صحيفة المثقف

الرسام واغلال تقاليد العصور الوسطى

كاظم شمهودقرأت في كتاب الفن والمجتمع لارنولد هاوزر عن تاريخ الفن في العصور الوسطى وبداية عصر النهضة، وقد وجدت ان هناك مرحلة كان الفنان فيها يحتل مرتبة ضئيلة و يطلق عليه اسم الصانع او المعلم وهو اقل مرتبة من الشعراء والعلماء والادباء في ذلك الوقت .. وهذه الحالة مرت ايضا في تاريخ العرب والمسلمين حيث كان الرسام لا يكتب اسمه على منجزه الفني خوفا من غضب الناس والعلماء الذين يحرمون التصوير. وكان يفضل ان يكتب على عمله خطاط او مزخرف، علما ان مرتبة الخطاط كانت اعلى من مرتبة الرسام او المزخرف ..

وقد ادى زيادة الطلب على انتاجات الفنانين الاوربين في ذلك الوقت الى رفع الفنان الى مستوى الصانع او المنشغل الحر بالعمل الذهني .. وكان الرسامون لم يتلقوا تعاليمهم الفنية في مدارس محددة بل في ورش تدريب، وكانوا يلقنون مهنة الرسم على يد معلم لبضع سنوات .. كما ان كثير من النحاتين بدأوا عملهم مع بنائين للاحجار ونحاتين للحجر الزخرفي .. وكانت روح العمل الجماعي سائدة سواء في ورش العمل الفني او في اماكن الحرفيين البنائين .. ولازال العمل لا يعبر عن الشخصية الفردية او المستقلة، وبالتالي فان اداء العمال كان ينفذ بشكل جماعي.. وكان المعلم في ورشته لم يقتصر عمله على الرسم بل يأخذ طلبات اخرى صغيرة مثل نقش الدروع ولافتات للحوانيت وزخارف خشبية وزخارف لنساجي السجاد، وغيرها ..

و اتذكر قصة طريفة لفنان بصري ظهر في النصف الاخير من القرن الثاني الهجري (الثامن ميلادي) يدعى احمد الخراط البصري كان يكلف من قبل الناس في رسم اشكال انسانية وحيوانية ونقوش وزخارف كما كان يرسم اشكال فكاهية .. ويذكر ان الشاعر المعروف بشار بن برد الاكمة كلفه ان يرسم له طيرا على قطعة زجاج، فنفذها ولكن بشار لم تعجبه فهدده بالهجاء، فقال له الخراط : اصورك على باب داري بهيئتك هذه وعلى عاتقك قردا آخذ بلحيتك حتى يراك الصادر والوارد . فقال بشار اللهم اخزه انا امازحه وهو يأبى الا الجد .

466 الواسطيوكان المعلم عادة اذا ما رأى تفوق تلميذه عليه يكف عن التصوير ويتركه له، ومثال على ذلك ما حدث من تفوق جيوتو على استاذه شيمابوي، وتفوق دافنشي على استاذه فيروكيو، ورافائيل على فرانشا وهكذا . وهذا يذكرنا بما حدث لوالد بيكاسو خوسيه الاستاذ والرسام في مدرسة الفنون في ملقا، فعندما رأى نبوغ بيكاسو وتفوقه عليه ترك الرسم وجميع ادواته وسلمها لبيكاسو.

وكانت بداية عصر النهضة يسوداها العمل الجماعي وهي اشبه شئ بالمؤسسات التجارية، وبذلك فقد شكل الفنانون طبقة من البرجوازية الصغيرة . كما كان هناك نقابة للحرفيين ولها قوانين ولوائح صارمة وعلى الجميع الالتزام بها منهم الرسامين والنحاتين، ولهذا كان هناك احيانا يحدث صراع وتمرد للتخلص من اغلال هذه القوانيين خاصة الفنانون الذين يحاولون الخلاص منها والانظمام الى طبقة الشعراء والادباء والعلماء والتحالف معهم نحو التحرر من قبضة التقاليد السائدة وقوانينها المجحفة بحقهم .

و كان الشعراء والادباء اكثر قربا الى الطبقة الارستقراطية من الفنانين، ولهذا كان الفنانون بحاجة اليهم لرفع شأنهم .. يضاف الى ذلك ان الادباء يحتاجون الفنانين لتجسيد روياتهم الاسطورية واشعارهم الخيالية وبالتالي كانت هناك مصالح مشتركة بين الطرفين ..

و كان الفن في ذلك الوقت يعد صنعة ومهارة مبنية على مفهوم الاتقان واتباع التقاليد الموروثة . وكان عمل محاكات النماذج هو الطريق الصحيح الى اتقان الصنعة الفنية . وهذا ايضا نجده عند الفنان المسلم في العصور الوسطى حيث كان يتبع التقاليد القديمة في الرسم والزخرفة –الارابسك- ويذكر ان اول المخطوطات الادبية التي زوقت بالرسوم هو مخطوط كليلة ودمنه لابن المقفع في القرن الثاني الهجري (الثامن ميلادي) .

467 جوتو

اما دراسة الطبيعة فقد تحققت لاول مرة في زمن ليوناردو دافنشي واصبح هناك دراسة علمية لتعليم الرسم حيث انشأت اكاديميات تدرس الطلبة اصول الفن، وبالاضافة الى الجانب العملي هناك الجانب النظري الذي يتحدث عن التاريخ والفلسفة والجمال في الفن .. وبذلك انتقلت حرفة الفن كصنعة وتقاليد الى الدراسات الانسانية والفكرية وتسجيل سير عضماء اهل الفن و كذلك النزوع نحو حرية الفنان الفردية في الرسم ..

و يذكر انه في النصف الاول من القرن الخامس عشر ظهرت كتابات حول سير حياة الفنانين وان اول فنان يكتب تاريخه هو الرسام –برونللسكي- وهو امتياز كان وقفا على الامراء والابطال والقديسين .. كما بدأ الرسام يعمل اعمالا من تلقاء نفسه دون اي تكليف خارجي، ولم يعودوا ان ينفذوا الطلبات بنفس الدقة القديمة وحسب التقاليد الموروثة ..

وفي هذه المرحلة انتقل الفيض الالهي الى الرسام والذي كان يمتاز به الراعي او السيد واصبح هناك تبادل في المديح، فكلما يمدح الراعي الفنان كلما يصعد مجده، ويذكر ان الامير شارل الخامس انحنى ليلتقط الفرشاة التي سقطت من يد الفنان الايطالي تيسيانو Tiziano 1576-1477 – وهذا يشير الى ما وصل اليه الفنان من مكانة وعلو واحترام عند الطبقة الارستقراطية الحاكمة .

 

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم