صحيفة المثقف

منهج النص في سؤال الحقيقة.. قراءة في فكر ماجد الغرباوي (1)

تلخيص وتعريف اولي: كتاب المفكر الاسلامي ماجد الغرباوي (النص وسؤال الحقيقة / نقد مرجعيات التفكير الديني) هو من سلسلة كتب المرحلة العربية الضاغطة على حياتنا المعاصرة في وجوب استنطاق النص الديني من اجل الوصول الى الحقيقة المغيّبة وراءه في مراكمة التخلف عبر العصور والتاريخ، ومن قراءتي غير التخصصية الدينية في قضايا الفكر الديني الاسلامي مضمون الكتاب، استوحيت الملاحظات التوضيحية التي ارجو ان اكون موفقا بها، وابدأها بالتالي:

1- لا اعتقد اكون مصادرا متسرعا أن لا اشير الى جهد الكاتب المميز، ان الكتاب هو واحد من سلسلة مؤلفات بدأها الغرباوي في تأسيسه مشروعا منهجيا نهضويا عربيا اسلاميا نقديا جريئا، يفرضه واقع الامة العربية والاسلامية المتراجع باستمرار. ويبتعد المؤلف في نسبة كل تلفيق وهمي يبّرز تاريخنا الموروث والديني تحديدا انه نموذجيا في معالجته كل مشاكلنا المعاصرة في الحياة. وكذلك في دأب غالبية كتابنا الاسلاميين في اعادة وتكرار سرديات التاريخ التراثية في نقد الفكر الديني الذي اعتاد ملامسة قشرة الاختلالات الواقعية التاريخية فيه، بعيدا عن تسمية الاشياء بمسمياتها الحقيقية، وطرح الاشكاليات التناقضية فيها على بساط المناقشة الجادة في تعرية الاكاذيب وابراز حقائق الامور المغيّبة.

كما استبعد- الغرباوي في كتابه - الشد والجذب المذهبي الطائفي المتوارث المتجّذر في عمق الخلافات الطائفية اليوم، في نقده الفكر الديني وقضاياه، لا بما يتوخاه غيره ويسعى له من المؤلفين الاسلاميين الايديولوجيين في تأجيج صراع الاجيال المذهبي الديني والطائفي وتعميقه اكثر، والذي بات معه التعطيل المذهبي للحراك الديني المطلوب خارج التطرف المذهبي، مغيّبا في صرف النص عن مهمته حراكه التجديدي الى امام، ومنذ زمن ليس بالقصير يأخذ هذا المنحى التصادمي صفة الانفرادية القسرية التي تحاول فرض هيمنتها السلطوية او الايديولوجية في احتكارها الدين والفكر الديني بها ولها من جانب المذهب الاسلامي الواحد، الذي يصادر اصل النص الديني في جوهره و براءته الموحى به تنزيلا مقدسا، في رفض كل قراءة نقدية مغايرة تجديدية للنص الديني، وفي تغييب اجلاء عصمتة المذهبية الوحيدة الروحية المستمدة من احتكار اصالة الايمان السماوي، وتمذهبه المتزمت في المذهب الواحد أوفي فئة ممن يطلقون على انفسهم الفرقة الناجية في تكفير اجماع المسلمين المدينين لضلالهم، وفي اغتيالهم هذه الاجماعية الايمانية الطبيعية البعيدة عن الكراهية والعنف، المترعة بحقيقة ارتباط العابد بالخالق بعلاقة روحانية متفردة في قيمتها الدينية، فقاموا بالتحريف العمد والانحراف المقصود، في نزع أصالة هذه الحقيقة الايمانية من عصمتها الالهية واستبدالها بفكر ديني بديل وتفكير ايديولوجي سياسي متخلف مخادع كاذب محتواه وقوامه المغالطات في ازاحة اصل النص الديني الموحى به واضاعتهم قداسته خلف حجب المتراكم من الاكاذيب و الخرافات والاجتهادات الفقهية الدخيلة، والتعصّب الاعمى في الاختلافات السائدة في تحريف الفكر الديني سياسيا، وتبني العنف واقصاء المسلمين من غير المذاهب في مصادر الحقيقة الدينية لحسابه وحده دون غيره، وتكفير غير المسلمين ومنع حقهم بالمشاركة في وطنهم . ومنع مهمة الاسلام المتعدد المذاهب من التعايش الديني مع الاخر، والاسهام المشترك في تحديث الحياة العربية الاسلامية. كل هذا وغيره وراءه دوافع ايديولوجية سياسية جعلت من النص الديني سلعة تباع وتشترى في اسواق ومزادات التخلف والتجهيل العام، وفي جعل هذا المتداول الفكري الديني الخرافي المتخلف العابر لانسانية جوهر وصدقية الدين في انسانيته ونقائه، المصدر الغالب والمعتمد في تعميم هذا التفكير الديني الضال والمضلل ايديولوجيا سياسيا في لجمه اية محاولة مراجعة ونقد وتصويب له تقتضيه الحياة العصرية بما يجعل من التديّن يماشي روح الحداثة ويبعث التجديد المتحضر في مناحي اجتهاداته التكفيرية العقيمة .

2- ان سلسلة المفكرين العرب والاسلاميين من الذين تنبهوا اهمية معالجة انحرافات الفكر الديني الايديولوجي وتكبيله ومنعه لأي تقدم في الحياة العربية الاسلامية، كانت بداياتهم مع مفكري بداية القرن التاسع عشر، مع العشرات من مفكري مصر القدامى والمحدثين، وغيرهم على امتداد الوطن العربي بما لايمكن حصرهم، ومن مفكري المغرب العربي خير الدين التونسي، ومحمد عابد الجابري، والجزائري محمد اركون، وعشرات آخرين ولن يكون مشروع الغرباوي آخرهم او الوحيد مع مفكري العراق وبلاد الشام، من الذين وجدوا ان تحقيق نهضة الامة مبتداها ومنتهاها يكمن بتحقيق معالجة اعاقة الفكر الديني الوضعي الرجعي واصلاحه امام تغييبه انطلاقة نهضوية علمية حضارية تنشدها الامة العربية الاسلامية. وفي هذا المنهج نجد الغرباوي يلتقي مشروع محمد اركون وعدد كبير من المفكرين الاسلاميين قبله الذين اجمعوا على اهمية واولوية الاصلاح الديني كبداية ومحور ارتكاز تقوم عليه حلول عوائق التخلف الاخرى المتفرعة عنه والمرتبطة به.واعتبارهم اعادة نقده و كتابته وتجديد النهج الاصلاحي الديني خط شروع اولي في تحقيق نهضة عربية حداثية. هنا يلتقي الغرباوي مع اركون في اولوية الاصلاح الديني كمرتكز نهضوي اصلاحي كما فعلت اوربا، لكن باختلاف (المنهج) الذي كان دعا له العديد من المفكرين الاسلاميين، في انجذابهم نحو منهج الاستشراق ربما كان ابرزهم اركون من المفكرين المحدثين، والذي لم يعتمده الغرباوي واستبعده في جميع كتاباته ومؤلفاته.

3- هل نحن محقّون في تساؤلنا لماذا لم يطرح الغرباوي النص وسؤال الحداثة بديلا عن النص و سؤال الحقيقة؟ وهل يوجد فرق تحقيق اسبقية بين الاثنين؟ ام ان الوصول الى تحقيق قيم الحقيقة يعني استيعابا ضمنيا في تحقيق قيم الحداثة على اعتبارهما اهم افصاحات العصر عن ذاتيته الحقيقية وترسيخ حقائق الامور في حداثة الحياة وفي معاصرة حقائقها العلمية السائدة عالميا. اجد ان لا اختلاف بين تحقيق الحداثة وتحقيق كشف الحقيقة انهما مرتكز واحد يجمعهما الهدف الواحد المنشود في تحقيق المشروع النهضوي، لكن يبقى الاختلاف في منهجية التناول وفي أسبقية هدف التحديث مجتمعيا في تخّلف تحققه عندنا قرونا طويلة بسبب تغييب الحقائق العلمية التاريخية والحقيقة الدينية حصرا.

الغرباوي كرّس جهده البحثي في التزامه منهجا (تاريخيا) يفرضه عليه هدف البحث وموضوعه لا وسيلته الثانوية التي اعتبرها بعض المفكرين العرب والمسلمين (هدفا ووسيلة) معا في كتاباتهم. وبما يفرضه مصدر النص القدسي كموضوع بحث ودراسة ومراجعة نقدية، يختلف عن مصدر النص الفلسفي في معالجته مباحثه فلسفيا منطقيا تجريديا مختلفا عنه في منهجية معالجة الفكر الديني، في ابتعاد المنهج الفلسفي عن منهجية التفكير الواقعي التاريخي الذي فرض نفسها على الغرباوي، فالمنهج عند الغرباوي لم يعد يشكل طموحا او هاجسا يراوده امام مهمة سعيه تحقيق تغييرا مفاهيميا في فكر ديني بات لا يماشي العصر ويتقاطع معه، وليس في اهتمامه مناقشة مباحث فلسفية يقتضيها ويفرضها منهج منطقي تجريدي يعتمد مركزية اللغة، ولا يعير اهتماما لحقيقة مشكلاتنا، ولا لمصدرية ثيولوجيا النص او تاريخيته، ولا مبتغى نقده فلسفيا، فما يعنى به نقد الفكر الديني تاريخيا عندنا يمثل بالنسبة لقيم الحداثة الغربية التي ارستها الفلسفة المعاصرة، مع تعاون تداخل العلم وايديولوجيا التحديث الديمقراطي عندهم منذ عصر النهضة والانوار، لم تعد تمثل عندهم اشكالية ذات حضور مصيري هام يهّم حياتهم كما هي حالنا.

فالبحث عن الحقيقة الدينية المفروضة علينا حداثيا عصريا لا تشكل لدينا ترفا فلسفيا يقبل المناقشة الزمنية الطويلة وتاجيل حسمها، انما هي عندنا تقوم على تصحيح مسار تاريخ خاطيء زمني طويل للفكر الديني لدينا كوقائع واحداث ومعارف موثقّة تاريخية تشكل ركيزة مفصلية مهمة من تراثنا العربي الاسلامي، وهذه الحقيقة التي نحياها وتؤرقنا لا تشكل مشاكلها اي اهتمام في مباحث الفلسفة الغربية المعاصرة فلا التاريخ ولا الديني ولا الحضاري ولا حتى العلمي يهم شعوبها اليوم كمشاكل تدخل صميم حياتهم المعيشية او مستقبلهم الحضاري في تقدم الحياة، فلكل من هذه المسارات المصيرية في حياة شعوبهم اخذت طريقها الصحيح المستقر الذي لا تحيد عنه ولا تسمح للانحرافات النيل منه واستهدافه.

4- اننا حسب ما اعلنه المفكر الغرباوي يهدف تحقيق (قيمة الجهود المبذولة المكرسة لنقد مرجعيات التفكير الديني واشكاليات العقل التراثي.). ص8

بضوء ما اشرنا له سابقا الغرباوي في مفارقة منهجية لا تقاطع هدفه التحديثي النهضوي، يعتمد المنهج الفلسفي البنيوي واحيانا التفكيكي في مراجعته النقدية الصارمة للنص بغية تصحيح اخطاء الفكر الديني واعاقاته الحضارية، وقراءته قراءة جديدة معاصرة كنص تاريخي وليس نصا فلسفيا لغويا مجردا، ولا يستحضرالغرباوي امامه كشف وتصحيح ونقد مسارات ومباحث الفلسفة المعاصرة في محاكمتها النص تجريدا (لغويا)، فالفلسفة وقضاياها لا تشكل عند الباحث العربي التاريخي اولوية بحثية قبل اولوية وتراتيبية هدفه المنشود في نقده الفكرالتراثي بضمنه الديني كتاريخ وتجارب واقعية، وكمعرفة واساليب حياة متجذرة مجتمعيا فقط، التي أخرجت عدم الاهتمام الغربي بها منذ استبعاد الميتافيزيقا عن مباحث الفلسفة المعاصرة في القرن السابع عشر. باختصار شديد جدا لا يصبح المنهج او الاسلوب الفلسفي غاية في ذاته لدى الغرباوي الذي لم يستغن عن الفلسفة كمنهج بحثي في نقده نص الفكر الديني، واصلاح يقينياته الزائفة المهيمنة والمكبلة لكل مناحي حياتنا ومنعها من التقدم الى امام بفارق جوهري مهم انه لم يطوّع حقائق الفكر الديني لمنطق الفلسفة.

من اهمية المشار له سريعا ان الغرباوي الذي وجد الفلسفة المعاصرة اليوم تقوم على محورية واولية دراسة النص (لغويا) تجريديا، من غير موضوع او محتوى متعّين واقعيا يفرض حضوره واهمية معالجته فلسفيا لا سرديا فكريا، نجد الغرباوي لجأ قسرا مضطرا بحكم واقعية النص الديني التاريخية التقديسية، الواجب مراجعته في تغليب اولوية مراجعته النص الفكري الديني ونقده تاريخيا في مضامينه كاحداث واقعية تاريخية حدثت وشكلت موروثنا الحضاري او جزءا مهما منه اختلط فيه الديني والسياسي والمجتمعي.اي انه لم تستهوي الغرباوي تفريغ مبحثه الفكري الديني تاريخيا فلسفة محورية اللغة الغربية المعاصرة.

ما فعله الغرباوي في مؤلفه بخلاف غيره، وحضور هدف التحديث المجتمعي امامه، وجد ان مناهج الفلسفة المعاصرة التي يقوم مرتكزها على معطيات واهتمامات هي غيرها عندنا، فاستبعد الفشل الذي كان ينتظره لو انه اعتمد منهج التجريد الفلسفي القائم على مركزية محاكمة النص لغويا التي اوقعت العديد من المفكرين العرب في حبائل المنهج الفلسفي الذي يدور حول المشكلة ولا يقترب من تصحيحها او حلّها، وعلى حساب اضاعة الموضوع، كي لا يتهموا بالكلاسيكية التنظيرية فابتلع جهودهم الفكري الافتتان بمناهج الفلسفة تاركين معالجة المواضيع والاشكاليات التاريخية في تراكمها الاعاقي تضيع خلف ظهورهم في ركضهم التمّكن من التفلسف المعرفي غاية بذاتها وليست اداة معرفية لتغييرمشاكل الحياة العربية، اذ ان هذا النوع من الآلية الفلسفية القائمة على تحليل وتفكيك النص لغويا، كان ممكن ان يسقط جهد الغرباوي النقدي التاريخي ويضيّعه في حال استهواه المنهج الفلسفي قبل هدف نقد النص موضوعيا وتاريخيا للخروج بنص متجدد يخدم غرضه البحثي، ولوقع كما اشرنا في فخ مباحث الفلسفة التي تتعامل بتجريد لغوي وليس مع وقائع تاريخية تفرض معالجتها كنصوص يحكمها التاريخ والجغرافيا والزمان والمكان، ويستشهد الغرباوي بشخوصها ودورهم في صناعة وكتابة التاريخ التديني الاسلامي الصالح او الطالح، وهذه جميعها لا تشكل اليوم اهتماما فلسفيا وبخاصة دراسة النص الديني والكشف عن تخلفاته وانحرافاته القاتلة بضوء مدارس التفلسف الغربية. من الملاحظ في دراسة اشكالية التراث العربي الاسلامي مع المعاصرة والحداثة ان غالبية المفكرين العرب الاسلاميين يبتعدون نهائيا عن تدعيمهم الافكار التنظيرية الفكرية باستشهادات يستحضرها الغرباوي من بطون التاريخ بشخوصها المتنغذة ويضعها بكل جرأة وشجاعة امام محاكمة النص الحداثي وكشف حقيقته كما هي تاريخيا وليس كما تلقيناها تلقينيا كمسلمات يقينية لا تحمل ادنى درجات المناقشة.

هذه المباحث الفلسفية الغربية التي يضيع فيها الموضوع في الركض وراء المنهج الفلسفي الشكلاني حتى المدارس والتيارات الفلسفية الغربية المعاصرة بدأت التململ للخلاص من شراك اللغة التي اصطادت مباحث الفلسفة وادخلت الفلسفة في نفق التجريد اللغوي العدمي والضياع الذي يستطيع قول كل شيء ولكنه لا يعطيك نتيجة اي شيء. لان الاسلوب او المنهج لا يحدد لك ولا يعطيك موضوع البحث، وانما العكس هو الصحيح فالموضوع هو الذي يحدد لك اسلوب وطريقة معالجته. في النقد التاريخي الوثائقي الواقعي لا يستطيع الباحث الدوران في فلك التجريد في اضاعته الموضوع، في وقت يتسنى مثل هذه المراوغة المخاتلة في الدوران التجريدي في المنهج الفلسفي الذي يهتم بالاسلوب في الصيغة اللغوية الشكلانية في محاولة معالجته امورا لا علاقة لها بالتاريخ ولا تجد من يسأل الباحث ماذا حقق من جديد في تغيير القناعات الفكرية قبل تغيير واقع الحال.

واذا كان الغرباوي يلتقي الفلسفة انه بحسب قوله (يسعى وراء اختراق الممنوع واللامفكر به، اذ جميعها تراكم معرفي لمقاربة الحقيقة وترشيد الوعي ضمن مشاريع هادفة فاعلة) ص9. من هنا جاء انشداد الغرباوي كما ذكرنا الى محاكمة النص الفكري الديني الاسلامي تحديدا بمنهج تاريخي محدد الهدف واسلوب واقعي مباشر في المعالجة وفي جرأة استقدامه شخوص اسلامية تاريخية لعبت دورا مصيريا في صناعتها تاريخا عربيا اسلاميا منحرفا و مفاهيم خاطئة كانت ادوات تنفيذها شهوة الحكم وتسمية اشخاصها وتحميلهم مسؤولية الانحرافات التي عمقت الفجوة المذهبية الاختلافية التي وصلت ومنذ العصر الراشدي الى حدود التكفير وشن الحروب والاقتتال والدسائس في الدين الواحد. هذه الانحرافات الخطيرة والتي كانت سابقا تسيّجها اسلاك شائكة من الاضاليل السياسية الباطلة، أو خطوط حمراء في دواخلها ونواياها تحريم وتجريم يصل الى حد التكفير والزندقة. تناولها الغرباوي ووضعها تحت حكمة ومنهج القراءة العقلانية الجديدة، بغية الوصول الى قناعات يقينية لوقائع تاريخية تحمل حراكها التضليلي، وتشكل موروثا فاعلا في صنع العقل المستقيل والمغّيب عن فهمه واقعية الامور وحقائقها المطمورة تحت تراكم تداول المخطوء المكتسب قدسيته الزائفة المستمدة من لا اصالته المغيّبة قسرا وحسب، بل من معالجة تراكماته التي ضاع معها الكثير من الحقيقة والاصالة التي لا غنى لنا عنها الا في احيائها ان تاخذ دورها الحقيقي في بناء نهضة عربية اسلامية حضارية معاصرة.

5- اشار الغرباوي في لمحة سريعة للفيلسوف محمد عابد الجابري، انحيازه، للعقل المغربي ضد العقل المشرقي في مشروعه نقد العقل العربي، مما اضطر جورج طرابيشي – والكلام للغرباوي –تاليف كتاب(نقد نقد العقل العربي) او (رهان مشاريع انسنة المقدس على اقصاء مطلق الدين كشرط اساس للنهضة في مجتمع يستأثرالتراث بمعظم مرجعياته العقيدية والثقافية، بل وحتى السياسية في رهانات خاسرة). مقدمة كتاب الغرباوي.

لا اريد مناقشة الاستاذ الغرباوي، رأيه في الجابري، التي عالجها بذكاء ليس ادانته الجابري في تكملة عبارته رفض (انسنة المقدس على اقصاء مطلق الدين كشرط اساس للنهضة ) وهو مانجده اهتماما محوريا في فلسفة وفكر الجابري.

الجابري عنده العقل العربي الاسلامي في المغرب هو امتداد النزعة العقلية التي اخذها بن رشد عن ابن سينا والفارابي والكندي والمعتزلة، وارساها في المغرب العربي كعقل نقدي انصار بن رشد في الاندلس والمغرب من الذين جاؤوا بعده مثل ابن ماجة وابن طفيل، الذين اعتمدتهم اوربا دعاة العقل في الحضارة العربية الاسلامية. واتهم الجابري في انحيازه البحثي هذا ابو حامد الغزالي في مناوئته لابن رشد في الدعوة الى الصوفية وفي كتابه تهافت الفلاسفة التي ناصره به الاشعرية ضد المعتزلة، في معاداتهم العقل الايماني، بدلا عن الايمان الصوفي المعتمد وجدانية القلب قبل العقل. كما ان الجابري برر اتخاذه مثل هذا الموقف الموضوعي المناويء، ان الغزالي لم يفت (يفتي) في الجهاد ابان الحروب الصليبية، وقد اتخذ جورج طرابيشي موقفه المضاد لما ذهب اليه الجابري في منحى لا يخلو من تأليب مبطن ضد عقلانية المغرب العربي القريب من اوربا بما ساوضحه لا حقا.

لا اعتقد جازما ان الجابري اراد تحميل عطالة نهضة التاريخ العربي الحضاري ومنع امتداده التقدمي على عاتق فلاسفة اهل المشرق العربي وتقصيرهم انهم ورثة التاريخ الصوفي في الدين وقضايا الحياة العربية الاسلامية، ناعتا اياهم انهم كانوا بلا (عقل) حضاري وبغداد ملأت الدنيا وشغلت الناس ومثلها حاضرة البصرة والكوفة وسامراء. الجابري مفكر وفيلسوف نهضة عربية اسلامية عاشها في ضميره وحملها في فكره وقلبه، تعتمد قواها الذاتية ومخزونها من التراث الحضاري، اما جورج طرابيشي فهو ناقد ادبي متشفّي في مراوحة العرب المسلمين في اماكنهم التاريخية المتخلفة، ولم تستطع جعجعة طرابيشي في (نقد النقد) الذي استهدف الجابري ومشروعه من تقديم ادنى اسهام حقيقي بديل يساعد الامة على نهوضها الحضاري، ومتابعاته النقدية حملت الكثير جدا من التجّني التيئيسي ليس في محاولته الاجهاز على مشروع الجابري النهضوي، وانما تشفّيه وهو مقيم مخضرم بباريس على تضييع العرب مراحل تاريخية زمنية في تأخير نهضتهم المنشودة وتخبطهم في تاريخ من الضلال الذي يقوده المهيمن الفكري الديني الاسلامي بكل تسمياته ومذاهبه ومخرجاته. وهو ما ساوضحه اكثر لا حقا على قدر اهميته.

التمس العذر من المفكر الغرباوي ارجائي عدم التركيز عرض بعض افكاره في كتابه تفصيلا فهو خارج اهتماماتي في الكتابة الدينية ومباحث الاجتهاد الفقهي لها، قبل مغادرتي هذا التوضيح الاشكالي الذي اراده طرابيشي في محاولة النيل من الجابري كمفكر و من الجابري كصاحب مشروع نهضوي عربي، لا ضير في مناقشته وفي اعطاء البديل لما ذهب الجابري له في مؤلفاته اذا وجدنا فيه تقصيرا او ضلالة، استطيع القول ان قراءة طرابيشي للجابري ليست بريئة لا في شرح حمولة النص الفكري الديني الاسلامي، ولا في مغالطاته التاريخية الفلسفية والمعرفية التي الصقها بالجابري.كما اهمل طرابيشي دراسة النص الجابري في تشخيص الخطأ فيه وتقديم البديل ان كان يتمكن منه، اراد طرابيشي اغتيال التفكير الجابري وحلمه بمشروع عربي نهضوي يكون الاسلام فيه فاعلا داخل منظومة عربية حداثية، يمكن للعرب تحقيقها، الجابري نقد الفكر الديني من خلال نقده العقل العربي عامة، وهو بهذا يقاطع اركون في اقتصاره على نقد الفكر الاسلامي، وتناول الجابري نقد العقل العربي من خلال انضواء الدين كمكّون اساس داخل المنظومة العقلية الحضارية العربية الاسلامية الذي يبدو طرابيشي يرغب استئصال مبحث الاسلام منها حتى من دلالتها كعنوان يهم امة عربية اسلامية. كما تناول الجابري كل مفردات الحضارة العربية الاسلامية وتكوينها ومكوناتها، وليس الدين وحده بمسؤولية تاريخية حضارية لم تقفز فوق الواقع ولا في منهجه النقدي المتزن، بينما بقي طرابيشي ينبش التاريخ الاسلامي بحثا عن كل مواطن الاعاقة والانحراف والتخلف فيه، بصيغة الدفاع عنه وتبيان عجز الجابري صياغة مشروعه العربي النهضوي، ما اضطر الجابري اصدار كتابين له (نحن والتراث) والاخر عن (القران) قبل وفاته، معتبرا وبتاكيد سليم ان الدين الاسلامي في جوهره واصالته وقيمه ليس من السهل ابدا على احد شطبه من تكوين وجود العرب كأمة من تاريخهم الحضاري ماضيا ولا حاضرا او مستقبلا باسم انه يتقاطع مع علمانية الدولة المعاصرة العربية الاسلامية الحديثة المنشودة المرغوب بها في ابتداء سلوك طريق نهضة جديدة للامة، تبدأ من رفض الفكر الديني لا في اصلاحه.

يتبع في القسم الثاني

 

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي / الموصل

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم