صحيفة المثقف

في فلسفة التجاذب بين المسرح والتراث (1)

التجاذب المستمر بين المسرح والتراث، هو في حقيقة الأمر، انعكاس لجدلية مؤرقة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر، إنها جدلية الحاضر والماضي، القائم وما كان قائما، بكل حمولتهما الثقافية والسياسية والاجتماعية والإيديولوجية، إحياء التراث أحيانا، أو الوعي بالتراث أحيانا أخرى، جاء نتيجة هموم النهضة القومية التي سعت إلى تجاوز عصر الانحطاط، والخروج من دوّامة الهزائم والانكسارات المتتالية، التي أحدثت شرخا كبيرا في الهوية العربية، فكان إحياء القديم/الأمجاد، الماضي المشع في الذاكرة، وبهذا هيمن الماضي وأرخى بظلاله على الحاضر، وأصبح مرادفا للهوية والأصل، وملاذا للاختباء من كل جديد، لاسيما بعد هيمنة الرؤية السلفية في قراءة التراث.

أضحى التراث بهذا المعنى، غاية لتحقيق الأصالة، والحفاظ على الهوية في ظل الاتجاه نحو العولمة، وهو ما أدى إلى إلغاء الزمن والتطور، وأصبح التراث يشكل معالم الحاضر والمستقبل في استراتيجية من العقل العربي للهروب من وقع الهزائم، وإذا كان التيار السلفيّ ينظر إلى التراث نظرة تقديسية منغلقة، فإن التيارات اللبرالية قرأته بمناهج غربية، أدت، حسب محمد عابد الجابري، إلى نفس النتائج تقريبا، بينما دعا المغالون من هذا التيار إلى إحداث قطيعة إبستمولوجية معه، وهذا نقاش سيأخذنا بعيدا عن عوالم الفرجة، غير أنه لا بد من استحضاره لوضع هذه الإشكالية في سياقها الفكري العام.

لا تستقل علاقة المسرح بالتراث عن الأطروحات الفكرية التي تسعى إلى إحياء الماضي، أو قراءته قراءة نقدية موضوعية جديدة، غير أننا نجد أنفسنا في الدراسات المسرحية، نستعمل كلمة التراث، ليس للدلالة على الماضي فقط، بل للدلالة أيضا على الثقافة الشعبية، مقابل الثقافة العالمة أو الرسمية، التي لا تصبح تراثا إلا في احتكاكها بالتاريخ، لذلك نعت هذا النوع من التراث، بقصد أو عن غير قصد، بمصطلح قدحي تم تجاوزه لاحقا، وهو الأشكال ما قبل مسرحية.

وفلسفة التجاذب بين المسرح والموروث الثقافي، يعود بنا إلى ما قبل ظهور المسرح في بلاد اليونان، حيث كان في البدء فرجة تراثية، مقترنة بالإنسان منذ التجمعات البشرية الأولى، منها ما هو طقسي (الاحتفالات الديونيزوسية) وشعائري (الاحتفالات الشيعية في العراق) واحتفالي (الأهازيج والاحتفالات في الأعراس).

هكذا يؤرخ ظهور الفن المسرحي لعلاقة التجاذب بين التراثي والمسرحي في الفعل الفرجوي الإنساني، إنها علاقة تجاذب مستمر عبر التاريخ، غير أن المرحلة الأولى من تاريخ المسرح، وهنا أقصد الشعرية الأرسطية التي امتدت ردحا طويلا من الزمن، لم يتناول فيها الدارسون علاقة المسرح بالتراث، وأقصد هنا الأشكال الفرجوية الشعبية واستلهام التاريخ، لأن الإرث الثقافي المسرحي فيما بعد، تحول بكامله إلى تراث، وهو ما لم يكن متوافرا في المرحلة الأولى. والمرحلة الثانية، وأقصد بها شعرية ما بعد أرسطو، كان فيها التجاذب بين المسرح والموروث الثقافي قويا وعنيفا، منذ الدعوات الأولى لجون جاك روسو ومن تلاه، وانعكس هذا التفاعل القويّ في النظريات المسرحية من خلال مسرح القسوة، والمسرح الملحمي، والمسرح الاحتفالي، والحكواتي... والعروض المسرحية، أيضا، ونخص بالذكر هنا تجربة أبي الخليل القباني والطيب الصديقي والطيب لعلج وسعد الله ونوس.

وإذا كانت العودة إلى التراث، قد جاءت بعد دعوات من رموز الفكر والأدب في الغرب، فإن النهضة العربية، قامت بدورها على دعوات محمد عبدو، والأفغاني، ورفاعة الطهطاوي، وحسين مروة، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الكبير الخطيبي، وغالي شكري، وزكي نجيب محمود، وأدونيس، ويوسف الخال، وحسن حنفي، وهو ما أدى إلى التأثير على الفهم المسرحي للتراث، خصوصا في الشق التنظيري المرتكز على التأصيل، وبهذا قامت التجربة المسرحية العربية في مرحلة التأسيس على مفهوم التأصيل باعتباره صلة الوصل بالماضي، الذي جعل المسرح العربي، رهين دائرة مغلقة، حيث كان التراث في المسرح مرادفا للأصيل، والسبيل للانتصار للهوية الحضارية والثقافية، في مواجهة الآخر/الغرب، غير أن المتتبع للتراث في الفعل المسرحي العربي، يدرك أنه يختلف من مرحلة لأخرى، وهو ما جعل الاشتباك بالموروث الثقافي يتخذ ثلاثة أبعاد:

البعد الأول: إحياء التراث في ظل النهضة العربية (مواجهة الاستعمار).

البعد الثاني: توظيف التراث لنقد الواقع وتغييره (ما بعد الاستعمار).

البعد الثالث: توظيف التراث توظيفا جماليا من خلال التقنيات المسرحية الحديثة (الألفية الثالثة).

وفي أفق هذا التجاذب المستمر، تشكلت شعريات مسرحية ترتكز على التراث في بناء خطاباتها، مستلهمة اللهجات واللغة، والاحتفالات والأفعال الإنسانية الماضية، والأمثال والحكم، والسّير والحكايات، وفي الجانب البصري، استلهم اللباس والديكورات والرقص والموسيقى والإضاءة.

حضور التراث في التنظيرات المسرحية، لا يمكن أن ينظر إليه بمعزل عن سياقه المسرحي والإيديولوجي، وعن السياق السوسيوثقافي للتجربة المسرحية بشكل عام، لذلك يحضر هنا من خلال هدفين، الأول معرفي، تحقيق معرفة بالتراث، واستجلاء عناصره ومكوناته، والثاني إيديولوجي، حيث لا يمكن أن تتحقق معرفة بالتراث إلا من خلال رؤية حديثة تستند إلى مرجعيات فكرية، قد تكون سلفية أو لبرالية.

وإجمالا، إن ما نسعى إلى تقديمه، هو رصد خصائص توظيف التراث في مراحل تطور المسرح العربي، والأهداف التي يمكن تحقيقها من وراء ذلك، بينما تبقى الإشكالية التي سنحاول الإجابة عنها في المقالات المقبلة تتمحور حول أن التراث يسعى للحفاظ على الهوية الحضارية والثقافية، في حين أثبتت الدراسات الحديثة أن الهوية تتسم بالحركية والتفاعل والاستمرار، فأي هوية سنحافظ عليها؟ وهل استطاع التراث أن يحقق أهداف دعاة التأصيل المسرحي؟

 

عبيد لبروزيين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم