صحيفة المثقف

لعبة النص في البنيوية والتفكيكية

علي محمد اليوسففي الفلسفة البنيوية التي اعتمدت ما سمّي بالقراءة الجديدة، او القراءات التأويلية المتعددة للنص، نجد انه جرى تداول تلك الطروحات المعرفية او اللغوية والفلسفية عندنا كنوع من الحداثة الادبية الفكرية المسلّم بها، كما هو شأننا مع جميع الصرعات الفلسفية المتنوعة التي ظهرت في فرنسا على وجه الخصوص، ومن ضمن تلك التيارات الفكرية ما جاء به تروبتسكي وجاكوبسن ودي سوسير وفنجشتين وآخرين في مجال فلسفة اللغة واللسانيات.

ان انزياح واستبعاد النص الاصل يكون من خلال تعدد القراءات المتجددة او القراءات التأويلية التي تختلف عن أصل النص في الاضافة او الحذف لا فرق، الذي تصبح قراءة النص محور كل دراسة تقوم على اماتة او الغاء حضور المؤلف الذي انتهى وجوده ودوره المؤثر لحظة خروج النص من تحت سيطرته ليصبح ملكا للمتلقي فقط كقيمة قرائية حسب مقولة رولان بارت، وفي تفكيك محورية النص وتشظّيها الذي ذهبت به التفكيكية ابعد من ذلك في اعدام اصل النص تفكيكيا في اعتماد القراءات الجديدة المتشظية التي تحمل معها الاختلاف الدائم مع قراءات سابقة عليها، واهمية تجاوزكل حضورنصي لغوي متجدد تخلقه تعدد واختلاف القراءات في سعيها الدائب- اي تلك القراءات – الى استحضار (فائض المعنى) الذي تمكنت اللغة اخفاءه في لعبة مخاتلة في تغييبها على الدوام لمعنى غير المعلن في ظاهرية النص القرائية على الدوام تحت رغبة حضور قرائي دائمي متجدد للنص لغويا في عملية تفكيك وتجاوز مستمرين الى ما لانهاية له.

وقد اعتمد الشكلانيون الروس في مؤتمر لاهاي عام 1929 مصطلح البنيوية الذي وضعه جاكبسون، وقد رفضت هذه المدرسة التي تأسست البنيوية الفرنسية على منطلقاتها وارهاصاتها، التي اعتمدت لغة النص (الادبي) تحديدا، التي جاء بها دوسيسير، ولاكان في علم النفس، وفوكو في حفريات المعرفة، والتوسير في هجومه على الماركسية، والاب الروحي للفلسفة البنيوية ليفي شتراوس في الانثرويولوجيا، الذي ابعدت عنها فيما بعد فكرة عدم توظيف النص الادبي لنصرة معتقدات فلسفية معينة، ونادى الشكلانيون ضرورة ووجوب اعتماد النظر على الشكل الجمالي للادب بما هو ادب، أي في اعتبار الادب ادبا صرفا يتميز بعدة دلالات تعبيرية لغوية جمالية تجعله جنسا تعبيريا مستقلا مفارقا لنصوص الفلسفة والدين والايديولوجيا وغيرها.

وفي فضاء الالتقاء والاختلاف البنيوي مع التفكيكي في وجوب التفريق بين اعتماد النص اللغوي شكلانيا في دراسته الاجناس الادبية من حيث هي كينونة كادب معرفي مستقل ويجب ان تكون دراستها كذلك، كلية باستثناء تعالقهما اللغوي (النصين الادبي والفلسفي) في التقائهما على صعيد النص اللغوي، في تداخلهما مع الفلسفة في مباحث اشتغالاتها المتنوعة خارج الاجناس الادبية.

ولنقرأ النص التالي من كتاب المفكر علي حرب نقد الحقيقة (ان كل قراءة تختلف لامحالة عن النص الذي تقرأه او تقرأ فيه، سواء أكانت القراءة شرحا وتفسيرا، او استنباطا وتأويلا. وهي تنزع من ثمّ، وبحكم اختلاف ما تقرأه، الحلول محله)، ولما كانت كل قراءة تأويلا(وحمل لمعنى ما على المقروء، وترجيح لمعنى آخر، أي هي تأوّل، ومآل التأويل أن يحل محل التنزيل) ص 96

أن الانزياحات التأويلية لأصل النص في تعدد القراءات واختلافها، يعطينا بحسب أحكام المفكر علي حرب، أن فكرة او محتوى او مضمون النص، يعطينا ترجيحا الى أن جميعها افكار اومرموزات لغوية اشارية متعالقة ببعضها، بما يتعّلق بأصل النص المتآكل تفكيكيا باستمرار تداولياته، وبعد أجراء القراءات التأويلية والتفكيكية عليه يكون لا معنى لنص الاصل ولوجوده أيضا كمرجعية، بل يصبح الاهتمام في تداولية النصوص المتفرعة عنه، ولم يعد اصل النص يمتلك حضورا حقيقيا بعد تعدد قراءآته المختلفة. وبذا بدلا ان يكون أصل النص مرجعية ثابتة تحاكم بها وعلى ضوئها، صحة قراءات الهوامش على النص الاصل الجديدة والتأويلات المتعددة له، نقوم بأعدام اصل النص تفكيكيا الذي هو أساس ومرجعية جميع القراءات بتعدد واختلاف اشكالها له المتفرعة عنه، وكيف يمكننا البرهنة ان التأويلات القرائية هي اكثر مقبولية وحكمة وصواب من محتوى النص الاصل الذي قامت القراءات التأويلية التفكيكية بأعدامه والغاء قيمته لأنه لم يف بالتزامه في كشفه المسكوت عنه واحتفاظه على الدوام بفائض المعنى لغويا.وكيف لنا ان نعرف ان المسكوت عنه هو الصحيح وليس ما يبوح به اصل النص وتعدد قراءاته، وليس ما يذهب له وتدعيه الهوامش من صدقية افتراضية.؟ في بحثها الدؤوب عن فائض المعنى الذي تخّلفه اللغة وراءها في تعدد القراءات والاجتهادات والاختلاف للنص الواحد.

لا نستبق الحكم أن جاك دريدا في التفكيكية يلغي تماما اية مرجعية ثابتة يمكن الاحتكام لها، ويعتبر دريدا انه حتى العقل او الانسان لايمثّل ايّا منهما او كليهما مرجعية، لأن هذه المرجعية طالما نعتبرها كينونة ثابتة نسبيا فهي ميتافيزيقا يتوجب مجاوزتها، كما ان دريدا يرفض المنهج باعتبار ان التفكيك لايحتاج المنهج لأنه استراتيجية آلية تفكيكية تطال كل شيء، وحتى التفكيك يعقبه تفكيك الى ما لا نهاية له او توقّف عنده.كما ان دريدا هاجم هيدجر واعتبره ميتافيزيقيا يؤمن بمرجعية العقل الذي هو ثبات لا يعتد الاخذ به.(يبدو دريدا مدلل الفلسفة ولو جاء غيره بهذا الهراء الفلسفي لرجموه حتى الموت، ونبشوا قبره بعد مماته بيومين على اثر خيبة امله في الحصول على جائزة نوبل).

واذا نحن سّلّمنا بهذا التحليل القرائي التفكيكي او البنيوي للنص الاصل، فسنكون في حالة ضياع وتيه في استقصائنا أين يكمن المعنى الصحيح وفي أي من القراءات التأويلية التي طالت نص الاصل وغيّبته قسرا نعتمد الوصول الى الحقيقة؟.ويصبح التشتت القرائي الاختلافي هو سيد التيه والضياع، نتيجة منطقية لما يتوجب علينا معايشته في تعدد الانزياحات المتناوبة في استهدافها أصل النص بالتغييب العمد كهدف مطلوب في ذاته ولذاته فقط في اشباع هوس التفكيك في ما لنهاية عنده.

ومقولة البنيوية (لا شيء خارج النص) تبدو اكثر اعتدالا ومقبولية امام فوضوية دريدا بالتفكيك الذي يطال النص وكل شيء في متوالية لا نهائية من التفكيك.

نعتقد أن أصل النص هو حقيقة مرجعية ليس سهلا الاستغناء عنها او تغييبها، وانه ايضا خلفية استرجاعية ثابتة لمعرفة ماذا اضافت القراءات التأويلية الشارحة عليه، وأين اصبح موقع اصل النص بعد تناوب القراءات الالغائية التفكيكية له وماذا بقي منه؟ واين أوجه القصور والخطأ فيه.؟ والنص منتج عقلي، والعقل والنص مرجعيتان نحتكم لهما ليس لحقيقة وجودهما المادي وثباتهما، بل لانهما من الضرورات البدهية التي بضوئها نستطيع الحكم على مدى اهمية قراءاتنا اللانهائية الافتراضية لأصل النص كما يرغبه جاك دريدا.

من المهم التذكير بان رولان بارت على اختلاف مع التفكيكية التي تذهب الى اعدام اصل النص تفكيكا اختلافيا تداوليا، فهو اكتفى بالغاء هيمنة المؤلف على النص ووصايته على القاريء، واوصى ان يكون حضور النص مرجعيا هو فقط دون غيره في مقولة البنيوية الفلسفية الشهيرة( لا شيء خارج النص).ليتدارك دريدا هذا التنازل البنيوي في تاكيده ان اللغة وليس النص الادبي هو كل شيء.

اننا نفهم أن كل نص هو كيان مادي قائم بذاته، والافكار قوة مادية تأخذ أنسنتها الطبيعية من المتلقي به واليه، ويتوجّب علينا ان ننطلق من أن كل قراءة او عدّة قراءات لأصل النص مهما أوتيت من قدرة تأويلية ذكيّة فهي ليس بامكانها ولا بمستطاعها الغاء حضور (أصل النص) حتى لو تعاملنا مع الغائه مجازّيا وليس حقيقيا، ثم والأهم لماذا نحن نعامل القراءات الهامشية الدائرة حول مركزية النص الاصل انّها هي مايمّثل الحقيقة المطلوبة وليس العكس في عدم اعتمادنا مركزية أصل النص انها هي الحقيقة التي على ضوئها نحكم على صحة منطلقات الهوامش القرائية التي تدور حول اصل النص وتستهدفه بالالغاء؟ من جهة اخرى اننا سنضع انفسنا بهذه الحالة امام سلسلة لا تنتهي من الالغاءات المتناوبة على استهداف اصل النص في اعدامه واخراجه من دائرة التلقي في تعدد وتنوع القراءات له .وهذا هوما تنادي به التفكيكية وتعتمده بالصميم.

العقل وفلسفة الشعر

ذهب علي حرب في كتابه نقد الحقيقة الى (ان الفلسفة الى ماقبل نيتشة كانت (عقلية) تبحث عن البداهة في معرفة الاشياء، وكانوا جميعا ينتمون الى الفضاء العقلي نفسه، اما ما حاوله نيتشة هو الخروج من هذا الفضاء بفتح الممارسة الفلسفية على الجسد والرغبة، على الارادة والقوة، وبكتابة نص فلسفي ينبض بحرارة الشعر ويعيد الاعتبار للجسد المقموع وللشعر المطرود) ص107

ويمضي مكمّلا (بيد ان الشعر لم يصبح اجراءا فلسفيا من اجراءات الحقيقة قبل هيدجرالذي فتح الممارسة الفلسفية على المجال الشعري قراءة انطولوجية.. وان هيدجر باهتمامه بالشعر سيقصي الاجراء المنطقي العلمي كشرط رئيس من شروط التفلسف لصالح الاجراء الشعري، معتبرا انه لا شيء يضاهي الفلسفة في قول الوجود غير الشعر) ص 107 ايضا.

ولنا الآن تسجيل ملاحظاتنا:

انه بغضّ النظر عن أن نص الفلسفة يضاهي النص الشعري ويتماهى معه أو يضّادده، ومن هو الباديء بهذا الترويج، ؟ نجد حقيقة الشعر ماثلة امامنا لا يمكننا مجاوزتها بالالفاظ واللغة فقط، ان الشعر فعالية يغلب عليها اللاشعور غير المنطقي للغة الذي يقاطع نص الفلسفة بالصميم، وفي تجاوزه لغة النمطية التداولية المجتمعية وخرقها الى ما فوق التراكيب المعتادة، كما نجد اختلاط المخيال اللاشعوري الشعري في تغييبه الادراك العقلي الذهني للواقع، وأبتداع الشعر للصور الشعرية المحّلقة بلغة حركية تخييلية غير منضبطة عفوية وانسيابية، في تغييبها وصاية العقل، وانثيالاتها في تداعيات من العاطفة التهويمية يصعب معها السيطرة عليها وتنظيمها اغلب الاحيان ولا تتدخل الذهنية العقلية بها او محاولة لجمها قبل برود العاطفة وحضور العقل، واغلب الاحيان لا يكاد تداخل العقل بالشعر يعتد ويؤخذ به اذ يصبح عندها جميع الناس شعراء وكل كلام الناس العادي شعرا. وبهذا المعنى لا يمكننا الاقرار امكانية ان يكون الشعر فلسفة، والفلسفة شعرا وهو ما حاوله فيختة وفيورباخ ونيتشة وهيدجر ووفلاسفة آخرون.ان لغة التجريد في الفلسفة والشعر وان التقيا على صعيد التعبير التداولي فهما يختلفان كليّا في الفهم الوجودي للانسان.

وليس معنى ان تجارب هؤلاء الفلاسفة تعطينا مبررا كافيا في تماهي الخطاب الفلسفي مع الخطاب الشعري فكريا او منطقيا متعذرّا، فهما كبنية إبداعية فنية وجمالية مختلفتان ولا تلتقيان مهما بذلنا من جهود في التنظيرلتسويغ مثل تلك المحاولات العقيمة.وتبقى المسألة ضمن اجتهادات لا تلزم غير متبنيها الأخذ بها كمسّلمة يقينية فلسفية او حقيقة ابستمولوجية نخلص لاهميتها وصحتها.ان دراسة انطولوجية الشعر بلغة التجريد الفلسفي المنطقي لا يتماهى مطلقا مع الكيان الراسخ في ان بنية المبحث الفلسفي الذي يقوم ايضا كما في الشعر على تجريد منطقي يعدم مخيالية الشعركلغة وتعبير تداولي يقوم عليه الشعر، كذلك يكون مخيال الشعر متمردا على منطقية البنية الفلسفية التجريدية وان جمع الشعر والفلسفة المخيال المنتج، فوصاية العقل على الخيال الفلسفي اكثر صرامة في المحافظة على المخيال الفلسفي ان لا يخرج عن وصاية العقل في تنظيمه لغة الافكار الفلسفية، وهذا ما لا يقوم عليه او يلتزم به الشعر كونه لغة غير نمطية في تنظيم لغة التواصل مع الاخر.

وخروجا تهويميا على كل ضوابط لجمه في ان لاتكون تداعيات العاطفة لغويا هي الغالبة في وصاية العقل على لغة الشعر.ان في اشتراك اللغة تجريديا في الفلسفة والشعر ليس معناه توفر كتابة مبحث الفلسفة بلغة الشعر والعكس صحيح ايضا.

2.المسألة الثانية أن هيدجر بسبب هذه الاشكالية الفلسفية كان يتبادل التهم مع العديد من الفلاسفة الذين نعتوه بالفيلسوف الميتافيزيقي ابرزهم نيتشة وردّه عليهم هو أن نيتشة كان آخر الفلاسفة الميتافيزيقيين الذين اوصلتهم عربة الميتافيزيقا الينا، ومن الغرابة ان يحذو هيدجر حذوالنعل بالنعل لنيتشة في اعلائه أهمية الشعر الى مستوى التفلسف وتداخلهما، نص الفلسفة ونص الشعر.ومحاولته تفسير الوجود فلسفيا بماهية الشعر.فقد حاول ذلك نيتشة في كتابة مؤلفه الشهير هكذا تكلم زرادشت على شكل شذرات فلسفية تداخلها لغة الشعر كثيرا، وفعل نفس الشيء هيدجر في محاولة فاشلة دراسة الشاعر الالماني هولدرين. قوله مامعناه ان اقرب تعبير لغوي للفلسفة هو لغة الشعر.

3.ان هذه الافكار الشعرية المتداخلة مع الفلسفة هي التي قادت كل من نيتشة وهيدجر الى التبشير وفتح الطريق والابواب الموصدة امام ظهور النزعتين اللتين دمرتا العالم في الحربين العالميتين . النازية والفاشية، التي راح ضحّيتها عشرات الملايين من القتلى والجرحى والمعاقين والمفقودين. فلو كان تسنّى لنيتشة قبل جنونه ووفاته لما تردد لحظة واحدة في الانضمام لحزب هتلر النازي كما فعل خلفه هيدجر، ولو حاكمنا افكار نيتشة الفلسفية – الشعرية وافكار هيدجر الشعرية بمعيار النقد العقلي البسيط، وبقليل من البراجماتية الخسيسة التي ينعتها براتراند رسل بفلسفة النذالة، فهل كان بقي لافكار أرادة القوة وارجاع الاعتبار الى لذة الجسد ومتعة الشعر النيتشوي اي معنى؟

4.ان ما يعيب محاولة نيتشة ومن بعده هيدجر في اقصائهما النص الفلسفي عن مجال اشتغاله العقلي المنطقي، لغاية تمجيد الشعر، والتخييل التهويمي غير المنطقي الذي يقاطع النص الفلسفي، منذ مقولة افلاطون في طرده الشعراء من جمهوريته الفلسفية والى يومنا هذا، هو تاثير شعراء كبار من امثال غوتة،، وهولدرين وشكسبير وغيرهم من الذين كان تأثيرهم على الفلسفة مهّما ولا يستهان به.

أن ما يعرف بتاريخ الجنون لفوكو الذي تطرق الى ما يسميه الفلاسفة تنويعة هولدرين، التي حاول فيها الشاعرالالماني الكبير تقمّص حالة الجنون الى ان أودت به الحال الى الجنون المطبق، وكذا فعل الشاعر لتريامون، وقد حاول هيدجر دراسة شاعرية هولدرين، في تفسيره الوجود انطولوجيا بماهية الشعر، ودعا الى هذا المنحى بالفلسفة. ولم يكتب لغيره النجاح في هذا المسعى على ما اعتقد، حيث في نهاية كل نفق لا بد من وجود نور عقلي يعيد المسارات الضالة الى الطريق الصحيح ..........

 

 علي محمد اليوسف / الموصل

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم