صحيفة المثقف

زنبقة البحيرة

قصي الشيخ عسكرابتسمت باحثا في ذهني عن معنى أستقر عليه فغابت عني جميع المعاني ولذت قليلا بعينيها:

- صدقيني لاأعرف.

- معقول ؟

وخطرت في ذهني تسمية أخرى تداركت بها خطأي:

- إذا كان لايعجبك فسوف أناديك باسم "زنبقة البحيرة"

فتأملت قليلا واتسعت ابتسامتها:

- زنبقة البحر ربما هو اسم ثقيل قليلا!

- لاعليك المهم أني اخترت الاسم الأول لك وليس بالضرورة أن أعرفه.

- اسم جميل قبلت به.

 وغيرت الموضوع فجأة:

- هل تذكرين العراق؟

- كنت في سن الرضاعة؟

 هناك للقبلة طعم آخر منها يكتشف الرجل أنّه الوحيد الذي قبل زوجته، وكنت كلما هممت أن أدني شفتي من خديها أو فمها سمعت وقع خطوات أمي المتسارعة من المطبخ:

- انا الآن بصدد العودة إليه؟

- كيف؟

- لعلك سمعت بآلة الزمن؟

- آه أنت تحب أفلام الأكشن؟

 لقائي الأول بها بعد الخطبة .. تحفظ واندفاع .. نبدو قريبين من بعضنا وبعيدين في الوقت نفسه:

- ألاتحبينها!

- أووه بعضها ..

 ظننتني أمزح. نظرت إليّ مشرفتي الاجتماعية حين نطقت عبارتي نظرات مرتابة. بعضهم يدعي الخبل مقابل حيازته الإقامة بزمن قياسي لكني أرى الآلة شاخصة أمامي بيضوية .. جسدي مغطى بمريلة بيضاء .. الطبيب يؤكد لي وأنا مستلق على السرير أني لاأشعر بألم سوى أصوات مزعجة، وعلي أن أتحمل بعض البرد مدة تقرب من ساعة:

- الحياة هناك مغامرة!

تؤكد زيزفون البحر،وكانت المشرفة تسألني السؤال التقليدي الذي يجب أن يطرح عليّ كلّ قادم:

- لماذا اخترت السويد؟

أكذب إذا قلت : حقوق الإنسان والقانون الدولي. هي المصادفة التي ألقتكم في طريقي أو ألقتني في طريقكم .. الهاربون يفضلون لندن وباريس .. هي المصادفة وحدها .. بلدكم فيه الزمن منعدم انعدام حقل يعج بالتيارات البحرية .. ستة أشهر ليل وستة اشهر نهار. أرقى بلد في العالم .. وأنا عشت معادلة الزمن الصعبة لعلني ابدأ من النهاية. التجربة ذاتها مررت بها في إحدى الدول الاشتراكيّة السابقة قبل الوصول إليكم. قلت الكثير في التحقيق البدائي وفي دائرة الصليب وها أنا أكرره .. ليس هناك من تناقض في أقوالي. الأضواء الساطعة في الليل .. ساعة عقلي البيولوجية وهناك شخص غبيّ سمعته يطرق الأبواب وينادي الصلاة. أنتم مسلمون الصلاة .. ياعباد الله الصلاة .. خير من النوم .. لايعرفني إن كنت مسلما أم صابئيا .. في هذه اللحظة دخل لاحق السراب الذي لم يكن صديقي بعد .. كهل في الأربعين أكبر منّي بعشر سنوات مليء بالهم والنشاط .. طلبت منه المشرفة أن يصحبني إلى الطبيب النفساني. في الطريق زادت ثقتي فيه وملئت نفورا من الشرقيين الذين انتقصوه. اخبرني أنّ مهمته هي أن يحضر جلسات طبيب نفساني مختص يعالج وضع نومي المقلوب. المفروض أن أنام ليلا وأصحو نهارا .. ربما أنا دكتاتور صغير. هؤلاء ينامون نهارا ويصحون ليلا لكي يحبطوا أي انقلاب يتسرب إلى مضاجعهم خلال الظلام. حاولنا رشوة الشرطة هناك فنزلوا عن كثير من قسوتهم عدا أن يطفؤوا الأنوار الساطعة ليلا المسلطة مثل نسور حادة البصر علينا،ومثلما يمكن أن يحدث الوضع بالمقلوب كما ينام الحراس نهارا ويصحون ليلا وكما يصحو أيّ دكتاتور ليلا فقد عاد،وفق الطريقة نفسها، الاتحاد السوفيتي فتبعثر وانسل ثانية إلى الماضي كما كان قبل 1917ثمّ قلبت إحدى دوله السابقة ساعة رأسي البيولوجيّة أقدر أنا أن أبدأ من نقطة موتي لأهاجر نحو الماضي،من آخر لحظة حتّى أعبر اصلاب أجدادي وظهور أسلافي،فاقف عند نقطة أكتشفها بنفسي .. من البحر انطلقت في البدء أم القرد أم شخص يدعى آدم البر وقد تكون البرمائيات هي الأصل؟من منا يستطيع أن يثبت أن إحدى جدّاته في أي قرن من القرون لم تكن خائنة مثلما خانتني زيزفون البحر كما ترآى لعيني!

-لم تعجلت في حكمك؟

يسألني "لاحق السراب" السؤال نفسه سألني إياه المحقق ثم وهو يمط شفتيه:

- قد تكون صداقة بريئة أو مثلما تبين فيما بعد إنه من ذوي الاحتياجات الخاصة!

هذا عندكم أما عندنا فالأمر يعني الكثير فتاة مخطوبة تضع يدها بيد شخص آخر غير خطيبها. مراهقة تلعب .. ياللعنة. هلوسة أم شيء آخر غير ذي معنى. ماذا يجدي الاندفاع. كنت على وشك أن تكون مليونيرا. أما الأم السيدة "قطر الندى "فقد قابلتك بدهشة ثم نفور .. متخلف .. هي نفسها روضها " كوسج البحر" بمرور الزمن .. قيل عنها إنها داهية مثل زوجها سوى أنها صامتة طوال الوقت فإن نطقت فهي لاتتحدث إلا كلمتين .. عمك نفسه في حال انزعاجه منها يسميها الكارثة الكبرى. ما زلت تلهث وراء المستقبل وأنت متشبث بالماضي رأت خطيبتك فيك طموحا فقبلت بك على مضض. وجدتك نوعا ما مؤهلا لترث ثروة كبيرة لايستحقها شاب حاول قبلك. ثم سكتت قطر الندى حتى صديقك " لاحق السراب" رأى فيك مأثرة يتقرب بها إلى عمك السيد " كوسج البحر" فيحصل منه على امتياز آخر غير ترشيحه لعضوية شركة " كلارا" امتياز ثان وأرباح جديدة .. وهاهم السويديون يكشفون عن وجههم القبيح ولن يخرجك من غرفة التحقيق وصلف المحقق إلا تنازل " زيزفون البحر" التي لم تقم أية دعوى سوى أن الشرطة اقحمت نفسها بعد أن تجمهر حولك المشاة، والمحقق يسأل:

- لماذا هاجمتها؟

سكت تلوذ بالصمت .

دعوى جديدة تضاف إلى ملفك بل هي أول دعوى. نقطة سوداء. كفك .. دمغة الأصابع على شاشة الكومبيوتر. خطوط يدك تحفظ مع دمغات المشاكسين والمنحرفين ومهربي المخدرات واللصوص والقتلة. اليد هل أردت أن تصافح رئيس دولة بهذه اليد المنسوخة على الكومبيوتر آخِر الأمر أن أصابعك المطبوعة على الكومبيوتر اشارتا إلى أن الماضي ألقى عليك بقبضة من حديد لامفك منها وأنك على مايبدو لم تغير إفادتك الأولى:

- لم هاجمتها؟

- من حقي ياسيدي .. رأيتها مع شخص آخر.

- هل كنت تراقبها؟

- أبدا بل الأمر لايعدو كونه مصادفة.

- كيف عرفتها؟

- نحن الشرقيين كل منا يعرف الآخر نحن جالية صغيرة.

- إن لم تكن مقتنعا بها كان يمكن أن تنفصلا.

 تخرج عن صمتك، فلابد من مرحلة التحقيق حتى لو لم ترفع عليك " زيزفون البحر" دعوى:

- لم كنت عنيفا؟

 "ظنون البحر" آه لو سبرت غوره فلهج لساني باسم واحد أستقر له عليه ، الآن مرتبك يحاول أن يقنعني أننا في أوروبا. يقول لي نحن في أوروبا الشمالية حتّى في موضوع الدين لنا فقه أطلق عليه العلماء فقه المغتربين. لم أسمعه يذكر الدين مرة. كان يفتخر بكونه علمانيّا يفصل الدين عن السياسة وشؤون الحياة مع أنه – وهو السني العلماني- يضع في الفاترينا صورة الإمام الخميني .. أوّل لقائنا كان الحديث عن العمل. ماذا يفعل بالشهادة الطويلة العريضة دكتور متخرج من كلية الزراعة . هنا لايعترفون بالشهادات الخارجيّة. كلها عندهم أوراق. أزبال. الشهادة الحقيقية حين تكمل المرحلة الثانوية في السويد كما فعل " ياكوب" الذي تحول عن " محمد" .. أزبال شهادات العالم كلها لاتعترف بها اسكندنافيا .. شهادة دكتوراه في الزراعة من الخارج لاتنفعني في السويد لكن السيد " موج البحر"- قلت إني لم استقر لعمي على اسم واحد- أخبرني أنه استفاد من تجربة الدجاج في الجامعة بالضبط مثل التجربة التي تعرضنا لها نحن الهاربين في معسكر تالين مع المصابيح الساطعة،في حقل الدواجن على رؤوس الفراخ مصابيح متوهجة طوال الليل. يتوهم الصوص الصغير أن الشمس لما تزل بعد في شروق فيستمر في التقاط حب مكدس أمامه. هناك في جامعات ليبيا والجزائر درس وأسس مشاريع مشتركة. كنت أزوره في المحل كلّ يوم تقريبا. أساعده في ترتيب الاكياس على الرفوف وأكيل الحبوب. نصيحة من صديقي لاحق السراب في أن أقضي وقتي وأستفيد شغلة ما من دون أن أسال عن أي أجر ولم تمض بضعة أيام حتى فوجئت بعرضه الجديد:

- كم تأخذ من صندوق المساعدات؟

- كأي عاطل مبلغ لايتجاوز الألفي كرونة.

هز رأسه وتمتم:

- ألف كرونة " والتفت إليّ متفائلا بعرض جديد" حسنا سوف أعطيك ستة آلاف نثبتها ألفين في العقد الرسميّ من أجل ألا نتحمل نحن الإثنين تبعات ضريبة مضاعفة والشغل ها أنت تراه من الفجر إلى الرابعة عصرا مايزيد عن ذلك ممكن أن يسجل عملا إضافيا من دون أن ندخل في تفصيلات رسمية فهنا لو تُرِك الأمر بيد الحكومة لفرضت ضريبة على الهواء الذي نتنفسه والأحاديث التي تدور بين الناس.

- إن لك في ذلك علي فضلا كبيرا.

- المهم عندي الأمانة، والحق أقولها أمامك بصراحة لم ارتح إلا للسويدي الذي كان قبلك فمن اشتغل معي من الشرقيين كان هدفه السرقة لو أن أي عامل يختلس من المبيعات الكثيرة مائتي كرونة كل يوم لدخل في جيبه ضعف راتبه من دون أن تبين أية خسارة على المحل!

- ماشاء الله .. الله يبارك!

- لذلك لن أمنع عنك أي شيء إطلاقا لك مطلق الحرية في أن تأخذ من الخضروات والفواكه فقط ماترغب فيه من دون ثمن وأن تتناول وجباتك في المحل أما المعلبات واللحوم فسأحسبها لك بسعر الكلفة.

- ياسيدي أنت لم تجربني بعد لا أمدح نفسي حين تسمع مني للمرة الأولى أني في الحرب هرولت والقذائف تتناثر من حولي وازيز الرصاص يصم أذني ولم أبال برجة قوية أصابت رأسي حتى ...

نمت عينا السيد " عباب الموج" عن معنى ما قد يكون صدقني أو شك فيّ فالقصة أنا شخصيا أشك فيها على الرغم من أنني عايشتها بكل مشاعري أوربما تكون مرت بي وعايشتها ولعلها وهم سطع خلال الحرب فخلته حقيقة لاريب فيها لكني لاأدري لم تراني أرغب في أن أعيدها سواء أكانت هناك مناسبة أم لم تكن:

- هل تفعلها لو رجع الزمن إلى الوراء؟

- لا أبدا!

- ها إنك الآن اكتشفت نفسك هنا في أوروبا لعلك لاتفعل وتغامر بحياتك لكنك الآن مختلف تماما. أصدقائي كانوا كذلك .. أتعرف هؤلاء الذين اتهموني كانوا من أعز اصدقائي. بعضهم عاشوا معي أحدهم يعد بيتي كما لو أنه بيته .. اكل .. شرب .. مبيت. بعضهم يترك زوجته معي في البيت حين يسافر .. ثقة عالية .. غير أنهم أصبحوا كالذئاب عندما رأووا المال يسيل بين يدي وتناسوا أن الخير الذي يصيبني يصيبهم!

ثمّ عملت عنده في المحلّ ..

كان محله يعتمد على زبائن سويدين وشرقيين أمّا بعض العراقيين فقد أعرضوا عنه. حسبوه انحرف عن مبادئه المعادية للسلطة وأصبح بين عشيّة وضحاها عميلا لها. لاأدري كيف بنوا افتراضهم وشكوا فيه ومن قبل رسموا علامات استفهام حول "لاحق السراب". حسد نعمة الفاصولياء والبازلاء والرز والبرغل .. الفستق والجوز واللوز .. تجارة حولته في غضون سنوات إلى مليونير يشار إليه بالبنان .. ستة آلاف كرونة في الشهر .. كانت الفاصولياء والحبوب الأخرى وعلب البندورة تطل علي ّ كل يوم مثل أحداث العالم الكبرى .. إحدى عشرة كرونة العلبة .. نعم لحم حلال .. هناك مسلخ كبير للمسلمين. ذبح حلال ... أنا متأكد كله طعام حلال .. مذبوح على الطريقة الإسلامية .. أتدري ليس هناك فرق بين ذبح الشيعة والسنة .. الشيعة ينحرون الحيوان باتجاه القبلة .. في المزرعة جزار من ألبانيا ومصري وآخر من إيران .. في المستقبل ممكن أن نفتح فرعا للاسماك .. حوت البحر داهية وظف من جميع الطوائف .. أمم متحدة وسوق مشتركة .. ربما .. احترس من بعض السراق قد يخطف أحدهم شيئا من المحل قبل أن ترمش عينك، ولاتنس أن تبدل شريط المبيعات على الحاسبة .. أما هذا المحاسب الغبي فلا أعرف متى يستقر على حال يمكن أن يجعلنا معها نوفر مبلغا أكبر مما ندفعه الآن لمديرية الضرائب. سويدي هو؟ والعياذ بالله .. السويدي يجعلك تدفع ثلاثة اضعاف .. محاسب مصري أو عراقي .. إسمع أنا سأحتل مكانك .. تستطيع أن تلف على محلات المدينة ترى محلاتنا الفرعية وتنتبه لأسعار المحلات الأخرى بإمكاننا أن نخفض اسعارنا قليلا .. انظر لسعر البندورة والبصل والخيار في المحللات السويدية .. بقية المحلات لايهمنا أسعارها .. اصحابها أصدقاء يستوردون منا .. هل أصبحت ُ أحد أبطال المخابرات اليابانية .. أتجسس على الأسعار واستطلع حاجة السوق .. الجاسوسية اليابانية محترفة في حقل السوق .. لاأحد يكشفك فقط راقب ازدحام الزبائن على سلعة ما .. البرازيل فازت بكأس العالم للمرة الثالثة أو الرابعة .. بقي الدولار ثابتا فلم يتغيرسعر العدس .. كم سعر الرز؟لم تتأثر الاسعار بعد بهبوط الكرونة .. يا أخي في الدول العربية سعر السلعة يقفز قفزات جنونية. سندويج الفلافل من ليرة إلى خمس ليرات أما لماذا فلأن الدولار ارتفع .. ماعلاقة الدولار بالفلافل .. ارجوكم صاحب المحل لايفضل الحديث في السياسة هنا محل عمل .. مازال سعر الرز على حاله وإن حدث هبوط في الكرونة السويدية! .. أتظنهم فعلوا ذلك ليجبروا السويد على الانظمام للوحدة الأوروبية؟ الأمريكي التايلندي أم الباكستاني؟البرغل التركي أفضل .. من أيّ بلد هذا المخلل؟ على أيِّ رفٍّ الحمص بالطحينية؟خلال يومين ترتسم أماكن السلع في ذهنك فتلتقطها وأنت مغمض العينين .. لاتنس أن تنتبه إلى تاريخ الصلاحية على العلبة وإلا وقعنا في ورطة مع دائرة الصحّة .. يا أخي لم لايتبرعون بالعلب منتهية الصلاحية للدول العربية والأفريقية الفقيرة. صحيح أن الصلاحية تنتهي في يوم محدد لكن سلامة المحتويات تبقى لعدة أشهر .. دعهم يفعلوا ذلك وإن لم تصدقني قاذهب إلى متحف القطارات سوف تجد صورة لقطار قديم .. قالوا عنه أنهم ألغوه عام 1950 ... ثم أرسلوه إلى مصر هدية ليكون في الخدمة هناك إلى عام 2000 ثم يعود إلى المتحف .. تعلم السويدية وأقرأ أفضل من أن تكون أميا .. المعلبات مثل القطارات يا أخي لو كنا في بلد عربي لما انتبه أحد إلى تاريخ الصلاحية .. العراق احتل الكويت قبل ساعات؟ .. معقول؟لم لا؟ دعه يحتل كل الخليج .. يستحقون أكثر من ذلك .. باعة نفط لاأكثر .. أبطال أنتم العراقيين!

شيء لم يحدث في تاريخ العرب المعاصر.

- حمار هذا الدكتاتور .. في هذا الوقت يقوم بمثل هذه المغامرة .. لا اتحاد سوفيتي .. لامعسكر اشتراكي وإلا من يجرؤ على ذلك من يحميه وقت تفتت الاتحاد السوفيتي!

- باميا مجمدة؟

مصرية أم جنوب إفريقيا؟

- اسمع إنتبه سأتركك وحدك بضع ساعات قد أتأخر :

- خير إن شاء الله.

 لدي مقابلة مع دائرة الشرطة أنا وعمتك من أجل المواطنة السويدية.

- آمل أن ينتهي الأمر على خير.

- المهم إن الحصول على الجنسية السويدية مازال أمرا يسيرا ولعلهم يلتفتون إلى ذلك مثلما فعلت الدنمارك حين وضعت شروطا أقسى وربما في المستقبل سوف تشترط عليك السويد أن تتقن اللغة إجادة تامة وألا تعيش على مساعدات الضمان.

- العمل موجود مادمت معي أما لغتك فلابأس بها إنك ما زلت شابا تستطيع أن تتعلم المزيد!

- عندئذ أضع جواز السفر في جيبي وأقول باي باي عراق!

- ماذا عندك هناك؟ مستقبلك هنا لنترك العراق لغيرنا!

- ربما يبقى الحنين

- يعني هل ترجع لو تغير النظام في العراق ؟

- لا لعلني أزور العراق كل سنة مرة أو كل سنتين.

- لاأخفيك سرا أني أنا وزوجتي كدنا نتمزق من الحنين بعد أن غادرنا العراق عام 1968 حتى إني فكرت بالعودة بعد اسبوع. قلت مع نفسي ليكن مايكون ثم أصبح الأمر عاديا. الآن اختلف الوضع تماما. العالم أصبح قرية صغيرة. قنوات فضائية .. تلفونات. سلع شرقية تغزو أقصى الشمال. سويديون يأكلون الباميا الطازجة. تتتكلم مع صديق لك عبر الهاتف كل يوم وإذ تقابله بعد أشهر في الشارع وجها لوجه لاتشعر أنك فارقته. مستقبلك هنا. استفد من كل لحظة واترك الشرق للشرقيين والعراق لمن بقي هناك. حلال عليهم.

 ثم خرج وتركني مع أكياس البامياء. كنت اسخر في سري من جملته الأخيرة. كل ماقاله صحيح غير أني اكتشفته قبله. دخلت الزمان بالمقلوب وأقسم أن تقرير الطبيب خطأ مائة بالمائة .. في السفينة وسط العتمة قبل حقل التيارات وبعده أكلنا المعلبات. ثلاثة أيام في البحر وسط الظلام .. رائحة الأشنات مسحت عن أنفي عفن الشاحنة وتلاشت رجات عجلاتها بأزيز البحر .. لو جرت الأمور من دون منغصات لوصلنا إلى سواحل السويد بنصف يوم .. المسافة أصبحت ثلاثة ايام. زورق الصيادين يلف ويدور يناور فتطول المسافة من أجل أن نتحاشى خفر السواحل والدوريات. أيام ثلاثة يمكن أن تجري فيها احداث عظيمة مذهلة .. خلالها يحتل العراق الكويت ونحن قابعون في الظلام لانعرف مايجري .. يحدث انقلاب في دولة إفريقية أو تغمر الفيضانات الهند .. يهب إعصار على أمريكا. تاتشر تهاجم الفوكلاند .. مجنون يدمر العالم بقنبلة ذرية وربما ننجو وحدنا فتصبح الأرض بأجمعها ملكا لنا. البامياء .. الحمص .. الفاصولياء تتحكم بالعالم. جميع المضرطات تختلط مع أكبر حدث سياسيّ بقناني البيرة أما هذا الذي يبدو مثل قضيب لم يبلغ حد الانتصاب فالأولى أن تحمله بواخر من أمريكا اللاتينية إلى اليابان فيباع هناك بدولار للإصبع الواحد. كارتل لايستطيع أحد أن يخترقه ، عرفات نفسه مدعوما بالفرقة 17 لم يجرؤ قط على اقتحام عوالم الموز فما علينا إلا أن نشتريه من سوق الجملة الشهير ونبتعد عن وجع الرأس. إعرف حدودك جيدا .. أنا نفسي اشتغلت في ليبيا .. أستطيع أن أهاتف أي صديق ذي نفوذ هناك عن شحنة نفط لكن لِمَ أزج نفسي في قضايا تخص الدول الكبرى .. طائرات .. قواعد .. حروب استعمارية .. النفط. يا أخي بسبب الفاصولياء سُجِنْتُ واتهمت بالعمالة فكيف إذا تحرشت بالبترول؟قشّر البصل والثوم ثم تحمصهما مع ربّ البندورة على نار هادئة بعد ذلك تضيف اللحم ،وفي هذه الساعة يحلم الملك حسين بحكم الجزيرة العربية،ولا أدري بكم سنة حكم على الذي حاول قتل خاله أمام باب المحل الكبير، وقدري أنا أن ألفَّ العالم فآتي السويد أبيع للسويدي شيئا يأكله .. ألم اقل وكنت عندها صادقا مع نفسي أن هناك أحداثا وقعت فعلا كانت وهما وهناك أوهاما حدثت لنا فظننا أنها لم تحدث؟الآخرون يرونني طبيعيا . الطبيب المترجم .. " كوسج البحار" "إعصار السفن" "زيزفون البحر" إلا انا أجد هناك شيئا ما مخفيا فيّ لم يره الآخرون .. كانت الأحداث كلّها التافهة والعظيمة تهجم دفعة واحدة في زمن واحد. فلسطين تدخل في المعجون،وتصبح الكويت حُزمة كبريت. وقد نجا " كوسج البحر" منذ البداية لأنه ابتعد عن الشبكة فسقط الحوت .. علبة معكرونة ينحشر وسطها الاتحاد السوفيتي،أمّا زيزفون البحر فقد زارت المحل قبل أن تصبح خطيبتي مرتين. بيضاء مثيرة ضخمة. رشيقة الساقين دقيقة الخصر .. هكذا حدثتني نظرة اختلستها من فوق الميزان. كانت بالفعل مثيرة .. أضخم من أمها أقرب في الضخامة إلى والدها. مع ذلك لم أزر بيت عمّي قبل الخطبة. كان من الصنف الذي لايجد وقتا للراحة من الفجر إلى الخامسة في المحل التجاري،وحين تدفعه المجاملات للقاء بعض الأصدقاء يفضل دعوتهم خارج البيت. لقد مرّت زيارة " زيزفون البحر" مثل الحلم .. في الوقت الذي كنت لمّا أزل أعاني انقلاب النوم. الليلة ذاتها دعاني السيد " كوسج البحر" إلى العشاء، وربما أكدت لي دعوته تخمينات صديقي " لاحق السراب" في أنه يسعى من طرف خفي لشاب يستحق مصاهرته .. جلسنا في مطعم الزهور الهاديء وبدأ يحسو الجعة .. كان عمره يصغر مع كل كأسٍ يحتسيه يصغر والتعب يتلاشى من عينيه .. فجأة وحين وصل إلى ذروة سكره وتحرر من سعر البقلاوة الغالي وتوابل الدجاج والزعفران الأصفر فاجأني:

- ذات يوم تجد نفسك متعبا فتكتشف أنك شبت فجأة من دون مقدمات سوف يسحرك المستقبل الغريب الذي ينحدر نحوك،ولن تفيق إلا على حطامك !

بلهجة احتجاج إن لم تكن استنكار:

- تخمين أم استنتاج؟

- تجربة .. "وبعد هنيهة صمت"كنت مثلك ثمّ التفت إلى نفسي قبل فوات الأوان وها أنا مليونير وهناك الكثيرون يكرهونني .

- مع أنك لم تسيء إلى أي أحد منهم!

- بل بعضهم لاأعرفه ولاأتخيل وجهه!

- هل تتوقع أني أواجه ماواجهته أنت يوما ما؟

- هذا احتمال وارد لاسيما إذا أصبحت ذا شأن!

- وماذا عليّ أن أفعل؟

- لاتترك مستقبلك يضيع.

 أهي دعوة مبطنة لي .. تحفيز .. تشجيع ليكن كل ذلك فما زالت صورتها مرتسمة في ذهني:

- يضيع وأنا في السويد.

- وهؤلاء الذين ينتحرون هنا حتى يقال إن السويد سجلت أعلى نسبة انتحار في العالم هل هم أجانب لامستقبل لهم إنهم سويديون توفرت لهم كل أسباب الراحة لكنهم ينتحرون!

 يبدو على حق وأظن أنّ المفاجأة أخذتني برشقتها الرقيقة مع صوت الموسيقى الهادئة وجناح الضوء الخافت،فأعيد السؤال بنمط آخر:

- ماذا تقترح عليّ؟

 من دون تردد،كأنّه يخاطب تاجرا أو لعلّه أدرك نقطة ضعفي وربما كان عن حقّ حريصا على مستقبلي:

- تزوّج قبل أن يفوتك القطار!

 كانت الصورة تشغلني ولو مؤقتا عن الزواج واللهاث وراء المستقبل. صحن ذو نقش بديع تتوسطه صورة الخميني وضع في مكان بارز من الفاترينا يستطيع أي ضيف يراه بوضوح. نسيت كل التحف في واجهة العرض الجميلة وأعرضت عن الموشور الزجاجي والديك الصدفي أو قطع المرجان وخناجر العاج .. طقم كؤوس الشاي الذهبية وقوس النصر الفرنسي وقلعة رومانية قديمة:

- إنها فاترينا جميلة ماشاء الله.

 كنت أقول ذلك وعيناي ماتزالان مثبتتان على الصورة .. تحاشيت أن أسأله مباشرة. هي الزيارة الأولى إلى بيته وقضية الخطبة مازالت بعيدة عن ذهني،وكأنه أدرك مايجول بخاطري :

- اتدري ما الذي يعجبني فيه!

 فقاطعت مبتسما:

- ثوريته أهذا مايجول بخاطرك؟

- هذا جانب فكثير من الثوريين متكبرون. إنه تواضعه. تخيل كل هؤلاء الطواغيت والجبابرة يستقبلهم وهو جالس على الأرض .. وفود .. سفراء .. ممثلو الدول العظمى يجلسون جنبه على الحصير هذا هو سبب احترامي له!

 وحواره الهاديء وسلوكه المتواضع في بيت كل مافيه يشير إلى الترف والغنى ويبعث الهيبة في نفسي. اقتنعت أني لم أخرج من زيارته خالي الوفاض. تأكدت أنه ضحية لحسد الآخرين .. وفي اليوم التالي قصدت مكتب صديقي " لاحق السراب" في مبنى البلدية الذي قال إن الشرقيّ يظل يلتبس بعاداته ولو عاش في أرقى بلد. إنهم يبحثون لبناتهم عن عرسان أو يسافرون معهن إلى بلدانهم ليتزوجن هناك، وفسر وجود صورة الإمام الخميني في الفاترينا على أنه مجاملة تدفعه إليها علاقاته الواسعة مع تجار إيران وبزار طهران المعنيين بالمكسِّرات وإن ظن آخرون من ذوي النوايا الخبيثة أنه يجامل زوجته المنحدرة من عائلة شيعية وهي التي لما تنفض يديها من اليسار بعد ثم صحبني إلى مكتب المشرفة التي وجهت إليّ سؤالها التقليدي:

- ماهي أخبار النوم و الصداع ورأسك؟

- مازلت أشعر بخدر في رأسي . بعض الصداع .. لاأحس بالخوف وهنا تبدو لي أمور حدثت وغابت عن حسِّ الآخرين وحوادث أظنها لاتقع فأراها شاخصة أمامي.

فبسطت إليّ يدها برزمة وقال "مثقب السراب "عن لسانها:

- لهذا استدعيتك أخبرك أن البلدية وافقت على صرف مبلغ الفحص .. سوف تصل إليك رسالة من المشفى حول تحديد موعد الاختبار يجب أن نتأكد أولا من سلامة دماغك!

في الطريق يؤكد لي صديقي المترجم دقة الجهاز .. احتمال الخطأ واحد بالعشرة من المليون بل أكثر دقة من مركبة الفضاء التي يطلقونها لتهبط على المريخ أو القمر . يمكن أن يخسروا ملايين الدولارات بسبب غلط أدق من الشعرة .. مبلغ ضخم .. رأسي أو بعضه يساوي 25000 كرونة مثقب السراب يستسرسل في تفاؤله ويدعوني أن أحمد الله لأن الحزب الإشتراكي في سدة الحكم الآن لو كانت الوزارة بيد المحافظين لما تمكنت البلدية من صرف مبلغ ضخم أكتشف به دماغي .. هناك من يعادل رأسي بخمسة وعشرين ألف كرونة ومن لايعير أي اهتمام له بل أنا نفسي لو عُرِض الأمر عليّ في بعض الحالات- ربما هي حالات سخرية لايأس - لما دفعت خمس كرونات، وعمي المرتقب السيد " مرآة البحر .. " كوسج البحر" - سمِّه ماشئت - يقول هذا حزب منافق .. إسألني أنا عن الأحزاب الاشتراكية أحزاب منافقة مداهنة تلهث وراء مصالحها سوف يجبر الغرب السويد يوما على أن تدخل الاتحاد الأوروبي ولن يتردد الحزب الإشتراكي في توقيع المعاهدة وربما تتغير كل خططنا التي وضعناها للاستيراد والتصدير من مصر وإيران ودول الشرق الأوسط.

أتساءل شبه معترض:

- هل تكون الخسارة فادحة؟

- لو كانت محلاتنا في بريطانيا لما حدث أي اختلال أما هنا فسوف يمنحون الأولوية في استيراد الفواكه والخضار لدول الاتحاد الأوروبي شمال المتوسط.

- لاأظن السويديين لديهم الرغبة في الانضمام للاتحاد. السويد دولة محايدة هكذا هي دوما .

- لكن الأوروبيين سيدفعون السويد إن عاجلا أو آجلا كي تنضم للاتحاد .. الحزب الإشتراكي بنظريته الأممية على استعداد لمثل هذا الغزل وأول بوادر هذا الدفع هبوط العملة السويدية إلى مستوى لم يخطر على بال أحد من قبل.

- بريطانيا ذاتها لاتتنازل عن تغيير عملتها فلهم تراثهم وصورة الملكة وتاريخ الباوند.

- أنت غشيم والدليل على أنك غشيم سؤالك عن الموز والبترول وخلطك بين العملة الموحدة والوحدة الأوروبية سوف تثبت الأيام أن أوروبا .. جميعا سوف توحد عملتها أما السويد فتنظم إلى الاتحاد الاوروبي لكنها تظل مثل بريطانيا والدنمارك تحتفظ بعملتها وإلا تبقى وحدها محاصرة من قبل تجمع أوروبي هائل!

الأحداث تختلط بذهني وعمي يتحدث بصراحته المعهودة يتهمني .. غشيم أحتاج معه إلى وقت لأصبح تاجرا. إنس كارتل الموز وشركات البترول .. اشتغل في مكتب كبير للاستيراد والتصدير موظفا بسيطا وبسياسة الخطوة خطوة تنال إعجاب الأمير فتتزوج أخته أو ابنته أبدأ من الصفر. أثبت كفاءتك .. تدرج من حال إلى حال وحين تتمكن من الإمساك باللعبة طلق زوجتك بنت الأمير واقترن بأخرى أوروبية .. وأنا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الحلم. عمي المفترض يدعى بلقب آخر تجار السوق العرب يطلقون عليه لقب" الذئب" وهو يسمي نفسه كوسجا لكنهم في بعض الأحيان يتحايلون عليه .. نعم كوسج البحر. اسم رائع آمل أن يبقى دونما تغيير. سوف يبقى عليه مدى الحياة ومن المحتمل أن أتزوج فأطلق بعد عشرين سنة .. لكن لست قليل الخبرة. قد أبدو مترددا .. نفسه نظام دماغي البيولوجي الذي بدأ في روسيا البيضاء خلال عمليتي الليل والنهار لم يخفف من حدة ترددي ولا من صور الحرب القبيحة التي سطعت بشكل مقرف أمام الطبيب النفساني كيف فاتني أن لم أتردد تلك اللحظة والموت محدق بي والأدهى أني كنت مازلت أحتفظ بالخوف في داخلي؟ أقتحم الموت .. أعانقه وأعجز عن أن امد يدي للدكتاتور .. طبيب الوحدة طمأنني إلى أن اصطدام رأسي لم يكن خطرا .. وعلى الرغم من سطوع المستقبل الماضي الذي عدت إليه لم أجد اسما لهذه الحرب ولا أية حرب هي .. قد تكون العراقية الإيرانيّة أو احتلال الكويت وربما الحرب العالمية الثانيّة لايصلح لها اسم أو عنوان غير الوصف السابق الذي وجدتها عليه فبعدها مباشرة كنت أنجح .. أترك المدرسة .. أنجح في الصف الأول .. ألعب في الشارع .. أخرج من عالم مظلم .. انتقل من صلب إلى آخر .. أرى كلّ العصور .. مع ذلك قطع عليّ استرسالي الطبيب وتحدث بأمر ما مع مرافقي مثقب السراب. قال شيئا مبهما عن النوم،وحين خرجت بادرني مثقب بعبارة ودودة:

- المسألة جدّ بسيطة ماتحدثت به عن نفسك جاء مضطربا نوعا ما بسبب تغير ساعتك البيولوجية سوف تحضر جلسات أخرى قبل أن يقرر الطبيب وصف بعض الحبوب المنومة لك.

- لكنّي أستطيع أن أعيد الحديث نفسه كما تلوته على مسامع الطبيب. كلّ مامرّ بي تماما بالضبط،وذلك يعني أنها ليست هلوسة بسبب تغيّر النوم كما يظنّ الطبيب.

ثمّ هممت - لكي أثبت له أنها ليست أضغاث أحلام تمر لحظة ومن المحال أن ترجع- أن أقول له إنّي علمت عن موته قبلي حيث كان في الخامسة والستين من عمره أي قبل أن يصطدام القطار بخمس سنوات. مات ميتة طبيعيّة في شقته وبعد ثلاثة أيام وجدوه جالسا على الأريكة واضعا رجلا على رجل لكني اشفقت أن أخبره،واحتقرت الشرقيين الذين اتهموه بالعمالة لحكومة السويد والحكومات الشرقية حين اكتشفت من خلال رحلتي أنّه لم يفش سر نومي المعاكس للسيد مظنّة البحر – اسم عمي السابق- إذ أسفت أني لم أغيره في البدء في حين لم أجد أنا نفسي عيبا في ذلك،فقد سألني بعد أن استعدت نومي الطبيعيّ قائلا:

 أنت الآن تشتغل بستة آلاف وتقبض عن ساعات إضافية ماشاء الله فمتى تنوي؟.

- على ماذا؟

- هل نسيت؟

وبمزحة ثقيلة :

- يا صديقي العزيز شيء رائع بنظر المرأة أن يسهر الرجل الليل كله .. شغل طول الليل أنا متأكد .. اللهم إلا إذا جعلك الضوء الساطع في المعسكر تفقد ذكورتك!

استنكرت ساخرا:

- أنا متأكد أني أعاني كثيرا حين أنهض من النوم على الرغم من تناولي حبتي منوم! "وعقبت ضاحكا":صدقني إنه يستيقظ قبلي متوترا كل صباح حتى يكاد ينقطع!

- بعيدا عن النكتة والمرح أذكرك أنّ صديقي صاحبك في العمل محتار في أمر ابنته يودّ لو تزوجت من شاب عراقي اليوم قبل الغد.

- محتار؟ هذا هراء الرجل علماني صرف لايهمّه الدين ولايدخل في تفصيلاته ياأخي لايريد أن يدوّخ رأسه.

- أرأيت جواز سفري؟إنّه سويدي. أنا سويديّ على الورق. هو مثلي علماني على الورق مشغول بابنته وكيف يزوّجها من عراقيّ وأزيدك علما عراقيّ مسلم!

- معقول.

- كما أقول لك؟

- كيف عرفت.

جمعتني وإيّاه جلسة سكر. من عادته ألاّ يفقد توازنه لكنّه في ليلة ما تأثر كثيرا من خبر سمعه عن صديق آثوري في أمريكا. كان معه في خلية واحدة إلا أن الآخر هاجر إلى أمريكا بعد مجازر 1963 وعندما كبرت أبنته بدأت تجلب عشيقها إلى المنزل والأب ينزف ألما فشنق نفسه.

- مسيحي؟معقول؟

فقال ساخرا بمرارة:

- أهو إسكندنافي ؟مجرّد عراقي آثوري من المجتمع ذاته الذي جئنا منه " لاحت ابتسامة مرة على شفتيه" تخيل ما الذي يفعله أي واحد منا لو جاءت ابنته متأبطة ذراع شاب سويدي ليقضيا الليلة في غرفتها مهما كان الأب متسامحا أو صارما ذا نفوذ على الفتاة فإن مكالمة قصيرة إلى الى ابوليس تقلب الدنيا على رأسه ..

- هذا خلاصة ماتراه؟

 أضاف مؤكّدا بحماس مفرط:ً

- لولا فارق السن لتقدمت لها .. ثروة وجمال.

لكن ماذا قال لك بالضبط:

- ليس بصورة مباشرة بل كان يذكر أنّ مستقبل ابنته يؤرقه فالمفاسد هنا كثيرة، نحن الرجال نتهافت على النساء الأوربيات ثم نفكر بالزواج من شرقيات مهما يكن من أمر فمازلنا خاضعين لعادات موروثة سلفا ،وأكد أنّه -يفكر بتزويج ابنته من عراقي ابن بيئتنا أو عربي مسلم على الأقل.

لذت بالصمت فعقب :

أتصدق أنه راح يبكي بحرقة،للمرة الأولى أراه ضعيفا متهدما منهزما .. تلك الأنفة .. الجبروت!

بدأت أقتنع بكلام صديقي مثقب السراب. ثروة وجمال أو جمال وثروة فهذه أمور يمكن قلبها من دون مغامرة كما أفعل في رحلتي العجيبة. لايهمّ عمي أن تكمل ابنته تعليمها يسخر من نفسه ليضرب لنا به مثلا ماذا ربحنا من الشهادات العليا. دراسة طويلة .. سهر ليال .. أخيرا نبيع الفاصولياء في السويد. يكفي أنّها تتكلم السويدية والأسبانية والإنكليزيّة. كأنّ ليلة القدر انتفحت بخيراتها الموعودة أمامي .. ربّما حسدني الشرقيون لأنّ هذه العائلة الغنية المثقفة قبلتني وسوف يخرج من صلبي الوريث الوحيد لعمّي المليونير .. قد لاأستثني من زوبعة الحسد هذه صديقي مثقب السراب نفسه الذي لابد أن يكون من هذه الصفقة في عداد الرابحين!.

حين خطبت انفتح بيت عمّي أمامي. بعض الخصوصيات سقطت. الرجل المتفتح اليساريّ الدكتور المثقف طبع شخصيته القويّة في كلّ زاوية من البيت. لم يبخل على ابنته بأيّ مال تطلبه. بدلات .. سفر .. حساب في البنك .. ترك لها حريّة التحرك لكنه حولها إلى دمية شبيهة به. كان يخشى عليها فتركها حرة تخرج متى تشاء تحت رقابته في الوقت نفسه تحوّل أثاث البيت ومشتملاته كلها إلى بصمات يرسمها عمي فلم تعد زوجته أو ابنته تختلفان عن أيّة قطعة في المنزل.

كان يخشى من الانزلاق والجنوح فأغدق عليها الحنان والمال إلى أن جئت أنا فوجدتها باردة لكنّي كنت منفذا وحيدا لها للهرب من واقع قد تكون انتبهت له متأخرة. كنت أشبه بالمرآة التي أبصرت فيها نفسها على حقيقتها. قلت لصديقي "لاحق السراب" إنّ عمّي منافق ترك لها حريّة التصرف لكي لايتهم بأنّه رجعي وفرض عليها تعاليمه الصارمة في البيت. دكتاتور مثل دكتاتور سعيت لمصافحته ذات يوم فترددت جبنت رغم شجاعتي الخارقة ثم صافحت دكتاتورا آخر كان يجد فيّ وفي ابنته وجه حفيد أو أحفاد يطلق على أي واحد منهم اسمه فلاتضيع ثروته الهائلة .. والأدهى أنه لايريد لابنته أن تجلب كل يوم سويديا إلى البيت فيسمع من الغرفة المجاورة لهاثهما .. وقد نسيت أنّ من ذلك السياسي الداهية أن يرتب العالم وفق هواه مثلما أغيّر عن عمد أسماء العالم. صديقي وضع لومه في جعبتي. وجدته ينقلب عليّ. حين زرته آخر يوم حدثت فيه المشكلة .. رأيته يتأفف. أراد لي الخير كما يدّعي فأصبح واسطة بيني وبين عائلة خطيبتي،أحرجته فانفجر بي:

- أنت تعجلت وفضحت نفسك. أحرجت عمك. هناك استثنآت في أوروبا!

- كانت مرتبكة إلى حد ما مما زاد في شكوكي فلم توضح لي الأمر!

- هل تركت لها مجالا لتوضح لك جلية الأمر ثم ماذا تقول؟ هذا ممنوع. القانون لايسمح بذلك. كيف تقول لك بحضور معوق إنها تعمل مع ذي احتياجات خاصة!

لِمَ تتجاهل بل تنسى .. أنت بعيون الآخرين لاغبار عليك وإن كنت تحس أن هناك شيئا ما في رأسك يثقل عليك .. كيف فاتك ذلك:

- ألم يكن كافيا أن أراها تتأبط ذراعه؟ماذا تريد أكثر من ذلك فلم أكن أعرف أن هناك معوقين يبدون طبيعيين مثلنا نحن الأسوياء قط؟

- لعلّها صورة تخيلتها فأنت لم تشف تماما مماكنت تعانيه من نوم في النهار بعد" وأضاف مغتنما لحظة سكوتي" بل إني أتوقع أنّ المشرفة الاجتماعية بدأت تشك في كل كلمة تقولها عن المستقبل والماضي فتظنّ إما أنّك تهذي بأمور من المحال تحقيقها أو تدعي الجنون.

- كلنا كذبنا هناك من ادعوا أنهم عراقيون وماهم بعراقيين من أجل أن يحصلوا على لجوء في السويد وهناك من العرب من فرّ من بلده لأنّه لم يدفع قائمة الكهرباء فأصبح مناضلا في بلدان تمنح اللجوء فلِمَ يتحول ما أقوله من وقائع عشتها إلى مجرّد أوهام لاتمت إلى الواقع بصلة؟

غريب أمر بعض المحيطين بي ممن وثقت بهم .. مثقب السراب .. زيزفون البحر .. ظنون الساحل في رحلتي الأولى من الولادة إلى الموت فاضوا طيبة كانت البراءة تلوح على وجوههم ثم حين عبرت من الأعلى من الموت إلى نقطة الصفر - الولادة - وجدتهم تغيّروا. لم يكونوا هم قط. برأي صديقي" مثقب السراب ": إني أتوهم أشياء لاوجود لها،وعمي الذي لم أسمعه يذكر اسم الله صدمني في رحلتي الثانية بفقه المغتربين. أما عمتي الساكنة ذات العينين الشاردتين اللتيين حدتا بي إلى أن أغيّر اسمها إلى البحيرة الهادئة فقد هتفت بي بصوت يكاد لايبين :

ماكان عليك أن تضربها أليس لها أمّ أم ليس لها أب؟

تفتت أقوالي أمام الجميع . تهاوت. كأنّ ذلك كان حلما تناثر في فضاء بعيد عنّي كما لوكنت لم أمر بدولة قلبت ساعة رأسي. أو لم ألتق بعمي في رحلتي الأولى فاراه في المحلّ ديمقراطيا يساريا لايؤمن بالخرافة والدين ولأجده رجلا يبحث عن حيلة شرعيّة تخرج ابنته من مأزق وفضيحة سوف تتحدث عنها الصحف فيشمت به من اتهموه من رفاق الأمس بالعمالة لنظام الدكتاتور !

- هناك أشياء يجب ألا تقال فيما يخصني أنا في قسم العمل ثمّ خصوصيّة الآخرين أما أنت فقد يتخذها الآخرون نقطة ضعف ضدك في يوم ما.

- والغريب في الأمر إنَّه عفا عني ونصحني بعدم التسرع في معالجة الأمر.

- عمك داهية لو شجب تصرفك في اليوم نفسه لأصبحتم أنتم الثلاثة محورا لوسائل الإعلام.

أما "كوسج البحر" الذي بدا أكثر اتزانا من أي شخص فقد قال بابتسامة ذات مغزى وهو يصحبني من التوقيف بسيارته:

- ألم أقل إنك غشيم. غشيم في الاقتصاد وفي الحب. بعد ساعة اتصل بها وادعها إلى وليمة غداء في أحد المطاعم في المنطقة ذاتها التي تهورت فيها. لاتأتي غدا إلى الشغل اعتبره يوم إجازة وتمتع بعطلة مع خطيبتك؟

- وهل تقبل ؟

- سوف أمهد لك الطريق المهم كن رجلا واجعل لسانك يحل محلّ كفك الآن .. الآن فقط إن كان ولابد!!

في اليوم التالي كان لي معها آخر لقاء. جلسنا في الكافتريا متقابلين. لاأدري لم اخترت المكان فهناك محلات ومطاعم كثيرة غير " حورية البحر" تقع على مرمى من حادث الأمس لكنها لا تحمل أسماء الماء ولم أجد الوقت الكافي لأغيرها بعد. وجوه المارة نفسها .. عمال المحلات .. أصحاب الأكشاك .. موظفو البلدية ... لعل فيهم من شهد حادث الأمس لكني متأكد من أن هؤلاء نسوا وجهي تماما لم يعد أي منهم يتذكر .. حادثة عابرة انتهت قبل أن تلتفت إليها الصحافة ووسائل الإعلام وكان عمي أكثر المغتربين حذرا وتحفظا بدا كمن يقف على بحيرة سقط فيها حجر ما فشوه وجهه فما كان عليه إلا أن ينتظر الدوائر تتلاشى فيهدأ الماء"كوسج البحر" آخر الاسماء التي اخترتها له لن أغيرها قط أو أختصرها بتسمية واحدة. حتى أنا سوف أختص باسم واحد لاأبدِّله وسوف أصبح مثل أي ملياردير في يوم ما . يبدو أن عمي نجح في مهمته تماما:

- أنا أعتذر

جاء صوتها ثقيلا مثل الرصاص:

- نعم هل من شيء؟

- آسف جدا وسأظل نادما طول حياتي!

- ماشي الحال.

كنت أشعر بالخجل والتضاؤل وأنا أرى رقعة حمراء تلوح على صفحة خدها اليمنى. رقعة ذكرتني بقوة يدي وحادث الأمس:

- أنا آسف عما حدث بالأمس.

لاذت بالصمت وتطلعت في المنضدة والكاسات الفارغة:

- هذا يدل على غيرتي عليك وحبي.

رفعت يدها عن الطاولة وعبثت لحظات بأظافرها المصقولة بحمرة خفيفة:

- إنس الموضوع!

خيل إلي أن صوتها أكثر تاثرا وأرقة إذ لم تجبني يوم أمس عبر الهاتف إلا بكلمة نعم،فقد دأت بالاعتذار وتحججت أني أرغب لقاءها لأني سمعت من عمي أنها ستسافر خارج السويد وها أنا أسترسل من جديد:

- على أية حال أنا أكرر أسفي.

- إنس الأمر.

- مع ذلك أقول لك هذه طبيعة الرجل الشرقي.

مددت يدي أتحسس أناملها المتشابكة واستدركت:

- لكني أعدك أن لن أكرر ماحدث.

دقائق بقيت يدي تفرك أناملها ثم سحبت يدها برفق:

- قلت لك إنس الأمر!

- سأحاول. اعترف أني كنت متسرعا في سلوكي!

بقيت صامتة تتطلع فيّ تارة وأخرى إلى المنضدة:

- كم تبقين في طهران

- شهر تقريبا أتابع مع شركاء بابا الحسابات الخاصة بصادرات شحنات المكسرات إنه نوع من التمرين!

- اعتقد أن عملك خاص بالحسابات!

- ساحأول أن أدرس بعض كورسات المحاسبة هنا في السويد بعد عودتي ثم أنصرف لحسابات محلاتنا أتعرف كم يدفع بابا للمحاسب هنا كي يرتب له مجمل الضرائب وقضايا الاستيراد والتصدير وإعفاءات الرسوم يمكن أن أدير كل ذلك بنفسي من دون الحاجة إلى الآخرين!

وأنا هل أبقى عاملا أراقب المواد أصف على الرفوف وأزن أو ألف على السوق أرى أسعار المحلات السويدية لكن الحديث عن العمل والسفر يغطي على ماحدث بالأمس فقد ألفّت جملا ومواضيع في ذهني لهذا اللقاء غير أنها اختفت من ذاكرتي تماما:

- وهل تكتبين إلي!

صمت مرة اخرى. عيناها تزوغان تتحاشيان نظراتي،وفجأة أرسم لها صورة أخرى:

- لاتنسي أن تبعثي لي صورة من هناك وأنت بالحجاب!

 

د. قصي الشيخ عسكر

....................

حلقة من رواية زيزفون البحر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم