صحيفة المثقف

العراق.. بدلة قديمة يجب استبدالها وليس ترقيعها (2)

لطفي شفيق سعيدلابد لي أن أشير بأن بعض الأخطاء الطباعية قد وقعت في القسم الأول والتي قد تحدث لسبب غير متعمد وبدون قصد. كما بودي أن أنوه أن ما ورد في المقالة من معلومات وتواريخ لا ترتقي إلى درجة عالية من الدقة ويمكن الرجوع اليها في الأرشفة العديدة المتوفرة لدى جهات عراقية وعربية وعالمية وبالأخص ما ورد بوثائق الأرشيف البريطاني المرفوع عنها السرية والتي تعتبر كنزا يشرح خلفيات الأحداث التي وقعت في قلب العالم الإسلامي ويوضح كيفية تشكيل خارطة المنطقة مطلع القرن العشرين. وإن الغاية الرئيسة من المقالة هي ما  آل اليه حال العراق من تردي واهمال بسبب بقائه تحت سيطرة وسطوة عناصر ودول اجنبيه غزت ارضه وفرضت حكمها عليه لعدة قرون والبسته ثوبا اصبح باليا ومتهرئا ولم تحاول أي مجموعة من حكامه المحليين والذين تم تنصيبهم من قبل الأجنبي إجراء أي تغيير على تلك البدلة واستبدالها كليا وليس بترقيعها حسب عقليات عفا عليها الزمن، ولم يفسحوا له المجال كي ينهض ويواكب ركب التقدم والحضارة التي شملت ارجاء عديدة من العالم بعد التخلص من هيمنة رجال الدين والكنيسة المتحكمة بشكل الحكم فيها وكذلك بعد الطفرة  التي تحققت خلال قرن الحادي والعشرين قرن التكنلوجيا والاختراعات التي تم تسخيرها لخدمة البشرية.

واستكمالا لما ذكر سابقا حول الحروب التي كان العراق ساحة لها والتي كان تأثيرها كبيرا عليه بسبب ما خلفته من اضرار بالغة تتعلق بحياة عموم المواطنين والذين لا ناقة لهم فيها ولا جمل وتحملوا ويلاتها من جوع ومرض وحرمان خلال ما جرى عند اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1918م وانتقال جزء منها إلى ارض العراق متمثلا بالاقتتال الدموي بين القوات البريطانية وقوات الدولة العثمانية التي كانت تفرض سيطرتها على أجزاء عديدة من البلاد العربية والتي حاول الإنجليز استرجاعها منهم في حرب واسعة امتدت على مساحة كبيرة شملت الجزيرة العربية والأردن  وفلسطين والعراق وقد شاركت مجاميع من العرب إلى جانب القوات البريطانية ضد العثمانيين بحجة التحرر والتخلص من سيطرتهم ونفوذهم وقد بدأت تلك المشاركة خلال  ما أطلق عليها بالثورة العربية الكبرى عام 1916م التي اطلق شرارتها من الحجاز الشريف حسين بن علي وشارك في تلك الحملة من العراق بعض القادة منهم نوري السعيد باشا ورشيد عالي وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وعبد الوهاب النعيمي وعبد الرحمن النقيب غيرهم ، وقد ارسل المندوب السامي البريطاني في مصر (السير مكماهون) الذي اقنع الشريف حسين بإعلان الثورة على العثمانيين أرسل رسالة إلى وزارة خارجيته في لندن مفادها (لقد أصبحت لدينا فرصة فريدة قد لا تسنح مرة أخرى في أن نؤمن بواسطة الشريف حسين نفوذا مهما للسيطرة على الرأي العام الإسلامي والسياسة الإسلامية وربما نوعا آخر من السيطرة عليها!!)

بدأت القوات البريطانية باحتلال العراق ابتداء من مدينة البصرة والتي احتلتها عام 1914 وتوجهت نحو بغداد واحتلها عام 1917 وبعدها سقطت الموصل عام 1918 وبذلك أصبح العراق كله تحت السيطرة البريطانية، إن معارك احتلال العراق التي جرت بين الإنجليز والعثمانيين والتي بدأت من جنوبه حتى تقهقر القوات العثمانية وانسحابها نحو الأراضي التركية كان أكثرها ضراوة تلك التي دارت في منطقة تلول حمرين الذي اعتبر الخط الدفاعي الأخير للعثمانيين ويمكن الاشارة إلى تلك المعارك التي جرت هناك بوجود  قمة في تلال حمرين يطلق عليها لحد الآن اسم (عمامة الهندي) وهي أحدى النقاط الدالة والأهداف التي تستخدمها القوات العراقية المرابطة في معسكر المنصورية خلال مناوراتها العسكرية.

لقد خسر الجيش الإنجليزي في تلك المعارك التي دارت على عموم ارض العراق ما يقارب 92000 قتيل عدا الجرحى والأسرى وقد كانت قواته تظم عددا كبيرا من الهنود حيث كانت الهند في تلك الفترة خاضعة للتاج البريطاني وتعتبر من مستعمراته المهمة، أما خسائر العثمانيين فقد كانت كبيرة جدا ولم يتم حصرها وبلغ عدد أسراهم بعد انتهاء المعارك ما يقرب نحو 45000 أسير.

ومن كل ذلك نعود إلى صلب الموضوع وهو حالة العراق من كل ما حدث وشكل البدلة التي كان يرتديها والتي خضعت لمقصات ومقاسات أقوام واجناس مختلفة وطأت ارضه وفرضت سيطرتها وارادتها عليه.

لقد قدمت بريطانية وفرنسا بعد انتهاء المعارك خطة لتقسيم غرب آسيا وتشمل سوريا والعراق والأردن وفلسطين والحجاز وتم إقرارها بموجب معاهدة (سايكس بيكو) وأصبحت ولاية بلاد الرافدين التي تشمل (بغداد والبصرة والموصل) من حصة المملكة المتحدة وتحت انتدابها وذلك في عام 1920 م ،وخلال عام 1921م غادر العراق القسم الأكبر من القوات البريطانية والمتكونة من الإنجليز والسيخ و(الكركه) بعد أن تركوا لهم قواعد في كل من الشعيبة والحبانية وأيج ثري وأذرع وأرجل تدير شؤون العراق ومنها اختيار نوع وشكل البدلة التي على العراق أن يرتديها بعد إزاحة العثمانيين على أن يكون شكلها ولونها وموديلها مطابق لألوان العلم البريطاني فاختاروا لتنفيذ هذه المهمة رجلا من اقصى بادية الحجاز شاركهم وتعاون معهم وقاتل ومن بمعيته إلى جانبهم  وعليه أن يختار ما يراه مناسبا للعراقيين من لباس على شرط أن تكون أقمشته مصنوعة في مصانع انكلترة ولندن.

في 12 حزيران 1921م غادر ذلك الرجل الذي اختارته بريطانية  ميناء جدة متوجها إلى العراق على متن الباخرة البريطانية (نورث بروك) ووصلت ميناء البصرة فاستقبل استقبالا رسميا حافلا وبعدها انتقل إلى بغداد بواسطة القطار واستقبله في المحطة السير (بيرسي كوكس) المندوب السامي البريطاني المعين لإدارة شؤون العراق وكان في استقباله أيضا رئيس والوزراء المنتخب عبد الرحمن النقيب ،ونصب السير بيرسي كوكس رجله القادم من الحجاز وأعلن بمناداته ملكا للعراق بعد تصويت حصل فيه على نسبة 96% من الأصوات ومن يومها ظلت تلك النسبة تتداول عند أجراء انتخاب رؤساء وحكام  العرب واصبح القادم من الحجاز يتمتع بحكم  العراق في ظل (حكومة دستورية ونيابية) والتي وصفها الشاعر معروف الرصافي بقوله:

ملك ودستور ومجلس أمة           كل عن المعنى الصحيح محرف

كما وصف حالة وزير تلك الحكومة الخاضعة لسلطة المندوب السامي البريطاني بقوله:

المستشار هو الذي شرب الطلا        فعلام يا هذا الوزير تعربد؟

وهناك قول للكاتب خالد القشطيني بأن بيت الشعر أعلاه بخصوص الوزير والمستشار هو للشيخ محمد باقر الشبيبي وإن البيت المذكور ذاع صيته ليس في العراق فقط وإنما في عموم منطقة الخليج حيث كان لكل وزير مستشار إنجليزي، وهو كما جرى اتخاذه عند احتلال العراق من قبل اميركا عام 2003 أيضا.

وهكذا يعيد التاريخ نفسه وتعاد دورة تدخل الأجنبي في اختيار من يحكم العراق ويفرض ارادته في اختيار شكل البدلة الجديدة أو إبقاء القديمة المتهرئة وحيثما تتطلبه مصالحه الخاصة، ويظهر جليا ذلك عند اختيار شكل الحكم للعراق عام 1921 م عند قدوم من وقع الاختيار عليه على متن بارجة بريطانية واستقباله في محطة بغداد من قبل المندوب السامي البريطاني،  كما حدث مرة ثانية بعد مضي أكثر من ثمانية عقود على الحدث الأول فقد استقبل الحاكم الأمريكي (بريمر) أعضاء مجلس الحكم الجديد بعد احتلال العراق وسقوط النظام السابق والذين جاء أكثريتهم على الدبابة الأمريكية ليباشروا سوية باختيار بدلة جديدة أو الإبقاء على القديمة وحسبما تتطلبه ظروف المرحلة والتي تبين منها لاحقا وبعد مرور خمسة عشر عاما بأن أي تغيير لم يطرأ ولم يتم اختيار الجديد بل تحولت بدلة العراق إلى اسمال بالية قاتمة اللون يعلوها الغبار ويسربلها السواد ولا سبيل إلا بنزعها عن كاهل العراق وحرقها وجعل رمادها تذروه الرياح للخلاص منها إلى الأبد واختيار بدلة جديدة لائقة بمقامه وتاريخ حضارته التليدة التي ابهرت العالم حضارة سومر وأكد وباببل وآشور وعندها سيقف العراق شامخا يزهو ويتباهى ببدلته الجديدة التي تسر الناظرين.

وللمقالة تتمة (كيف السبيل لاختيار بدلة جديدة وما هي مواصفاتها؟).

 

لطفي شفيق سعيد

11 تشرين ثان 2018

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم