صحيفة المثقف

القريشي وليلة الحلم اﻷخيرة

حاتم جعفرحدثني أبو علي عن تلك الليلة وعبر الهاتف، مبتدءاً القول: لا أعرف كيف حطَّ بي الرحال على أرض سمرقند، وكيف تجولت في درابينها وشوارعها بحثا عن احدى الحانات، ﻷعبَّ من الخمر ما لذَّ وطاب، أخيرا تحققت غايتي وضربتني النشوة وبلغت مبلغا من الثمالة، ﻷدخل بعدها في نقاشات حامية الوطيس مع شلة من جلاسها. لم أ`عد أتذكر بأي اللغات تحدثت، لكني وعلى كل حال نجحت في إختزال العديد من المحطات وبسرعة فائقة وبتواريخ محددة ودقيقة رغم تراكم السنين عليها.

تراوحت تلك اﻷحاديث ما بين الخوض في شخصية احمد صالح العبدي الذي كان قد عُين حاكما عسكريا عاما بعد احداث 1958 في العراق، مرورا بأغاني العشق والهوى ومنطق الطير وتلك العلاقة الحانية، الحميمة التي تربطني بذاك العالم، وصولا الى جرد واستعراض اخر ما ابتكرته وانتجته دوائر الصناعات العسكرية الحربية الروسية، وكيف تصديت لإحدى المظاهرات المناوئة ﻵخر زعماء البلاشفة النجباء الا وهو الرفيق العظيم فلاديمير بوتين.

ومن شدة ما لاقاه، فقد إستفاق أبو علي من حلمه، متصببا عرقا. وﻷن الأحداث التي دارت في الحلم وفي جزءها اﻷول كانت قد أعجبته، فما كان عليه الاّ أن يُجبر نفسه على العودة ثانية، من أجل إستكمال تلك الصورة البهية، إعتقادا منه بأن اﻷمور ستتطور على نحو أفضل. الاّ انه وفي النصف الثاني من الحلم، وجد نفسه منتقلا الى عالم آخر مغاير تماما، ليطوف هذه المرة على أبواب الكعبة، هنا قد تتسائلون ما الرابط بينهما، وأنا مثلكم أيضا فلم أجد لذلك تفسيرا مقنعا، وليبقى العلم عند صاحب الحلم.

أثناء بدء مراسم الحج وخلال أداءه شعيرة الطواف، خرجت مجاميع كبيرة ومن مختلف الأماكن المحيطة بالمزار المقدس، زرافات ووحدانا، لأداء تلك الفريضة، وقد ضمَّت فيما ضمت خليطاً من الرجال والنساء ومن مختلف الأعمار، ففي تلك اللحظات التي تعتبر استثنائية وذات طقس روحاني، يصعب على المرء بل يستحيل عليه أن يذهب بتفكيره الى أبعد مما نوى، فلا مجال هنا لأي من النوازع الشخصية التي تدفع بك لأن تحيد ببوصلتك عما اختاره قلبك. ألم يقولوا انما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى؟ ونيتي والقول لأبو علي صادقة، لا حياد فيها ولا إبتعاد عنها.

الطواف حول الكعبة ولكي تتم شعيرته على أكمل وجهٍ وعلى وفق سنن الشريعة، إشترط على الحاج أن يدور رَمَلاً لثلاث مرات، يحاول فيها التسارع وتقريب الخطى مع كل دورة. واضعاً الحجر الأسود على يساره. ستتسامى فيها اﻷرواح لتحلق الى باريها، تتداخل فيها الأجساد بالأجساد. ليس مهماً مَنْ سيكون بجانبك أو مَنْ هو وراءك أو أمامك، أكان ذكراً أم أنثى، صغيرا أم كبيرا، فالإقتراب الى الله ونيل رضاه هو الهدف المرتجى. ستتبعها أربع دورات اُخرى، ربما بسرعات متهاودة، ستمنح القاصد لبيت الله بعض من إستراحة، ستعطيه كذلك إحساساً بجلال وعظمة ما يقوم به، وستقربه أكثر الى مَنْ يعتبره حبيبه بل هو حبيبه.

بالمناسبة الشرح الوافر الذي قرأتموه تواً، لا زال على لسان أبو علي وقد أدهشني حقا بهذه المعلومات القيمة.

في الدورة الثانية من الطواف بدت عليه علامات الإجهاد والملل، لذا راح يخفف من تسارعه. في هذا الوقت بالذات مرَّت من أمامه خطفاً مَنْ يظنها إحدى القريبات الى قلبه، يوم كان صغير عمر، يمرح في قريته كما يشاء. دقق النظر فيها وهي مدبرة، تقصد أن يتركها تبتعد قليلا، حتى بدت أكثر حيوية ورشاقة منه. عاد ثانية في رجعه، مستحثا ذاكرته، متسائلا في سره: لعلها هي، بل هي، فها هو ذات الوجه والقسمات والقد. عنَّ على خاطره أمرا ما: لمَ لا أتركها تدور أكثر من دورة، فالمناسبة قد حانت لأرى جسدها على نحو أوضح وبهيئات مختلفة. لم يخب ظنه فقد وجدها مياسة في مشيتها بل في رَمَلها، حاولت هي الأخرى أن تلتفت اليه، إستجابة لتلك الذاكرة البعيدة. وما كادت تبلغ ما أرادت، حتى أعطاها الإشارة وبما يوحي لها بالإستمرار على ما هي عليه. هنا تجانست النوايا والتقت، فقد أرادها أن تظهر بأحلى وأبهى صورة، كي يُعزز من قناعاته ومن صواب إختياره وليطمئن قلبه وذاكرته فيما اختار، فكانت له معينا.

تذكَّر أبو علي في جولة الطواف الرابعة ذاك المتصوف الفارسي، روزبهان البقلي، يوم كان يؤدي هو الآخر وقبل بضعة قرون من السنين، مناسك الحج وشعيرة الطواف تحديداً، والذي ما كاد يُكمل جولته السادسة وحسب الروايات التي تناقلها المهتمون بهذا الشأن وبسيرة حياته وإذا ما صدقت، حتى شدَّت إنتباهه إحدى الحسناوات، فراح يتبعها خطوة بخطوة، ناظراً الى حركة قدميها وتكويرتهما والى كعبيها البضان وحركة ردفيها، متخذاً من خط سيرها دليلا لإستكمال شعيرته، ناسياً ما كان عليه من واجب، إقتضته شروط الحج. علَّق ابو علي على ذلك: لست أكثر ورعاً ومخافة من الله من ذلك الروزبهان.

لذا وفي جولات لاحقة من الرَمَل ورغم الزحام والتدافع الكبيرين، لفت انتباهه وشدَّ نظره، ومن بين نساء كثيرات واحدة من هنَّ فقط، فما كادت تمرق من جانبه، حتى عرفها من قفاها، انها فاتنته مرة اُخرى، ليتخذ إثرها قرارا حاسما، ينبأ بكيفية التعامل معها، خاصة بعدما طفح به الشوق وزاده الهيام، لذا ألفته مسرع الخطى رغم تعبه الواضح كي يلحق بها ومن دون أن يراعي أو يبالي تلك الأنظار التي بدأت تتجه اليه وتستغربه.

أخيرا راح أبو علي متأبطها وليمضي بها خارج الطابور، وسط صيحات وصراخ وإستهجان الحجيج التي لم تتوقف، والتي لم يفكر حتى في الإلتفات اليها. ومع أول مُنعطفٍ وبمواجهة أحد أركان الكعبة والمسمى بالركن الشامي والذي سيفضي الى أحد اﻷزقة وبعيدا عن اﻷنظار، قال لها: اتركي الطواف والحج فعدة من مناسبات اُخر، وذنبك في رقبتي، وسأحمله معي حتى الموسم القادم، أو ربما الذي يليه، ولله قلب أكبر من قلبينا، فسيرأف بي وبك بلا شك. في هذه اللحظات فزَّ أبو علي من نومته ليستحم ويغتسل الجنابة بعدما قضى من فاتنته وطرا.

كانت هذه آخر مكالمة جرت بيننا، ليرحل بعدها أبو علي الى عالم السكينة اﻷبدية.

نَم هنيئا ياصاحبي.

 

حاتم جعفر

السويد- مالمو

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم