صحيفة المثقف

سعد ياسين يوسف.. شاعر الأشجار في آخر ما كتبه

481 اشجار لاهثةأشجار لاهثة في العراء

الشاعر العراقي د. سعد ياسين يوسف صوت شعري يحمل مفردة نابضة بالحياة، لا تصعب أمام قارئها لاستكشاف معانيها، فمنذ أكثر من ست سنوات وتحديداً الفترة المحصورة بين إصداره لمجموعته الشعرية "شجرُ الأنبياء" عام 2012 وآخر إصداراته "أشجارٌ لاهثةٌ في العراء" 2018، تعرفت على تجربة شعرية أخذت بمجامع إعجابي فثيمة الشجرة التي بنى الشاعر أكثر نصوصه عليها، هي رمز العطاء ورمز الزينة مانحاً حروفه من خلالها لوناً أخضر زاهياً، لكنه

هنا في مجموعته هذه يجلس إلى الأشجار محاوراً، باثاً لواعج عواطفه، باحثاً عن سر رفيفها وهي تركض في عراء الأسئلة – كما كتب في إهدائه لنا -، ولأن هذه النصوص تكاد تلامس حقيقة ما شعر ويشعر به الشاعر من مناجاته لها فهي تعكس قدرته على تقريب المفردة الشعرية للمتلقي والناقد على السواء، طيعة، بسيطة، عميقة، نادرة في معانيها وصورها وحبكتها، له القدرة على ملامسة الوجدان بها وكأنه يكتبها على لحاء النخل أو جذع شجرةِ نبقٍ تساقطت منها الدموع كما في " عيونُ الصّبّارِ " التي نقرأ منها :

غُنْجُ المساءاتِ

موسيقى ...

توقفتْ على سُلَّمِ الفجيعةِ

خُطواتٌ راقصةٌ

على رصيفٍ صعدَ إلى السماءِ

فوقَ نافورةٍ من دمٍ

توضأ بالبراءةِ

فالموتُ بجناحيهِ المهولينِ

تسحَّرَ بالكرادةِ

وأفطرَ جثثاً متفحمةً،

صرخةَ فقدٍ ...

تهزُ سماءَ اللوعةِ

عيوناً من صبار

ترتلُ بثيابٍ سوداءَ

ترتيلةَ عيدٍ وئيدٍ

ثم نقرأ من " شجرة العروج " التي تحيلنا صورتها الشعرية إلى ما يُشبه " المونولوج " في مناجاةٍ عَبّرتْ عن مشاعر متضاربة لما يحدث من قتل في " بلاد ما بين دَمُكَ ودمي " :

عفوكَ ربي

قامت قيامتُهم

سيأتونكَ عندَ سدرةِ المنتهى

ولكنْ كما رَسمَتْهُم النيرانُ

لا كما خلقتَهُم في أحسنِ تقويمٍ

حاملينَ هداياهم ....

أطفالاً بلا عيونٍ

تُشرقُ شمسُ الكركراتِ

من محاجرِهم

يحملونَ ملابسَ بيضاءَ

بلونِ الفرحِ القتيل

الأشجار أنسنها الشاعر هنا كما في دواوينه السابقة حيث جعل منها صورة ناطقة لمحكياتنا اليومية بآلامنا التي نحملها بين صدورنا، بانتكاساتنا، أشجار تلهث في عراء حياتنا المليئة بدموع الوجوه الشاحبة، في قصيدته " أشجار لاهثة في العراء " التي حملت عنوان مجموعته الشعرية التي يمكن أن تكون باباً مفتوحاً للألم التي أطلت عليها باقي نصوص الشاعر نتلمس فيها ذلك الوجع الإنساني الذي لا يريد مغادرتنا :

الدمع صفير الريح

ونشيج الرمل

إذ ينهمر على جدار لحمنا الحي

عارياً تحت غيمة

تمزقها أنياب الظهيرة

تصفر الريح

ناحتةً وديان الهجير

في شفة الحلم المتيبس ...

على شحوب الوجوه

وجثث الأسئلة التي

عرّتها الشمس

لا تسعها عيون الملامة

المتقافزة في وضح الظلام

الشاعر هنا لا يطرح قصيدته كواحدة من خيالات شاعر، بل هو يستحضر حقيقة عمق المأساة التي تحيط بنا وسط هذا الضجيج المروع، هو لم يخترع هذا النوع من التراجيديا بمفهومها العام، لكنه وظف حقيقة المعاناة التي شعر ونشعر بها جميعاً :

ولا اشتعال البرق في بطون الجوع

خيول الريح تصهل

والصهيل رماح تكسرت في السماء

فأمطرت سبايا

وقمصان دم

قدت من جهات أربع

حتى استحال الدم نهراً

من رمال سفتها الريح

لا غصن يشير إليكَ .

هناك مصطلح إعتمد أكثر الشعراء في الغرب تداوله في قصائدهم هو The term voice mail أي " البريد الصوتي "، استخدمته إيميلي ديكنسون الشاعرة الأمريكية الكبيرة في قصائدها باعتبارها " رسائل إلى العالم " قالت عنه :

" هو الآداء الأقرب للوصول لاستجابة القارئ له "، ومع أن العديد من شعراؤنا هنا استخدم ظاهره بطريقة غير عميقة، إلا أني وجدت شاعرنا د . سعد قد استثمر هذا المصطلح استثماراً كبيرا وهو يبعث برسائله عبر "بريده الصوتي" الخارج من أعماق روحه :

كل السهام استنفرت اليباب،

غير أنكَ كلما اندس فيك سهم

نز من عريك ورد

لتظل هناك على شفا الأفول

كبوذي ينثر رماد أسلافه

في احمرار الأفق

لغة للغياب ...

لاحظ كيف اختار الشاعر مفردته العربية للتعبير عن غضبه من الواقع المعاش: استنفرت، اليباب، اندس، عريكَ، الأفول، رماد، احمرار، لغة للغياب، هو في اختياراته هذه يؤكد على جعل هذه المنظومة من الكلمات تعيش توءمتها الحقيقة مع ما نقرأه وسنقرأه من باقي قصائد مجموعته الشعرية " اشجار لاهثة في العراء " التي نختتم قراءتنا لها بالأبيات الأخيرة :

وبلا ثياب، تنسل من جسدي

الغصون وتساقط

غصناً فوق غصن

فوق غصن

فوق غُصة ...

حتى تقطعت أزرار السماء

وتدلى ثديها

وتدافعت بحثاً عن نفس من خضرة

لما تبقى من شجرة الأنبياء

...........

.....

!!!

" أشجار لاهثة في العراء "

مجموعة شعرية

سعد ياسين يوسف

دار نشر أمل الجديدة / سورية الطبعة الأولى 2018

 

كتابة / أحمد فاضل

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم