صحيفة المثقف

ضحايا الناسوت بأفكار اللاهوت

رائد جبار كاظميا له من وجع مزمن ذلك الذي تعيشه البشرية على طول تاريخها، ويا له هذا السواد الذي يملأ أبناء الأرض، ويا له من حظ عاثر نعيشه نحن بني البشر في أقبية فكرية نريد بها تدجين الخلق والعالم برمته بتلك الأفكار لنحقق الهيمنة على أكبر قدر ممكن بما شئنا من وسائل مدمرة، عنيفة وسخيفة، يا له من بؤس سرمدي هذا الذي يحدق بنا منذ آلاف السنين لنلعن بعضنا بعضاً ويقتل بعضنا الآخر بأفكار السماء التي لم تنزل للأرض قط، يا له من قدر محتوم كتب علينا أن نعيشه ونحياه على ركام الجماجم وبحور من الدم، يا له من تعاسة كريهة تلك التي تؤجج بعضنا بعضاً عنفاً وكفراً وتمرداً وأن نستبيح الحرمات والقيم على ندافع عن أفكار السماء بما أوتينا من أسلحة أيديولوجية وبايلوجية وأبستمولوجية وثيولوجية، نصرة للاله الذي نهوى، عاشق الدم والموت والكراهية، الاله البشع الذي لا يشبع من الموت والدماء أبداً، وكأننا قرابين نساق لنروي عطشه المزمن ونشبع شهوته اللعينة المتغطرسة التي تجعلنا طعماً لقسوته الفاجرة ونزعته التدميرية الشرسة، ولماذا يقُتل أبناء الأرض بأفكار السماء التي لم تنزل من علائها أبداً، أنني لا أفسر هذا الأمر الا بلعنة ولوثة توارثها الأجيال عبر التاريخ في الدفاع عن موروثاتها ورغبتها الجامحة في الهيمنة والوصاية والحاكمية على بعضها البعض بما أوتيت من أفكار لاهوتية تقتل الانسان وتتقرب به الى الهتها زلفى، ليتحقق نصر الاله والفتح على يد جنوده لتملأ الأرض أجساداً وأشلاءً مضرجة بالدماء، وشعوباً تفوح منها رائحة اللحم وشواء الاجساد، وتلك هي المهزلة والمأساة والكارثة، أن تتقرب لمن تحب من اله، وهو يسكن في برجه العاجي، بأقرب الناس منك وأليك من بني البشر، لتشبع بطن الهك المجهول بأجساد أخوتك المقربين عليك، شعوراً منك بأن هذا الاله سيرضى عنك ويقربك اليه بفعلك هذا الذي تسلكه منذ آلاف السنين، ولكنك لم تفعل ذلك الا بإيمانك واعتقادك الشخصي المقيت، وبفكرك المؤدلج المنحرف الذي يخبرك بأنك تدافع عن السماء بأفكار مقدسة وبعقل قديس ملائكي، ولكن حقيقة الأمر أنها نزعة بشرية تدميرية عارمة تحاول الباس الأرض لبوس السماء، وتمنح لنفسها الشرعية المطلقة في السيطرة على البشر، وتحقيق ما يشاء من أهداف وغايات بوسائل وطرق متعددة لتشبع ذاتها المنحرفة ومصلحتها المتطرفة بتقديم قرابين بشرية للدفاع عن بقائها بأفكار طوباوية خيالية لا تمت لآلهة الخير والحق والجمال بشيء أبداً.

ان ما تعيشه الشعوب والمجتمعات اليوم من عنف وتدمير وإرهاب عالمي ليس وليد اللحظة الراهنة، وانما يشبه كثيراً مثيلات له على مر التاريخ، وكل جماعة من بني البشر لها رمزها اللاهوتي التاريخي المقدس الذي تدافع عنه ويمنح مخيالها تلك القوة والغطرسة في الفتك بالآخر الذي يشترك معها في الحياة والوجود، وان أختلف معها في رمزها والهها المقدس الذي تعبده، فالعداوة بين البشر قديمة قدم الوجود والحياة على هذه الأرض، وقد أشارت القصص والتاريخ والأديان الى نزعة الانسان الشرانية والتدميرية منذ بداية الخلق مع قصة الأخوين قابيل وهابيل أبناء النبي آدم (ع) حين أقتتللا مع بعضهما، وأنتصر القاتل على أخيه المقتول الذي طلب أليه مد يد السلم والمحبة، ولكن يد الشر كانت أقوى وأشد غطرسة وأعنف كما أشار التاريخ لذلك.

والكارثة الكبرى والمأساة الفاجعة اننا نحن البشر من سلالة القاتل (قابيل)، وما زلنا نتناسل بعضنا من بعض، ونسير خلف طريق الأب القاتل وسنته في هذا العالم، وهذه اللعنة لا تخمد أبداً على مر التاريخ، وكل منا يريد الأنتصار على غيره وتحقيق مصلحته وأنانيته بما شاء من أسلحة فكرية وعسكرية وأعتقادية وسياسية وجدلية وغيرها، لنثبت أنانيتنا والاطاحة بالآخر الذي يشبهنا في الخلق والحياة والوجود، ولكننا نختلف معه فكراً وأعتقاداً وتديناً وجغرافية، المشتركات البشرية البايلوجية والفسيلوجية هي من توحدنا وان أختلفنا من حيث التكوين السايكلوجي والسسيلوجي والابستيمولوجي والأيديولوجي، ولكن أتضح لنا اننا انتصرنا للمكونات الثانية أكثر مما انتصرنا للمكونات الأولى، ونسينا أخوتنا النسبية وتشابه دمنا وبشرتنا، وتشبثنا بعداء بعضنا لبعض ونتقاتل من أجل أيديولوجيات وعقائد متهافتة تتغذى على دماء الناس والعنف المقدس الذي يبيح القتل بشرائع ارهابية دامية لم تجف أرحامها ولا أصلابها من نطف الكراهية البغيضة التي تلعننا وتقتلنا بدم بارد ما دمنا لا نسير خلف أسطورتها المقدسة وسلطة كهنوتها المتعجرف.

نحن أبناء الأرض من بني البشر (الناسوت) نُقتل منذ زمن قديم على يد أبناء الناسوت بأفكار السماء والغيب (اللاهوت)، وبحور الدم التي تجري على الأرض لتشبع رغبة الالهة ونزعتها العارمة في الشر المطلق، ونتقدم لها بالقرابين من البشر لترضى علينا ألهتنا هذه، وتجزينا أفضل ما توعدنا به من نعيم وجنة وحور عين في العالم الذي وعدنا به، تلك الجنة التي يتقاتل الجميع من أجلها للحصول على مكاسب ومغانم جنسية وروحية ومادية ليس لها حدٍ أبداً، نتصارع ونتسابق للجنة الموعودة بتقديم قرابين الموت وأضاحي البشر لألهة تقول هل من مزيد لتلك الأضاحي والموت المعلن على رؤوس الاشهاد، بربكم أي ألهة مقدسة وشريفة ترضى بهذا الفساد والارهاب والعنف الدموي الذي يمارسه بعضنا على البعض الآخر، نصرة لآلهتنا ومقدساتنا التي نتبعها ؟

أنني لا أثق أبداً بأن أديان السماء المقدسة تنحو هذا الطريق الفاجر المتغطرس في معاملة البشر ومحاولة الانتقام منه الى هذا الحد، فأن كانت تريد ذلك فهي آلهة عابثة ولاهية خلقت البشر لتنفيذ مسرحيتها الهزلية التي صاغتها بأحرف من دم وعنف وكراهية. أنني على يقين بأن هذه ليست معتقدات وآراء وأديان السماء، ولكنها أديان البشر ومعتقداتهم الشخصية الزائفة، التي تريد الانتصار والهيمنة على بعضها البعض لتتجبر وتحكم وتتنفذ على رقاب الناس بأفكار وأديان كهنوتية خُلقت وفق مقاسات بشرية ضيقة تريد الباسها لبوس السماء والقداسة المطلقة في هذا العالم، وفي كل قضية ومسألة أرضية بشرية ما نريد الانتصار لها نبحث عن أدلة شرعية وسماوية لنقنع بها أنفسنا والآخرين بقداستها وأن هناك سند ديني يبيح لنا ممارسة تلك الاعمال والافعال الانتقامية الغريزية الفاحشة.

التعصب والتزمت الديني والاجتماعي والحياتي البشري الذي نعيشه هو وليد غريزة بشرية جامحة نحو شرانية مطلقة تريد تحقيق مكاسب ومصالح انانية مطلقة، تبحث عن سند قانوني وشرعي وغيبي مقدس يبيح لها ممارسة هذا العنف والأرهاب بكل طرقه، وهو ما يملأ العالم برمته بمختلف جغرافيته الطبيعية والسياسية والاجتماعية. انها أديان الأرض وتأويلات البشر المختلفة التي زرعت العنف فينا وتوارثناه عبر التاريخ في الجينات البايلوجية والسسيلوجية التي كونت شخصيتنا العنفية والشرانية المزدوجة، التي تتسابق على فعل الشر وتنتصر للعنف والتطرف في هذا العالم.

ان تأويل الأفكار والأديان المطلقة بعقل بشري نسبي أمر متعسف جداً، لا يمنح الافكار والمعتقدات مصداقية وطهارة أبداً، لأن كل بني دين ينتصر لدينه، وكل جماعة تتبع مذهبها وتؤدلج نفسها وثقافتها وفق مسطرة فكرية لا تحيد عنها أبداً، ونحن بنو البشر لدينا القدرة المطلقة على تقديم الحجج والبراهين العقلية والنقلية على دعم أفكارنا ومعتقداتنا التي نؤمن بها بطرق شيطانية متعددة، ما دمنا نرتاح لها ونقلدها ونسير خلفها دون نقد أو تقويم أو تفكيك لتلك المنظومات المتوارثة عبر الأجيال. نحن نؤمن بقداستها لأنها أفكار جماعتنا وقومنا وآبائنا وأجدادنا التي ورثناها والتي ستنجينا من كل شر يحدق بنا، وهي أفكار (فرقتنا الناجية) و (أمتنا المنصورة) و (شعبنا المختار)، الذي تحقق لنا وجودنا وحياتنا في الدنيا والآخرة، ومن أجل ذلك ينبغي الدفاع عنها دفاعاً مقدساً بما استطعنا من وسائل شريفة وسخيفة، جميلة أو قبيحة، لأن الغاية تبرر الوسيلة في الدفاع عن مقدساتنا، ولا بد لنا أن نسلح أتباعنا بأفكار جماعتنا وأن ننتقم من خصمنا بشتى الطرق، لأن الوجود والبقاء للأشرس والاعنف في هذا العالم، وهي سنة التاريخ الدموي وجبروت الكهنة واللاهوت الناسوتي الذي غزانا بنزعته الشرانية التدميرية منذ أقدم العصور ولن نتخلص منه أبداً، لأنه يجري في أجسادنا ونفوسنا مجرى الدم.

أن المعتقدات والايديولوجيات الكهنوتية واللاهوتية التي تبيح قتل البشر وتعذيبهم وتهجيرهم لهي أفكار ومعتقدات شرانية باطلة لا تمت الى السماء الواسعة ورحمتها بصلة، ولا بد لنا أن نبحث عن معتقدات وأديان تُحيي الانسان ونتقذه من نزعته التدميرية، وأن تنشر المحبة والمودة والوئام بين الناس. أن الكهنوت واللاهوت الذي يعتاش على دماء الناسوت لهو فكر ومعتقد فاسد لا بد من الاطاحة به وانقاذ وجودنا من حاكميته وسطوته، والبحث عن لاهوت رحماني يعزز الثقة والحياة والمحبة بين بني البشر، وبالتأكيد موجود مثل هكذا أديان ومعتقدات طاهرة جاءت لخدمة الناس وانقاذهم من شرانيتهم المطلقة، ولكن تلك الاديان والمعتقدات تشوهت بسبب سطوة رجال الكهنوت وتحريفها لمسار اللاهوت وربط قداستها بقداسة ذلك المطلق الذي تشوهت صورته على يد البشر التي قتلت الهتها بأفكارها المنحرفة وأبعدت الناس عن الدين ومعتقداته النقية، لأن الدين تحول الى مشكلة في عصرنا الراهن وليس الى حلٍ أبداً وتلك هي المشكلة.

 

د. رائد جبار كاظم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم