صحيفة المثقف

الثقافة أوّلا

منير لطفيبين الجهْل والثّقافة تكمن جُلّ مشكلاتنا ولُبّ قضايانا السياسية والاجتماعية والأخلاقية، والبحث عن أفق للحلّ خارج إطار هذه الثنائية حرثٌ في الماء ورسمٌ في الهواء ونفْخٌ في الرماد. ورغم أن الخَطّ الزمني يشهد بأنّ الآلةُ المعرفيّة والرافِعةُ الفكرية والقاطرة الروحيّة، كانت دوما هي الأساس لأيّ نهضة والمُرتكَز لأيّ تقدُّم؛ إلا أنّنا لازلنا نراوح مكاننا، إلى حدّ بات فيه الخلْطَ بيْن الأُميّة والجهل وبيْن الثّقافة والتّعليم لازال قائما ومحتدما.

فمع صرخة الحياة وصافرة البداية؛ تَقذف بنا أرحامُ أمّهاتنا أُمِّيِّين لا نقرأ قرطاسا ولا نخُطّ بِيَراع، وجَهَلَةً لا نُميِّز بيْن الكُوع والبُوع ولا بيْن القَبِيل والدَّبِير، ثمّ تتكفَّل المدارسُ بتعليمنا ما نمحو به عارَ الأُمِيّة الأبْجديّة، وربّما تخطو بنا خطوة إلى الأمام فتداوي أُميّة اللغة الإنجليزية وأُميّة استخدام التكنولوجيا، ولكنَّها تنفض يديها عن الأميّة الفكرية، ولا تنقلنا إلى طوْر الثقافة. فالتعليم –بالكاد- يَفتح العقلَ كالمظلّة ويَحرثه كالتربة، ليصبح قادرا على الهبوط في مرفأ الثقافة والإبحار في نهرها العظيم الذي يَصبّ فيه رافدان عذْبان؛ أحدهما كَسْبيّ اجتهاديّ، وطُرُقه الحواسّ الخمْس والعقْل الواعي والخيال الخصيب، وثانيهما توقيفيّ لا مجال فيه لرأي، وسبيلُه الوحْيان الكريمان القرآنُ والسُنّة، ولِيمتزج عندها الشرْع بالعقْل فيَغدو نورا على نور كما قال الإمام الغزالي (450-505هـ).

وعلى هذا فالأُمِّية ليستْ مرادفَ الجهل، والثّقافة ليستْ هي التعليم؛ فكَم مِن أُمِّي مثقَّف يَزن الأمور برزانة عقل ورجاحة فكر ودقيق رأي، وكم مِن مُتعلِّم[1] ظلّ جاهلا وإنْ حاز أعْلى الشهادات وارتدى أغلى البِذلات...وإلّا فماذا تقول في جامِعيّ يسأل الشيخ  (الحوينيّ) عن المذهب الذي تبِعه خير الأنام، أكان المذهب الشافعي أمْ المذهب المالكي؟ وماذا تقول في كاتب معروف يُسأَل عن حكمتِه في الحياة فيُجيب بأنّها الآية الكريمة: "اطلبوا العلم ولو في الصين"! وماذا تقول في مَن يُوصَف بأنّه مفكِّر وباحث ثمّ يَستشهِد في أطروحته ويُدلِّل عليها بما زعَم أنها آية كريمة تقول: "دعْهم في ضلالهم يعْمهون"! ومِثْل ذلك يُقال في طبيبٍ لا يَدري عن الأدب والاقتصاد، وفي سياسيٍّ لا يَفقه في الجغرافيا والاجتماع، وفي داعيةٍ لا يَعلَم عن التاريخ والرياضيّات...وما كان ذلك كذلك؛ إلّا لأنّنا خلطْنا بين التعليم الذي هو استظهار عِلم ونقل أقوال وحفظ أرقام، وبين الثقافة التي هي فهم وفكر وسلوك.

والثقافةُ قلْبُ الحضارة ([2])؛ فهي اليقظة والانتباه، وهي الإلمام بطرف مِن كل مناحي العلوم والفنون، وهي الخروج من دائرة التخصّص الضيّقة إلى أفق المعرفة الشاملة الرّحبة. كما أنّها الأوكسجين اللازم لإشعال الطاقات،  والبصيرة التي تُنير الدروب، والنّظرة المُحِيطيّة والفكر الاستراتيجي الذي يتبوَّأ مركز القيادة في البَرّ ومنارة السفينة في البحر وقُمْرة الطائرة في الجوّ...وهي مَا عرَّفها  (العقّادُ) في أبسط تعريفاتها الشائعة بأنّها "معرفة شيء عن كلِّ شيء"، بمعنى أنها كفصل الربيع الذي لا يَصنعه وردةٌ واحدة، وكاللوحة الفاتنة التي لا يكفيها لون وحيد. بينما ذهب آخَرٌ إلى أنّها تهذيبُ النّفس الإنسانيّة بالأفكار، وقال آخَرٌ بأنّها الكُلُّ المُركَّبُ مِن اللغة والتاريخ والدِّين والعادات والتقاليد، وذهب آخَرٌ إلى أنها ممَّا يَصعب الإحاطة به بعد أن أَحصى لها ما يَقرب مِن مائة وخمسين تعريفا مختلِفا، هذا مع التنويه بأن الثقافة- كما  قال  (عماد الدين الرشيد) في كتابه  (ثقافة الخطيب)- مصطَلح جديد، لم يكن مِن قبل مستخدَما في المعنى الذي يُراد منه اليوم، وإنّما كان يُستخدم بدلا منه  (العلم) أو (المعرفة)، بمعنى أن الثقافة مِن المصطلحات الوافدة التي ضربَت جذورا، وأصبح لها كيانا مستقلا، ومظلة أوسع من العِلم وأشمل من المعرفة، وهو ما حدا بالمجتمع الدولي إلى إنشاء منظمة دولية تُعنى بالثقافة؛ فكانت منظمة  (اليونسكو) التي أُنشأت في منتصف القرن الماضي  (1945م)، ثمّ تلاها منظمة  (الإيسيسكو) التي أنشأتها منظمةُ المؤتمر الإسلامي في عام 1981م للعناية بالتربية والعلوم والثقافة في الدول الإسلامية.

أمَّا الجَهْل فهو  الشّجرة التي تَنبت منها كلُّ الشّرور على حدِّ قول  (ابن القيِّم)، وهو موْت الأحياء كما أَوْرَد  (الميْدانيُّ) في أمثاله، وهو الإثم ([3]) كما وصَفه  (سيدهارتا تاغوما) المُلقَّب ببوذا، وهو قُبْح الباطن الذي يُرادف العمَى ويَقود إلى العَمَه، وهو ما حذّرَنا منه ربُّنا جلّ وعلا في كتابه الكريم حين قال في سورة هُود: "إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِن الجَاهِلِين"، وهو أيضا ما ذَمّه الشاعر وقبّحه فقال: "إذا ما الجهلُ خيَّم في بلادٍ، رأيْتَ أُسودَها مُسِختْ قرودا"، وزاد آخَرٌ فقال: "إنّ الجهالةَ ظُلمةٌ تَغشى الحِمى،وتُحِيلُ أحرارَ الرجالِ عبيدا"، ثمّ وضعَه الشاعرُ  (صالح بن عبد القُدّوس) في مرتبةٍ فوق العدوّ فقال: "ما تَبْلغُ الأعداءُ مِن جاهِلٍ، ما يَبْلغُ الجاهلُ مِن نفْسِه".

والجهل نقيض العِلم، وأحد أضلاع مثلّث الشقاء الإنساني على مرّ العصور والأزمان (الجهل، الفقر، المرض)، ويُعرِّفه بعضُهم بأنَّه العمَل بغير عِلم أو العِلم بما لا يُحتاج إليه، ومِنه البسيط الذي يُقِرُّ به صاحبُه، ويَعنِي عدم الإدراك بالكُلِّيّة، ويَسهُل علاجه بالتَّحْلية. ومِنه المُرَكَّب ([4]) الذي لا يُقِرُّ به صاحبُه،  ويَعني إدراك الشيء على وجه يُخالف حقيقتَه، وهو بذلك أَعقَد مِن ذَنَب الضبّ؛ إذْ يَتطلّب التَّخْلية قبل التحْلية والحرْث قبل الزرْع.

ولعلَّ "ابن المقفع" هو أبْدع مَن فنّد قُبحَ الجاهل وشروره، حين صبّ عليه جامّ كلماته وأطلق عليه قذائف بلاغته قائلا: "إنْ جاورَك أنْصَبَك (أتعبك)، وإن ناسَبَك جنى عليك، وإن ألِفَك حمل عليك ما لا تُطيق، وإن عاشركَ آذاك وأخافَك، فأنت بالهرب منه أحقُّ منكَ بالهرب مِن سُمّ الأساوِد، والحريقِ المخوِّف، والدَّيْنِ الفادح، والداءِ العَياء". ولهذا كان التعامل مع الجاهل الطيِّب أسوأ من الأخذ والرد مع المثقف الشرِّير، لأنَّ المثقف صاحب منهجية يمكن التقاطها وتوقّعها والاستعداد لها، بينما الجاهل يرعى كيفما اتفق ويخبط خبط عشواء، فلا تحزِّر له تصرّفا ولا تحسب له ردّة فعل.

وإذا كان الدِّين هو طريق الفلاح و الحريّة هي مدخل الإبداع، فإنَّ القراءة هي الباب الملَكيّ للولوج إلى عالم الثقافة البريء مِن أيّ ارتباط بالجينات والوراثة؛ على شرط أنْ تكون تلك القراءة جادّة مُبصِرة؛ فتقف على أرضيّة الفِكر والوعْي والدِّين والضمير، وتَستند إلى المبادئ التي لا تَتبدَّل بالمال ولا تَذِّل مع الجاه ولا تَترنَّح تحت أقدام السلطان، وتَستنير بضوء كتابٍ يُنير العُزلةَ ويُحيي الوقتَ ويَخدم العقلَ على حدِّ وصف المفكّر الطبيب  (مصطفى محمود).

وقد ورَدَ في  (المعجم الوجيز) وفي باب حرف الثاء معنى ثقَّف الإنسانَ بمعنى أدَّبه وهذَّبه وعلَّمه، كما جاء ثقَّف الشيءَ بمعنى أَقام المُعْوجَّ منه وسَوّاه...وبهذا المعنى فإنّ الثّقافةَ ليستْ حشْوًا لمعلومات أو تكديسا لأرقام أو حيازة لمكْتبات، بل هي سلوكٌ ([5]) يَسرِي إيجابا في الفرد والمجتمع فيَعصِمْهما مِن الفِتَن ويَقِيهما الزَّلَل؛ إذْ إنَّ عقْلًا يتأثَّر ولا يُؤثِّر ويَنفعل ولا يَفْعل ويَعِي ولا يَعمل هو والعدَم سواء، تماما كإبرةٍ بلا عيْن وشمعةٍ في يد كفيف وكتابٍ على ظهر بعير...ومِن هنا فإنّ المثقَّف الحقيقي هو صاحب الرسالة لا صاحب الشهادة، وهو مَن يتقدّم الصفوفَ لا مَن يجلس على الرفوف، وهو الشّجاع المقاتِل لا المهادِن أو المناوِر، وهو مَن يتَّقِ الله لا مَن يتَّقِ الأُمَراء، علاوة على أنّه الكتلة الصلبة في ميزان الحقيقة واللحظة الفارقة في منعطفات الأمَم وصاحب الهامة والقامة في زمن الزحف والانبطاح، وهو مَن وصفه الكاتب الأمريكي  (نعوم تشومسكي)  بأنّه يَحمل الحقيقةَ في وجه القوّة.

 

والواقع أن جُزءا كبيرا مِن نكبتنا يقع على عاتق بعض أولئك المثقَّفين المزيَّفين المتثاقِفين؛ الذين تَقلَّدوا مقْود التوجيه العام وتوسّدوا مقعد الضمير الجمْعي؛ فكتبوا عن الحرية، ونظَموا للديمقراطية، ووعظوا في الإنسانية، وما إنْ سمعوا أغاريد السُّلطة وأبْصَروا بريق الذّهب حتى ذابوا كالشمع واحترقوا كالفتيل، فذهبوا مع الرّيح وتساقَطوا كأوراق الخريف وصدَق فيهم قولُ الشاعر:

"أَرى الناسَ خداعا إلى جانب خداع،

يَأكلون مع الذئب ويَمشون مع الراعي"

وما كان ذلك كذلك  إلّا لأنّهم أداروا ظهورَهم لسلامة المنهج ويَمّموا وجوهَهم شطر منهج السلامة ([6])؛ فزيّفوا المبادئ والقيَم التي تجاوَزها الجدل والنقاش وانتمتْ إلى عالَم المُطلَق والثابت - لكونها خالطتْ الفطرة وأكّدتْها الرسالات السماوية وصدَّقتْها التجارب الحياتية- فعَدُّوها آراء نِسبيّة زِئبقيّة مُتغيّرة يَبيعونها في أدْنى سوق ويَرمونها في أقرب صندوق، وذلك بعد أنْ فتَنتهم ألاعيبُ السياسة وأحابيلُها وأصبحتْ الثقافة ليستْ إلّا عربونا للصداقة ودليلا على التدجين والتنعيج..."هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ" ([7])

كان  (جوزيف جوبلز)  مُنظِّر النازيّة وأستاذ الإعلام الأسود وعدوّ الثقافة يقول: "كلّما سمِعتُ كلمة مثقَّف تحسَّسْتُ مسدّسي"، نعم...كان هذا أيام المثقَّف الحقيقي؛ الذي يمتلك رؤية ينافح عنها ويعمل على تحقيقها، والذي ترتجّ من كلماته القصور وتتفجّر من بيْن أنامله الثورات، فيهدِم بقلمِه وفكرِه ومواقفِه العروش، أمَّا اليوم فقد آن لجُوبلز أن لا يَخشي مُثقَّفا ولا يَتحسَّس مسدَّسا، بعد أنْ صار المثقّفون في جَيْبه أَلْيَن مِن ماء وأطْوع مِن بنان وآمَن مِن أرْض، وبعد أن غاب عن بعضهم أنّ الإنسان-كما قال الوزير أحمد هيكل في مذكّراته- لا يكون مثقَّفا؛ إلّا حين يرتفع فكره بالعلم والمعرفة والخبرة والتجربة من جانب، ويسمو وجدانه بالدين الصحيح والفن الرفيع والتقاليد السامية والأخلاق الراقية من جانب آخر.

ولعلّ أصدق مثال على قيمة الثقافة-إذا ما كانت عميقة الجذور سليمة الأركان صحيحة البنيان إسلامية الهويّة- وقوّتها، هو ما حدث للتتار الذين هَزموا الخلافة العباسية عسكريا ومزّقوها سياسيا وخرّبوها اقتصاديا، ولكنهم ما لبثوا أن انهزموا ثقافيا أمام الثقافة الإسلامية التي روّضتْهم وأَدْخلتهم في حَرمها، فأصبحوا حُماة  بعد أن كانوا أعداء، وصاروا دعاة بعد أن كانوا ألدّاء وخصوم.

وهو ما انتبهَت إليه القوى الاستعمارية، فألقَت سلاح الحرب وتَقلّدت مدفع الثقافة المتعدِّد الطلقات، والذي كفل لها تحقيق مآربها في السيطرة والغزو دونما دماء وذخائر ودون الحاجة إلى جيوش وعتاد، وها أنت ترى بأم عينيْك النتيجة في دول فقَدَت قرارَها وسلَّمَت زمامَها وتَعطّلت إرادتُها، وفي رؤساء ليسوا إلّا موظّفين بدرجة رئيس واستعماريِّين تحت بند وكيل ([8])، وفي نُخَب تُحاكيك بلسان عربي ولكن بعقل غربي.

***

 

بقلم: د. منير لطفي - طبيب وكاتب

مصر

  .............................

[1]  في هذا المعنى قال (شوقي): "وكَم مُنجِبٍ في تَلقِّي الدروسِ،تَلقَّى الحياةَ فلم يُنجبِ" 

 ([2]) على اعتبار أنَّ المادّة هي بدنُها. 

 ([3]) الخطيئة هي الإثْم، وما كان الجهل إثْما إلا لأنه هو الدافع والمحرِّك الغالِب وراء ارتكاب الخطيئة. 

 ([4]) حمَل (ابنُ القيِّم) على الجهل المُركَّب فقال في نُونيّته: 

" وتَعَرَّ مِن ثوْبيْن مَـن يَلبسهما،يَلقــى الــرَّدَى بِمَذمّة وهـــوان 

ثوبٌ مِن الجهْل المُركَّب فوقه،ثوبُ التعصُّب بِئستْ الثوْبان" 

 ([5]) يقول  (روجر فريتس): المعرفةُ شيء جيد، والإرادةُ شيء أفضل، أمّا الفعلُ فهو أفضل الثلاثة. 

 ([6]) في كتابه (صور المثقف)، يقول الكاتب ( إدوارد سعيد): "لا شيء في نظري يستحق التوبيخ أكثر من تلك الطباع الذهنية للمثقَّف التي تُغرِي بتجنُّب المخاطر، أي الابتعاد عن موقف صعب ومبدئي تُدرك أنَّه صحيح لكنها تُقرِّر ألا تتخذه". 

 ([7]) المنافقون 63 

 ([8]) في هذا يقول الشاعر اليمني (عبد الله البردوني): 

  "تَرقَّى العارُ مِن بَيعٍ إلى بَيعٍ بلا ثمنِ،ومِن مُستعمِر غازٍ إلى مُستعمِر وطني"

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم