صحيفة المثقف

نحو إنصهارِنا في بوتقة التوحيد

في موسم الحج؛ كنتُ قد جلبتُ معي الى مكة المكرمة، نسخاً من الصحيفة السجادية؛ كانت بطبعة أنيقة، بقصد إهدائها الى بعض صديقاتي العراقيات المغتربات اللائي ألتقيهن في مكة المكرمة، وكذلك صديقاتي السعوديات اللائي تربطني بهن علاقة سابقة؛ غير أن السعوديات استأثرن بالنسخ التي بحوزتي ولم يبقَ منها شيءٌ للعراقيات، وحتى لم أبقِ نسخة ًلي منها. التقيت صديقاتي السعوديات في مخيم في منى؛

احداهن كانت تعمل داعية إسلامية في جنوب أفريقيا كما أخبرتني، رأيتها متزمّتة جداً. أهديتُها نسخةً من الصحيفة السجادية، بعد أن كتبتُ عليها إهداءً لها. دار حوار بيني وبينها؛ وهذا نص الحوار أذكره حرفيا:

ألقت عليّ سؤالاً، هو: ماهذا الكتاب؟

أجبتها: هو كتاب "الصحيفة السجادية" يضم أدعية الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب زوج فاطمة الزهراء بنت رسول الله(ص).

قالت: يعني انتم الشيعة تدعون بأدعيته؟

قلت: نعم، ولِمَ لا؟

قالت: نحن لاندعو الاّ بالأدعية التي وردت في السنة الشريفة، وأدعية السنة الشريفة قصيرة، وأنتم تقرؤون أدعية طويلة. لكنّي أقدّٰرُ الكتاب كونه هديةً منك، وانت أخت عزيزة، ولأجل عينيك سأطّلع عليه، وقد اختصرتِ الحاجز بيني وبينك.

أجبتها: شكرا لك، وكيف يكون الحاجز بيني وبينك ونحن تحت خيمة وحّدتنا تحت راية (لاإله الا الله).

كيفما يكون الدعاء سواء كان صادرا من النبي، أو من الأئمة، أو من الصحابة، أو من أي أحد، أو حتى الدعاء العفوي مني ومنك فهو يصعد لله (واذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي اذا دعانِ). فالدعاء ليس نصا قرآنيا حتى نلتزم بحرفيته.

قالت: اذا كنتِ هكذا؛ اذن فلديّ سؤال حسّاس، هو: أرجو أن توضّحي لي الفرق بيني وبينك كوني على المذهب السني وأنتِ على المذهب الشيعي.

أجبتها: أنت تعملين داعيةً للإسلام، والاسلام دين يستوعب اختلاف الناس. هذا السؤال من غير الصحيح طرحه في هذا المكان الخاص، ومردود عليك بجملته وتفصيله، ولاأجيبك عليه ونحن  تحت خيمة منى في موسم الحج، والسبب؛

هل علمتِ أن الحج توحيدي محض، ابراهيمي محض، لا محمدي، ولاعلوي، ولاصديقي، ولاعمري، ولاعثماني. أوضح لك كيف هو توحيدي ابراهيمي؛

النبي ابراهيم (ع) حسب ما تتحدث عنه كتب التاريخ، حين غادر مدينته الأولى (أور) بعد يأسه من قومه الذين مكثوا وعاندوا وأصروا على عبادة  الأصنام، بصحبة ابن أخيه النبي لوط (ع) فقط، باتجاه (حاران) داعيا لدين التوحيد، واستمر في رحلته الشاقة يجوب الصحاري داعيا لله، وقصته طويلة لا أريد تفصيلها لأن تتطلب مني البحث، ووصل الى مكة بألفي مؤمن بدينه. حينئذ أقام قواعد البيت. يعني النبي ابراهيم استغرقت رحلته سنوات عديدة استنزفت قواه الجسدية والعصبية داعيا لله، موحدا إياه، مصرفا أنظار الناس عن عبادة الأصنام والآلهة البشرية، فاستطاع بشقّ النفس أن يجمع هذا العدد من الناس، ووحّدهم، في هذا المكان، فانسلخت كل اختلافات البشر في بؤرة التوحيد، لذا فمن العيب أن نبحث ونحن في هذا المكان المقدس الذي وحّدنا فيه النبي ابراهيم (ع)، عن اختلافاتنا. فالحج ابراهيمي لانرى فيه أي أثر لأحد لا للرسول، ولا للصحابة، سوى لبطل التوحيد ابراهيم، ومرافقيْه المخلصيْن هاجر واسماعيل.

أجابت صديقتي: بارك الله فيك  يا أختي،

ثم أردفتني بسؤال: اذن اذا كان جوابك هو هذا، فلماذا اذن لا تفكرين بالعدول عن مذهبك الى المذهب السني؟

أجبتها: اذن أنت لم تفهمي جوابي، حين أفصحتُ لك أن اختلافنا قد انصهر في بوتقة التوحيد، فديننا واحد، وربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة.

هذا السؤال لو كنا خارج المكان والزمان لأجبتك عليه، ولأطرحه عليك بالمثل وأغيّر نظرتك تماما، وحتى لاتلقينه على غيري بعدها، لكن من العيب وأنت داعية للاسلام تلقينه عليّ ونحن في زمان ومكان فريضة مقدسة اختزلت كل ألوان وأصناف ومشارب الناس.

أجابتني بالحرف الواحد: أنت خير داعية للاسلام النقي الصحيح.

أجبتها: شكرا لك.

بعدها استفهمتني إحدى الصديقات السعوديات، عن السجال، وأخبرتها، فضحكت، وقالت: جوابك هذا والله صاعقة وقعت على السنة والشيعة وغيرهم على حد سواء.

نقول: من الإنصاف لبعض الناس أن نتحدث عن شمائلهم. لله أقولها، التقيتُ برفقة زوجي في رحلة الحج؛ بعض الأخوة والاخوات من  السنة مثقفين ومثقفات في مكة المكرمة؛ فلم نرَ منهم التعصب الشديد للمذهب، وكانوا يستبطنون حبا للرسول ولأهل البيت والصحابة كما نحن. ليس كل الناس متساوين. الذين التقيناهم كانوا مترفعين لا يذكرون الاختلاف والخلاف بين المذاهب الاسلامية. كلما ارتقى سقف الناس الثقافي كلما تلاشى لديهم التعصب الطائفي والعنصري والفئوي. فعلا العلم والثقافة والوعي الناضج هي أهم العوامل التي توجّه أفكار الناس لاختيار المسارات الصحيحة وتجعلهم يطوون صفحة الاختلاف والتخاصم ، وتوحّد وجهات أنظارهم في القضايا الحساسة.

السنة المحبون لأهل البيت أناس مسالمون ودافئون جدا حسب مارأيناهم. هم المحبون المخلصون لعلي، يحبونه كما يحبون سائر صحابة الرسول، والذين حادوا عن خط علي وأهل البيت(ع)؛ والصحابة المخلصين هم بائعو الآخرة بالدنيا وعبدة المال والسلطان والجاه، وهم موجودون في كل المذاهب والأديان بصور مختلفة، وليس بالضرورة في دين ومذهب بعينهما؛ وشواهدنا كثيرة. فالتسنن والتشيع ليسا أقوالا؛ بل أفعال أيضا. الأخوة الذين التقيناهم توطّدت بيننا وبينهم العلاقات والتواصل، فالتواصل مستمر مع بعضهم لهذا اليوم.

المحب لأئمة أهل البيت، عليه أولاً اقتفاء آثارهم ومبادئهم في حياته، فالحب هو الطاعة والامتثال والاقتداء، و(إن المحب لمن أحب مطيع)، ويخاف الله في إلحاق الأذى بالناس، بإسمهم. من ينزع مبادئهم من روحه فليس بمحب ولامقتدٍ ولامتشيع.

والمحب للصحابة أيضا عليه أن يخاف الله، ويخشاه في دماء الناس وأعراضهم. ليكن لديه الإلتزام بمبادئ الصحابة المخلصين لدين الله ولرسوله على رأس الأولويات.

الانتماء للمذهب ليس شعارات فقط، الشعارات بالونات منفوخة فارغة، منها مللنا وأُرهقنا ولم  تقدم لنا شيئا.

المجتمع البشري في أول نشوئه كان واحدا. لم يكن الإختلاف قائما فيه لعدم ضرورته بسبب صغر المجتمع؛ فالمجتمع الصغير تضيق فيه الاختلافات. صرح الله ذلك بالآية الكريمة عن هذه الحالة ((كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ومااختلف فيه الاّ من بعد ماجاءتهم البينات بغيا بينهم).

كلما اتسع المجتمع وتفرع فإن الإختلاف يكون ضروريا حتميا . خُلقنا مختلفين نحن البشر والإختلاف علة الخلق (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين. الا من رحم ربك ولذلك خلقهم). الاختلاف طبيعي بيننا، ونطقت به الأديان. الإختلاف بالأديان، والألوان، واللغات، والأفكار، وطبيعة الحياة، وسلوك وعادات وقيم وأخلاق وتطلعات وعلوم وثقافات الناس. بالإختلاف تغتني الحياة، حيث تتلاقح الأفكار وتُكتَسب العلوم وتتلاقح التجارب والنتائج التي تولد نتيجة كل ذلك يعود بالخير والنفع على البشرية جمعاء، فيما لو أحسن الناس الإستفادة من النتائج. أما إذا أساءوا الاختيار فستعود بالشر والدمار عليهم. مشكلة الناس يخافون الإختلاف لأنهم ابتعدوا كثيرا عن الله، فالله أورد الإختلاف في الكتب السماوية. فبإسم الله الذي أوجد الإختلاف وأقرّ به تقاتل وتحارب الناس، وأفصحوا أن سبب خلافهم الأديان، وهم غافلون عن حقيقة أن الأديان أقرّت باختلافهم.

إحدى  صور الإختلاف هو الإختلاف الديني الذي هو أخطر أنواع الإختلاف. وفي داخل الأديان أيضا يتجسد الإختلاف. كل دين مقسم الى فرقٍ ومذاهبَ. ديننا انقسم وتمزّق فرقاً ومذاهبَ، كما نال التمزق أهل المذهب الواحد. الشيعة منقسمون والسنة منقسمون، وكل فئة منهم لاتجتمع على وحدة الكلمة والقضية، وكل منهم يدّعي أنه شعب الله المختار، وكل فرقة تدّعي العصمة لها وهي (الفرقة الناجية). لانتوهم بوجود (فرقة  ناجية) تؤوينا وتقودنا للجنة، فالذي يؤمن بذلك واهمٌ يخدّر نفسه به حتى لو اقترف أطنانا من الأخطاء، والشواهد كثيرة أمامنا. الناس واثقون جدا من أنفسهم، فقد وضعوها بمنزلة الله جل وعلا، ويقسّمون الجنة والنار مجانا وكأن الله أنزل اليهم حق تقييم الآخرين من السماء.

ماحل ّبالجسد الإسلامي،عارٌ على جميع المسلمين بلا استثناء.

لنكن منصفين قليلا مع القرآن وهو كتاب الله الناطق بالحق، حين قال (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولم يقل إن أكرمكم من كان على الملة أو الفرقة الفلانية، وغير ذلك. تقوى الله ومخافته في السر والعلن هي المنجية وغيرها لا (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه)، فالدين هو حب الناس كيفما كانت اتجاهاتهم؛ والعمل لخدمتهم هو المزكي لكل مسلم لافرق، وليس التحزب للمذهب، أوللطائفة، أوللفرقة و(المسلم  من سلم المسلمون من لسانه ويده) و(كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه).

كما يوجد تمزق في الجسد الاسلامي كذلك هو موجود في أجساد الأديان الأخرى.  الإمام علي (ع) يوصينا باستيعاب الاختلاف بقوله (الناس صنفان، فأما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

الله خالقنا ونحن ننتمي اليه أولاً، وحبه هو المشكاة التي ينبثق منها شعاع حبنا لبعضنا وللناس أجمعين على اعتبارين هما الأهم؛ انتماؤنا لله الخالق أولا، ومبدأ الانسانية ثانيا؛ والمستثنوْن هنا هم أهل الشر الذين يستبطنون العنف والفتك بالحياة، وهم يجب ردعهم بقوة وتأديبهم وعقوبتهم، هذه قضية منتهون منها. فنحن (عيال الله) وهوأرحم بعياله من غيره (الخلق كلهم عيال الله فأحبّهم الى الله عزوجل أنفعهم لعياله)- الرسول(ص) .

يجب أن نفهم التعددية، والاختلاف، والخلاف، ونراعي أصوله ونتحاور معا على أساس مبدأ الإنتماء لله أولا، ومبدأ الإنسانية ثانيا؛ لنصل الى نقطة هضمه وتجاوزه. ويتقبل أحدنا الآخر، وأن نتحلى بالوسطية والاعتدال في كل افعالنا، مع ترك مسافة للحرية الشخصية لكل واحد من دون أن تمس خصوصيته؛ فحريتك تنتهي من حيث تبدأ حرية الآخر. حينئذ يعيش الناس بسلام ومحبة وسكينة وتسالم ووئام وتسامح وود وصفاء (انما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم).

حب الناس يبعث الراحة في النفس وينأى بها عن العنف، أما الكراهية فتثير مشاعر الغضب وتؤدي الى اقتراف صور مختلفة للعنف والفتك بالآخرين.

الاختلاف مزّق وطننا الذي مزّقته الحروب. خشبة الخلاص هي تحرير أفكارنا كلنا نحن العراقيين بالذات أولا، من الاختلافات والتعصبات الدينية

والمذهبية والعرقية. الوحدة أهم العوامل لنهضة الشعوب وبناء الأوطان. ونحن بأمس الحاجة لها في الظروف العسيرة التي يمر به وطننا.

بالمحبة والألفة وتوحيد وجهات النظر ونبذ العنف بكل أنواعه، ورفع شعار وحدة الوطن نظريا وعمليا، هو على رأس الأولويات للنهوض به وانقاذه من مستنقع التيه والضياع؛ نريد عملا جادا خالصا، يوحّد كلمتنا ويوجّه انظارنا للقضايا المصيرية، على رأسها خدمة الوطن والعمل والتعاون معا لانتشاله من واديه المظلم؛ يحدونا الأمل.

لم نجد أبلغ ما يعبّر عن أمانينا هو هذه اللائحة المعبرة لإبن عربي:

لقد كنتُ قبل اليوم أنكرُ صاحبي          إذا لم يكن ديني الى دينِه دانٍ

فقد صار قلبي قابلاً كلَ صورةٍ           فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ

وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ               وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ

أدينُ بدينِ الحبِ أنّى توجّهت ركائبُه    فالحب ديني وإيماني

 

بقلم: انتزال الجبوري

سكرتيرة تحرير مجلة قضايا اسلامية معاصرة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم