقهقها وقبل أن أصل خرطوم الطائرة أخفقت.. يحق للعريف أن يسخر مني في هذه اللحظة ..ثلاثة آلاف دولار خلاصة مابقي من رحلتي الخائبة الأولى.. ثلاث مائة دولار رشاوى للحراس الشرسين.. معسكر الحجز.. ماعندي لايكفي أجرا لعملية تغِّير شكلي شأني عندما غيرت جواز سفري وكان طريق البر مثل درب الهواء يرفضني..بيننا وبين السويد تلك الجنة الموعودة بحر..ماء..عباب لايؤتمن غضبه.. ضباب..أما وقد تبرأ مني البر وأخفقت رحلتي الأولى في المطار فألقي القبض علي من قبل الشرطة القساة ثم تغاضى عني وعن آخرين شرطة المعسكر الأول الذين عبأووا رأسي بالضوء خلال الليل وقد تغير كل شيء تماما مقابل حفنة دولارات،فهل نسيت أن الذي يتحكّم بالأجواء يتحكم بالعالم ويغفل عن البحر ولو إلى حين.

لم يبق إذن أمامي إلا الماء.

كان البحر وحده يستقبلنا ليقذف بنا إلى السواحل السويدية....

بالضبط مثل مخاض امرأة تعسرت ولادتها لتبشر بعدئذ بأكثر من توأم...

زورق أسماك صغير قبطانه ومساعدوه عمالقة مسلحون ألقوا بنا إلى الاسفل كما يفعلون مع الأسماك.رائحة عفنة شباك صيد ورطوبة...لااعتراض.. لاكلام.. لاجلبة لاضوضاء كم كان البحر حنونا وقاسيا وعندما نجوت مع الناجين سميت الأشياء جميعها بأسمائه .. هي ملحقات له.. مضاف ومضاف إليه . بدأت بالمشرفة والطبيب والمترجم ،والطبيب العراقي الذي غير اسمه ثم خطيبتي..عمي وحده كنت أغير اسمه كل يوم.. شيء مبهم فيه أفهمه ولاأفهمه خطيبتي كانت آخر من سميت .. لعلي أخطات أو ربما كان مارأيته هو الحق.. كم ساكون مغفلا لو تمّ الزواج. وكم أكون غبيا لو لم يتم . معادلة صعبة..سجنت نفسي يوما كاملا ثمّ قصدت صديقي" لاحق السراب" أوّل شخص ارتحت إليه في اسكندنافيا. هؤلاء الخائبون الهاربون ذوو الألقاب الرنانة " أبو حديد" " ابو فهد" " أبو.. "أو " ابو خراء" وفق سخرية عمي يحذرنونك من المترجمين .. لاتصادقهم فهم جواسيس لحكومة السويد..لعلنا التقينا أنا وصديقي الجديد يوما ما في كردستان أو على الحدود. تقاتلنا أو لعبنا الطاولة لايهم..المهم نحن الآن صديقان لايحاول أي منا إيذاء الآخر قط فضلا عن قتله. كلانا قبل باسمه المائي وإن لم أكن أستقر على اسم بعد.اقتنعت تماما أني قبل أن أبدا بنفسي أستطيع البدء بالآخرين لكني على أية حال لن أظل بلا اسم ولابد أن أجد أحد الاسماء المقرونة بالماء ذات يوم.

في العربة قبل أن ألتقيه شغلت نفسي بجريدة.

ياصديقي العزيز إنه عمي الذي يدعي أنّ الأكراد واليسارين من لفق له التهمة الباطلة مثلما فعل بي هؤلاء المقنعون البيض فغطوا جسدي بصدرية بيضاء وألقوني على السرير ثم تكاثروا مثل البكتريا يحيطون بي أحدهم يقبض بقوة على معصمي والآخر يثبت ذراعي:

- لاعليك مما يقول!

- أتشك فيه وأنت من أشار علي أن أخطب ابنته؟

قال بعصبية غير مقصودة:

- لا أبدا إنه شخص نزيه مثله لايمكن أن يكون جاسوسا لأية جهة!

- لكن لم لاتستبعد أن بعض العراقيين لفقوا له التهمة والدليل على صغر عقول هؤلاء أنهم يظنون كل مترجم وكل من يعملون في البلديات جواسيس لحكومة السويد!

- لاأنفي ذلك فالقادمون من العراق معظمهم بل كلهم مصابون بأوهام وهواجس ووساوس ولاأظن أن حكومة السويد ومخابراتها التي واجهت الاتحاد السوفيتي ومخابراته المحترفة تعتمد على حفنة عراقيين يخشون أن يعلنوا عن أسمائهم الحقيقية " وأضاف بشكل ساخر" دولة نفوسها خمسة ملايين تحدت دولة امتدت من اليابان إلى عمق أوروبا  هل هي بحاجة إلى لاجئين حفاة جائعين يتجسسون لمصلحتها، والعراق نفسه أقسم لك أني لو أخذت ملفات اللاجئين في السويد وعرضتها على الدكتاتور لما دفع لي بها أكثر من دولارين!؟

- إذن لم هذه الضجة؟

- يا أخي حسد نعمة لاأكثر وحقد على تاجر هرب من العراق إلى موسكو بعقلية سياسي تقليدي هناك اكتشف زيف الساسة والسياسيين ماذا تقول عن شيوعيين حالما هبطت بهم الطائرة في مطار موسكو ركعوا  لعظمة الاتحاد السوفيتي بعضهم قبل الأرض وسجد في المطار وآخر انتظر حتى وطيء الساحة الحمراء فسجد عندها شكرا أما صاحبنا فقد نبذ اليسار واليساريين.من أول يوم وصل فيه موسكو اكتشف الزيف ثم رحل إلى بولندا وساوم كل الأطراف عاش في ليبيا والجزائر فعرف من أين تؤكل الكتف ثم استثمر أمواله في السويد ثري مثل هذا لابد أن يثير بعض علامات الاستفهام من قبل السويد التي وجدت في شهادة بعض الشرقيين حجة لذر الرماد في العيون!

- كيف انساقت الحكومة السويدية إذن وراء سراب؟

- الحكومة وجدتها لعبة تمرر من وراء الحدث بعض المآرب . الصحافة هي التي ضخمت الأمور أما هو فقد وجدها فرصة ليثبت كيف أصبح ضحية لأوهام الآخرين الذين قال للقاضي إنهم مصابون بمرض الوهم وأفضل حل هو إرسالهم إلى مصحات نفسية!

داهية.. دكتاتور مختف بهيئة دمقراطي.يعرف من أين تؤكل الكتف وفق تعبير صديقي"لاحق السراب" الذي هو نفسه عانى من سوء الظن لالشيء بل لكونه مترجما.. ليبيا محاصرة والسويد بلد محايد. ايران محاصرة . سوف تدور الصفقات من طهران إلى استوكهولم فطرابلس. الرأي العام السويدي مشغول بقضية الجاسوس العراقي، وحكومة السويد تصدر الاسلحة والألكترونات لطرفي الحرب في الخليج..لابأس بالرز والفاصولياء إن لم تكن لك يد في البترول.. ماعليك إذا كنت ترغب أن تصبح لاجئا في بلدان الشمال  إلا أن  تقتطع تذكرة من القاهرة إلى تايلند فاستوكهلوم ثم انقرة .. سافر إلى أبي ظبي عن طريق استوكهولم عندها يمكن أن تغادر الطائرة سائلا عن اللجوء.التفاف بمتاهة تعرف سلفا منفذها... اتباع موسكو وطهران والأكراد يتهمونه فينجو بتعويض سخي واعتذار رسمي..ينسل  من التهمة كالشعرة من العجين أو كطريق  متعرجٍ اتبعه كي يحط لاجئنا هنا أما أنا فقد اعتادت عيناي أن تتابعا من الصفحة الأخيرة :صورة السيد"نجم البحر " والتهمة الموجهة إليه وربما بعد أيام فضيحتي أنا  "معتوه يهاجم خطيبته في شارع مكتظ بالمارة" أسفل الصفحة إعلان عن فضيحة أخرى . شرقي يحاول قتل خاله السبب امرأة.القاضي يصدر حكما على المتهم بإرساله إلى مصحة عقلية.أقول هذا وأنا لا أستبعد أن تخلط الصحيفة بين اسمي واسم شخص آخر تجعلني أنا الشاب الذي داهم خاله محاولا قتله في مدخل السوبر ماركت التجاري "فوتكس" وتجعله هو من صفع خطيبته في شارع المشي وربما يرد اسمي في صحف السويد نقلا عن صحف بريطانيا أني قمت بخطف طائرة على متنها خطيبتي من أجل أن أحصل لها على حق اللجوء فأحاكم بالسجن عشر سنوات ثم أعرف أن فترة سجني أصابت خطيبتي بالإحباط فلم تنتظر طويلا ..تزوجت بعد مرور سنتين مع أني لم أسلك طريق الجو قط أو حاولت أن ألجا إليه فأخفقت ولم يتحالف معي إلا البحر قبل أن يُلقى القبض عليّ ..محتمل ذلك جدا..أسماؤنا كما يقول السويديون متشابهة عبد الله.. محمد..ومواليدنا في شهر واحد.شهر السابع شهر تموز... كلنا " عبد الله"  ولدنا معا في 1/7 نساؤنا مثل النعاج لايضعن مواليدهن إلا في شهر محدد..أيّ منا يقترف جريمة يمكن أن تنطبق مواصفاته على الآخرين ..فلم نعجب إذا هرب شخص فألقي القبض على أخيه أو ابن عمه؟أصبحنا نحن الشرقيين محورا لفضائح الصحافة من التجسس إلى القتل إلى جرائم التهريب لذلك جئت لأغير ناموس الأسماء الذي سبقني فيه الدكتور محمد الطيب فقصره عليه وحده..ماذنب أخي إن بقي وهربت، وماذنبي إن هرب أبي وبقيت؟ إني أضحك منك يا " Jcob " الحالي "يا " محمد "من قبل ..أنت غيرت اسمك فسبقتني فكان علامة فأل حسن لك ..طبيب كبير في مشفى سويدي، في الوقت نفسه أرثي لنابليون بونابرت الذي غير اسمه قبلك فكان الاسم الجديد علامة نحس ألقته منفيا في سانت جزيرة هيلانة أما الخبر عني وفضيحتي فقد لا أدري متى تتلقفه الصحف مثل أخبار سبقته اليوم أو أمس:

- تسلل من الخلف ليلف حبلا على رقبة خاله أمام أحد المخازن الكبيرة.

- أنظر!إنهم مجانين هؤلاء الغرباء

الصحيفة تقول إنّ المجرم شك بالاثنين معا زوجته وخاله ثمّ راقبه إلى أن خرج من المخزن الكبير فالتف وراءه وشد على رقبته بالحبل كان يظنّ أنه فارق الحياة لكن الضحيّة دخل لحظتها في حال إغماء.

- غسل عار!

- رب نيكة منعت نيكات!!

- بطل والله لولا سوء الحظ.

هذا مافعلته أنا بالضبط بعد سنوات حين صفعت خطيبتي...

كنت أسخر من تصرفات كثيرة، فلم أكن أعرف من قبل أن هناك مصابين بعوق ذهني يبدون من حيث الظاهر سليمين مثلنا... اسبارجر... متوحدون... فانتيل ثم من غيرما وعي أجد نفسي أنا الذي ركضت وراء المستقبل أفعل مافعله آخرون قبلي في السويد..غسل عار. يا للمهزلة. هؤلاء القادمون من الشرق ينقلون إلينا أمراضا لم نعرفها من قبل.ظاهرة غريبة غرابة أن تكون درجة الحرارة في استكهولم وقت الشتاء خمسين مئوية أو أن يهبط الثلج في العراق شهر تموز الساخن بالتحديد حين ولدنا في أول يوم منه نحن العراقيين جميعا.. رأسي بقي أسود وجسدي غطاه البياض. مثل هذه العاهرة الأرض تغطي رأسها وقدميها بشال أبيض وتكشف عن سرتها ولعلي لاأدري لو كشفت عن رأسها لطغى الماء وغرق بنا الزورق وماعندي من ملحقات البحر قبل تغير البيئة وذوبان الثلوج يكفي ليصبح اسماء لجميع سكان الأرض.قد يقال إني كافر أروم قلب الأمور مثلما أفعل الآن وأبدأ سيرة حياتي من الخاتمة لكن الوقائع في بعض الحالات تقلب نفسها. لست كافرا بالله أقرّ الصلاة والصوم ولم أسخر من الدين سوى مرة واحدة في حياتي.كنت مجبرا على الهزء بفعل هؤلاء الذين يحلقون شواربهم ويرتدون جلابيات تصل إلى الكعبين..بالكاد عادت ساعة دماغي البيولوجية إلى عملها السابق فكاد هؤلاء المتطرفون يفسدون علي برنامج العلاج..في معسكر اللاجئين داخل السويد خضعت لإشراف طبي أعاد نومي من النهار إلى الليل. يجب أن ننام ليلا ونصحو نهارا. هكذا قال الطبيب السويدي " نورس البحر"كنت أسال نفسي ألا يعرف هؤلاء الرحمة  ألم يكونوا مثلنا خاضعين لحكم شمولي مستبد الآن تحرروا من الشيوعية والتسلط..كلاب مدربة ضخمة تتشممنا..عمالقة من حرس المعسكر يغتصبون صومالية ويحاولون مع أخرى من إيران حتى انفجر من الغضب لاجيء في الخمسين من عمره كان يدرس في موسكو فتحدث معهم باللغة الروسية كي يؤمنوا على مضض بما نقوله لهم فتلقي بنا أيديهم الصلبة الحادة في شاحنات ضخمة تعبق بروائح مثيرة:

- نحن لسنا ضدكم لانكرهكم بل نحبكم . كنتم مثلنا يحكمكم حزب واحد لانريد أن نبقى هنا كل ما في الامر نحن نرغب في ان نذهب إلى إحدى الدول الاسكندنافية !

- لكنكم تجعلون من بلدنا منطلقا لكم فتحرجوننا أمام بقية الدول بالتالي تحصلون هناك على اللجوء ونكون نحن من يخضع لغرامات دولية فلم لاتختارون دولا أخرى غيرنا تعبرون منها إلى اسكندنافيا.

لاشيء  آخر. لاشيء سوى أن القدر نفسه رسم خارطتهم في طريقنا.. جعلهم جيران اسكندنافيا التي نروم الوصول إليها.. هم ضحية المكان مثلنا..حراس المعسكر الضخام ذوو الكلاب الشرسة يسيل لعابهم للرشاوى. يخففون من قبضتهم علينا ويتركوننا نتسلل إلى المهربين من جديد.والحمد لله أن فينا من يستطيع التفاهم معهم. أنا الآن لاتهمني الفضيحة التي تنتظرني بعد سنوات.. واحدة جاء لها خطيب آخر ألغاني وفق قانون الناسخ والمنسوخ وصحبها إلى دبي ، البقاء للأصلح..وهنا هؤلاء الشقراوات والشقر يهاجرون إلى دباي مدينة الحر وخطيبتي " زيزفون البحر" تسافر إلى مدن الشمس ولعلها تعجب بواحد هناك..لايهمني  لاأريد أن أعرف شيئا عن الماضي. بإمكاني أن أطلق على نفسي أي اسم اختاره من أسماء البحر بدءا من لحظة  اهتز فيها  الموج وارتجفت السفينة فسقطنا على رؤوسنا. كأننا دمى لاتحس ولاتشعر لاأحد يعرف. إحساس بارد برودة البحر المحيط بنا..اختل التوازن فقال الرجل المسلح العملاق:

- لاتخافوا  .دخلنا في حقل تيارات بحرية ولعلنا  نضطر للبقاء دقائق أو ساعات.

فتهستر الشاب الذي يجيد الحديث بالروسية وقال:

- أنت تعرف طرق البحر جيدا فعلام أدخلتنا هذا الحقل إننا نكاد نتقيّأ احشاءنا.

كان العملاق يرد بحدة كأي جلاد ينتظر إشارة ما لتنفيذ حكم بالإعدام:

- اصمت نحن مضطرون للوقوف هنا خشية من خفر السواحل لو اكتشفوا أمركم لأرجوعوكم من حيث أتيتم ولحوسبنا نحن على تهريبكم، فإذا ماصرخ واحد فيكم ولفت الأنظارفإني سألقيه في اليم !

ثم صمت لحظة وأردف:

- أرسل الكابتن زورقا صغيرا يجول في البحر ليتأكد خلوه من الدوريات حين يعود الزورق نواصل الرحلة!

واغلق الكوة علينا فكبل ظلام دامس لانهاية له العيون..لم أخن نفسي حين قلت إنن من كان يتحكم في البحر يتحكم بالعالم كله واليوم الغلبة لصاحب الهواء، وما هي إلا فرصة أمامي أغتنمها فأركب الموج لبرِّ الأمان. كنا ملتصقين بعضنا ببعض والماء يعربد من تحتنا... قبل ذلك لم نكن نرغب في الكلام مع بعضنا وسط النور الساطع في المعسكر كأن أحدنا يخشى الآخر، وتواصل صمتنا في الشاحنة ثم الزورق السفينة مع ذلك أؤجل أمر اختياري الاسماء إلى حين هبوطنا اليابسة فهناك زورق صغير بحجم قبضة اليد يحمل أكثر من سبعين لاجئا يتحاشى عيون الدوريات وخفر السواحل باقتحامه حقلا مغناطيسيا. لم يمت الخوف فينا تماما بعد..

يهتز الزروق يلتف على نفسه كإفعوان...

ظلام دامس.. رحم أم .. وأجنة مقلوبة على رؤوسها

كانت آخر قطرات الخوف تذوب في عروقنا...تتلاشى..

غير أننا كنا لانبالي.نحس بشيء خطر  يمكن أن يدمرنا فنكون في لحظات طعما لسمك القرش الشرس..حلم الوصول إلى السويد كان يشغلنا عن الخطر حتى اني فيما بعد حين استعدت خيالي من البحر شككت في أن عمالقة المعسكر السابق باتوا يلقون في طعامنا مواد  مهدئة تجعلنا لانحس ولانهتم بأي حدث حتى نبدو أليفين غرباء عن بعضنا نطيع الأوامر كالكلاب المدربة..هناك شيء واحد فقط لايمكن أن نتجاهله هو أننا يجب أن نرحل من هنا بأية طريقة إلى إحدى الدول الاسكندنافية. سبعون شخصا في بطن زورق صغير يكبل عيونهم الظلام وتحرق أنوفهم زفرة السمك وندى أعشاب البحر  لاتسمع لأي منهم صرخة أو آهة وكان كل منهم من قبل في معسكر الترويض يتجاهل

"يتبع"

 

رواية مهجرية

د. قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم