صحيفة المثقف

ذئب البحر

قصي الشيخ عسكرابتسمت .. للمرة الأولى أراها تبتسم بعد الحادث:

- ربما يكفيني هناك أقل من شهر لأسافر بعدها إلى القاهرة!

فتطلعت في عينيها الشاردتين ومددت يدي أعبث ثانية بأصابعها .. يترآى لي أن أدعوها إلى محل سكني .. كانت تجلس في موضع يقابلني تحت سمع أمي وبصرها .. لم أر دقة ساقيها فقد ارتدت سروالا طويلا .. عيناها جميلتان خصرها دقيق وشال يغطي شعرها .. ابتعدت كثيرا عن ذكر الموت وبدوت متفائلا أعدها بزيارة قادمة .. إجازة أخرى ومددت يدي إلى كفها وملت عليها وفي نفسي رغبة ازدادت كضراوة الحرب ثم سمعت خطوات أمي فابتعدت .. هذا الجمال البض .. العينان الواسعتان .. الساقان المتناسقتان .. البياض .. رغبة .. فأحس أن السيد " ذئب البحر" هو الحاضر الغائب معي وصديقي مثقب السراب يقول مادمت قد خطبت والتزمت فلا فتيات يدخلن في الشقة ولانية لي في أن أفعل ذلك .. لم لاأستغني عن شقتي .. يفكر في أن يقترح على عمي أن يقبلني اسكن في مشتمل صغير يكاد يكون أشبه بالبانسيون في محل محله الكبير إلى أن يتم الزواج سأضرب عصفورين بحجر واحد .. أوفر مبلغ 1800كرونة في جيبي في الوقت نفسه تكون عيني على المحل من لصوص الليل :

- نفسي أزور مصر أشبع من شمس الإسكندرية .. أظنك زرتها من قبل.

- العام الماضي أنا وماما وقبل ثلاثة اعوام كنا هناك!

 قد تشير إلى العلاقة الأولى .. الشاب العراقي .. زير النساء والإعجاب .. يستقبلها البحر فتنسى .. الحب الأول .. المراهقة .. عريتها على الساحل أو كدت .. كنت أراها بمايوه السباحة تعبث بالرمل أو تنط في الماء .. ترحل .. تسافر .. من أمريكا إلى اسبانيا بشلال من النقود منبعه الخضار والحبوب .. الرز .. العدس .. الزيت .. وقعت .. عثرت على كنز كما يقول " مثقب السراب" فهل أقدر التشبث به .. عمي مليونير .. يمكن أن أتعلم منه الكثير أنسى أني فقدت كالطفل أو المعتوه عامل الخوف فأتلهى طول اليوم بفستق مستورد من إيران .. وملوخية دافئة من مصر كل شيء يمكن أن يجلبه " كوسج البحر" أ ويصدره إلى أية دولة إلا الموز والنفط .. غشيم .. يضحك من سذاجتي ويدعي أن عرفات نفسه بعظمته وقوة الفرقة 17 لم يستطع اختراق مافيات الموز. رحم الله امرءا عرف حده فوقف عنده ويضيف كأنه يحذرني أن علاقة حميمة تربطه بمدير شركة النفط الليبية لكنه يلعب ألف لعبة تمويه ليصدر المواد الغذائية والخضار من إيران وإسبانيا وإيطاليا إلى طرابلس ولا يفكر بتسويق النفط منها إلى السويد .. كارتل لايقدر على مناطحته " ذئب البحر" يعرف حدوده جيدا هو من أجل الفاصولياء والبزاليا والحمص اتهم بالتجسس فكيف إذا اقتحم ميدان النفط والموز .. في حين كان صديقي لاحق يلهث وهو يهم بجمع هيكل كردستان قطعة قطعة قبل أن يقدم إلى السويد .. عمي هبرة رائعة كنز موعود ماعلي إلا أن أطيعه .. أتحرك وفق إشارته .. وأتبع أسلوبه .. موعود أن أصبح ملياردير بعد سنوات وموعود بالجنسية السويدية .. كل دول أوروبا والدول العربية أدخلها من دون الحاجة إلى تأشيرة دخول .. سبع سنوات .. مت ياحمار حتى مجيء الربيع.والحق إني شعرت بنوع من الفراغ .. أمور غير طبيعية تجري .. الساعة البايولوجية عادت من جديد فاحتل الليل النهار والنهار الليل. قلت لصديقي منثقب السراب أو لاحقه::

- أنظر ها أنا لااستطيع النوم في الليل.

- هذا يدل على أنك عاشق .. تفكر .. الحب.

- أخشى أن تكون انتكاسة فالطبيب صادق على مرض كثير من الأصحاء الذين أتقنوا فن التمثيل أما أنا فأقسم لك أني أشعر بشيء غير طبيعي .. لا أخاف من أي خطر وأرتعب من النوم في الليل .. أخاف .

- يا أخي والله اتعبتني وأتعبت الطبيب ونفسك!

مثقب السراب أو "لاحق السراب"صديقي العزيز لايصدقني. يعدُني أبالغ .. وساوس قد تكون حقيقة .. في الجيش ظننا أنهم يخلطون في طعامنا الكافور لئلا نتهيج فننشغل عن الحرب بفحولتنا أو نضطر للواط فماذا وضع لنا الحراس العمالقة في معسكر منسك لنبدو بعد شهر بلداء.يقولون : كيف يعيش رائد الفضاء في ظلام دامس ستة أشهر قبل أن يهبط إلى الأرض فأصبح وحدي عرضة لحلول النهار بدل الليل؟كنت في طريقي من محلات عمي الموعود السيد" كوسج البحر" إلى البيت حين رأيته أمس من خلف الزجاج في " حورية البحر" جالسا أمام الطاولة التي تقابلنا عندها قبل أن تسافر. كان يحتسي القهوة بكل هدوء ويتأمل في المارة. ليلتها لم أستطع النوم .. تقلبت في الفراش وضعت قدمي في ماء ساخن مدة مع ذلك لم أنم.بحثت عبثا في جيوبي وفي الرفوف لعلني أجد حبة منوم من بقايا الحبوب التي وصفها لي الإخصائي .. وعندما ذهبت إلى العمل شعرت أن النهار يدعوني للنوم .. كانت الملوخية والفاصولياء والحمص والفستق تمر من امامي فأكرع فناجين القهوة وأتبعها بعينين مرهقتين .. عمي مثل صديقي يظنني عاشقا:

- منذ سافرت خطيبتك وأنت غير طبيعي هل عرفت قدرها الآن؟

- على فكرة ألم تتصل بكم؟

- البارحة حاولنا لكن خطوط الهاتف مشغولة غير أن مكتبنا في طهران بعث فاكسا على هاتف البيت يقول إنها وصلت بالسلامة وسأعاود الاتصال الليلة عبر الهاتف لعل الحظ يحالفنا!

- طيب بلِّغها سلامي!

وعندما اختفى النهار عاد الارق من جديد .. تاكدت من أن الزمن معي رجع لسيرته الأولى.لعبة النهار والليل. لوكنت في شمال الأرض لصحوت الشتاء وغفوت الصيف.أضع رجلي في ماء ساخن وأحاول النوم من غير حبة .. قرار الطبيب لارجعة فيه أنا برأيه صاح .. طبيعي .. تجردي عن الخوف نوع من المقاومة للمجتمع الجديد .. كنت أحلم بالسويد في منسك لم أستطع أن أهرب من المعسكر إلا بالتجاهل خيل إلي أني تبلدت ثم اقتنعت بالفكرة .. كلنا تبلدنا ولم نعد نبالي بالحياة والموت!

- دكتور ماذا تقول في الشخص الذي اعترض بالروسية أكثر من مرة!

- شخص عاش فترة طويلة في شرق أوروبا وتكيف منذ زمن مع الحالة الجديدة فمعايشته لحالة أخرى ثالثة في مجتمع قريب من المجتمع الروسي ومجتمعات أوروبا الشرقية لم تدفعه إلى عالمه الداخلي فترة من أجل أن يستعيد توازنه!أنت الآن لو عشت في السويد سنوات ثم رحلت الولايات المتحدة الأمريكية أو البرازيل لما عانيت لأنك مررت من قبل بمرحلة التكيف!

- أبدو مقتنعا وغير مقتنع:

- ومتى تظن أني أستعيد حالة شعوري بالخوف!

- اترك ذلك للزمن!

- لكني أخشى أن يدفعني عدم شعوري بالخوف لاإلى البلادة هذه المرة بل إلى العنف !

- لا أبدا لاأظن ذلك مادمت استعدت نومك الطبيعي سأوقف الحبوب المنومة التي كنت مضطرا إلى التوصية بها إليك نحن هنا في السويد نفضل العلاج الطبيعي على أي دواء!

قلت لمترجمي وصديقي "مثقب السراب" ونحن نغادر العيادة:

- هل أنت مقتنع بما قال الدكتور؟

- المهم أن تقتنع أنت وهذا جواب سمعته أكثر من مرة!

وبشيء من المزاح:

أو ارحل إلى تايلند وعالج نفسك!

- ياعزيزي أنا الآن أستطيع أن أذبح إنسانا بدم بارد مثلما أذبح دجاجة لاأشعر بالخوف والندم قط وقد يدفعني غضبي إلى الفتك بشخص مامجرد شعوري بالغضب!

- ياصديقي العزيز هذه الحالة تنتاب معظم العراقيين الذين خاضوا حرب الثماني سنوات مع إيران .. دم .. بعض الأحيان يصادف أحدكم شخصا لايعرفه قط فجأة يرى فيه صورة عدو ما يكرهه أو أحد جنود العدو .. قتل .. معايشة جثث.إسألني أنا ترجمت للكثيرين كانوا يشكون من العلة ذاتها ثم عادوا طبيعيين لاغبار عليهم بعضهم تزوجوا من سويديات أم تريد أن أكسر قسمي فأخبرك بأسماء بعضهم.

- أنا مقتنع بكلامك غير أن حالتي ربما تكون اسوأ من هؤلاء الذين عرفتهم من خلال عملك!

- هنا الطب بصورة عامة والعلاج النفسي متقدمان جدا عن بقية الدول حتى عن شمال أوروبا نفسها فاطمئن واطرد الوساوس من رأسك!

اليوم قبل الظهيرة عجزت عن البقاء في العمل. كرعت القهوة .. شربت علبة منشط ثم اعتذرت .. ذهبت إلىشقتي عبر التقاطع المار بمقصف " حورية البحر" ..فجأة مثلما توقعت .. توقفت أتأمله ولم يكن ليعيرني أي اهتمام .. كان هناك جالسا يحتسي القهوة ويتمعن في الأفق البعيد كأنه تسمَّر مكانه منذ الأمس وربما منذ قرون خلت: في تلك اللحظة كان عمي يوقف سيارته جنب الرصيف المجاور لسكني ويقول قبل أن أغادر:

- هذه المرة تدخلت معك ومع الشرطة وضمنت لك خطيبتك.لا ألومك قط لكن اعرف متى وأين تلجأ إلى العنف

شغل عقلك قبل يدك .. هنا في السويد آخر حل تلجأ إليه هو العنف .. إسألني أنا جربت العنف في العراق وموسكو ولو رغبت الآن في الانتقام لانتقمت .. أتعرف .. هناك شخص يساري كان من أشد المتحمسين لتلبيسي تهمة التجسس يسبني في المقاهي والمحافل ويطلق علي لقب الجاسوس المزدوج لإيران والعراق والسويد ومصر حين عرفت أنه في أزمة كونه يروم تهريب إخوانه وأخواته من العراق إلى السويد عرضت عليه أن يشتغل عندي في المحل بدل الألفي كرونه خصصت له خمسة آلاف .. مثل الحمار من الصبح إلى الليل .. حمال .. وحين سافرت خطيبتك مع أمها إلى القاهرة أرسل هذا الوطني الغيور بناته وزوجته ينظفن لي البيت .. تخيل وحدي في البيت مع زوجته .. شغالات .. خادمات لم أتردد في منحن أجورا مقابل عملهن لو كنت في العراق لقتلته مباشرة من دون الحاجة إلى هذا الطريق الطويل لهذا السبب أقرص أذنك فأقول لك فكر بعقلك ألف مرة بدلا من يدك!

 ويبدو أني نسيت ذلك كله ..

قلت للطبيب إني لم أستعد بعد إحساسي بعدم الخوف وكان الغضب يلاحقني .. يداي ترتجفان فأنسى نصيحة " كوسج البحر" .. قد يكون هو الذي ادعى التخلف العقلي وهرب مني في تلك اللحظة الهادئة وسط الزحام الصامت وقد يكون هو التاجر الذي اقتحم لحظات الحرب الصاخبة فجاء إلى محلتي ليطير بها بعيدا إلى إحدى دول البترول .. اختلطت أمام ناظري الصور واختفت جميعها ماعدا صورته هو .. هو بالذات الذي أحس بهجومي المفاجيء عليه:

- مااسمك؟

- ماذا تقول؟

- أنت تضحك مني

- ماذا تقول

- أنت معوق عقليا

- ماذا؟

أنت كذاب كذاب

batty…batty

اندفعت نحوه فنط بخفة على المقعد المجاور ودفع المنضدة إلى الأمام محاولا أن يعيق حركتي بضع لحظات.:ووقفت ألوح بقبضتي.

 كان يمرق كالسهم نحو الباب هاربا من الكافتريا إلى الشارع وهو يزعق : معتوه  batty battyفاستدرت خلفه .. في هذه اللحظة راحت المركبة البيضوية تسير بي فينداح المستقبل إلى الخلف قريبا أمام عينيّ أما الماضي الذي عرفته فقد آواني بشكل آخر.لم أر الدكتاتور أو أصافحه كثير من الشخصيات انقلبت إلى اتجاهات أخرى.لم تحدث حرب أو أنم نهارا بدلا عن الليل." لاحق السراب" صديقي العزيز من أثق به ويعرف أسراري ماعدا سرا وحيدا لن أبوح به يقول ياصديقي العزيز لاشيء قط لاشيء .. أتعرف كم كلف فحص دماغك؟ آلة ذات مواصفات خاصة High Definition جهاز دقيق احتمال الخطأ فيه واحد بالألف مليون .. مبلغ ضخم يثبت أن رأسي طبيعي لاغبار عليه مع أنه كاد يُخَتَرق ذات يوم برصاص قناص ولو شاء القدر وجلست محل الضابط على الدبابة لأطاحت به سرفة تناثرت فوق أحد الألغام إلى شظايا .. أعيش واقعا يظنه الآخرون وهما وافتراءا لايقل خطورة عن تزوير وثيقة أو انتحال صفة ما .. لا يعنيني أن يعاقر الظلام في محطة مير رائد فضاء ستة أشهر فلا ينقلب رأسه .. واحدة أحبتني هربت مني وأخرى أحبت آخر قبلت بي وهناك شخص جالس في المقهى يتطلع إلي لاادري أيا منهما اختطف .. جهاز الهاي ديفينشن .. الطبيب .. العلم يؤكد أن هناك شعورا خفيا بالرعب والخوف من الجمال والهدوء والنظام يحل محل خوف هائل متلاشٍ فينا ألفناه بحكم العادة وأنا انتقلت من بلد عنيف حار مثل العراق إلى بلد بارد هاديء جميل كالسويد .. إذا لمحت في الغابة قطيع غزلان أول مايتبادر إلى ذهني أن لو كان احدها على طبق من رز وهل أرى السمك الاصفر الراقص في النهر إلا مسقوفا يشوى على شاطي دجلة فوق الجمر. عنف .. سأرافق " مثقب السراب" إلى أسواق يقيمها القرويون .. في الهواء الطلق أرى مصاطب تعلوها خضار .. فواكه .. بقول .. من دون باعة .. ما عليّ إلا ان أختار وأزن ثم أضع نقودا في سلة مركونة عند أحد جوانب المعرض أما نحن فسوف نفكر بالشراء من دون أن ندفع .. سرقة .. عنف .. تلك مدن فاضلة .. يوتوبيا .. مدينة المهدي المنتظر التي حلمنا بها طويلا ولأنا وجدناها هنا قبل الأوان فقد تحرك العنف في داخلي .. التقرير يؤكد سلامتي ويشير إلى خوف خفي من الهدوء والجمال الثاقب والسكون وفي رحلتي هذه كشفت ذئابا عن قلوب حملان وقطعان ماشية بأرواح معتمة سوداء مفعمة بالجريمة كنت أسير ولا أقدر على التوقف. معادلة صعبة تثير حنقي .. ذلك السويدي الاشقر يركض أمامي وانا أركض خلفه .. لم أر رجل الأعمال الذي خطف خطيبتي ورحل إلى إحدى دول البترول لكن تهادى إليّ أنه أسمر قصير يلوح عليه في أثناء المشي عرج خفيف فكيف انقلب إلى أشقر ذي عينين زرقاوين .. العالم أصبح قرية صغيرة وبإمكان أي فرد أن يقترف جريمة فيغير لونه .. مازالت شاخصة أمام عيني كما لو أنها حدثت اليوم صورة السيدة المصرية التي أطلت من نافذتها على الثلج وحدقت فيه طويلا وهي تسلم الروح .. البياض الثاقب .. طيب .. أنا اتوهم الناس الذين لاأعرفهم أعدائي فماذا توهمت هي؟ البياض؟لاشيء في رأسي توهمت أحد زبائن الكافتريا عدوا يشمت بي وتوهمت خطيبتي تتأبط ذراع عشيق وتوهمتني وجها لوجه مع الدكتاتور في قريته .. لكني لم أكن واهما حين منحت الجميع أسماء وجدتها في البحر .. أنا مازلت على يقين من أن الذي يتحكم بالجو الآن يتحكم بالعالم فغدت إلى البحر مجبرا وغيرت عناوين العالم وفق الماء .. التقرير الطبي دستور مؤقت يثبت أن هذه أمور طبيعية تحدث لمن يعاشرون العنف لمدة طويلة . ثماني سنوات حرب .. الخوف تلاشى من جسدك.لم تعد تخاف من القتل بل من الأشياء الجميلة الهادئة الساكنة الناعمة .. ربما لايتحمل هذا الهدوء والجمال بعض السويديين فيقدمون على الانتحار .. ينتحرون أحيانا من أجل لاشيء .. يؤذون أنفسهم أما نحن فنؤذي الآخرين نسرق .. صديقي لاحق السراب بدأ يشك فيّ يظن أنني ادعي الجنون كي أحصل على مكاسب وامتيازات مثلما يفعل الكثيرون .. فلهذه القبة المهيبة القدرة على كشف أشياء في العقل وتعجز عن أن تبصر أمراضا أخرى .. ربما ندم ولم يفغر لنفسه حين تدخل في خطبتي .. أمي لم تندم قالت الفتيات كثيرات وسوف تأكل الحرب المزيد من الشباب .. سوف أعود من الحرب فأختار من أختار .. خطيبتي الأولى جاء تاجر .. رخ .. نسر وخطفها إلى مكان بعيد .. وخطيبتي " زيزفون البحر" سافرت إلى مكان بعيد وقد تخطف هناك شابا ما .. هناك خطأ ما حدث .. إشتباه .. شخص ما .. عصابة أفلحت في اختراق طريقتي الجديدة عند اختراع الأسماء .. خلل ما تسرب .. التفت الحوادث بعضها ببعض مثل عروق الأشجار وتشابكت .. ماعلي إلا أن أختار أسماء جديدة لكل الكائنات ولا أنزل قط عن الثنائية ولاعن البحر بل الخطأ في ّ أنا حين غفلت عن أن اغير الأسماء كل يوم. الإنسان مثل الماء إذا لم تغيره ينتن، ويقتلك. مثل سر الليل في المعسكر يتغير كل ليلة. جرثومة تتسرب إلى الجسد .. ماعرفته الآن غاب عني منذ اليوم الأول الذي جوبهت فيه بالخيانة. كان علي أن أمارس حقي في القتل .مثلما يفعل البحر في هيجانه وهو يمارس حقه .. والعواصف والزلازل، وكنت في الحرب أفعل مثل البحر والزلزال الذي غيرته إلى " رقصة الماء" هناك قانون يمنحني حق القتل لأني محارب .. استثناء يؤجل الحكم على أي عسكري حتى تنتهي الحرب التي يبدو أنها لا تنتهي .. حتى لو انتهت سأكون أنا الرابح .. مثلما دافعت عن الحدود دافعت عن شرفي وانتقمت من خائنةٍ تركتني لترحل إلى الإمارات لكني مادمت غيرت الأسماء ومنحتها بعدا أوسع ليكون واحدها اثنين فقد أدركت أنها هي عادت وقبلت بي ثانية في الوقت نفسه كان عشيقها " لفحة المحيط" يراقبني من زجاج النافذة لينقض عليها. معادلة صعبة، كان علي أن اختار له اسما آخر، وآخر حتى أكبله بسلسلة من الأسماء قبل أن يتمكن من الفرار.وأنا مثله محشور بين فتاتين لاأميز أيّة منهما مارست الغدر بحقي .. قد تكون إحداهما .. وربما كلتاهما .. وربما لاتكون أية منهما .. لن أغفر لنفسي أني غيرت الأسماء كلها ونسيت زيزفون البحر على مدى كل تلك السنين إلى أن أدركت أني غيرت الأسماء مرات ومرات ولم أختر بعد اسما لي فماذا أقول عني؟ وتلك المشرفة الشقراء، ، السادية الرقيقة الرائعة الجمال إنها بالضبط جميلة مثل زهرة الأوركاديا تبهرنا بشكلها من دون أن نعرف أنها سامة، تلك الرائعة تفاجؤني منذ أول يوم لوصولي عن محاولتها معرفة اسمي الحقيقي الذي وجدتني أتخلى عنه منذ وقعت عيناي على اسم آخر في جواز سفري الوهمي.ألح شرطي التحقيق قبلها، وظلت تسألني من أنا في حين بدوت مشغولا عنها بتسمية الأشياء. إن كنتم لاتصدقون .. ياوردة الأوركيديا الفاتنة السامة إسألي آخر طبيب قرأ ملفي الدكتور العربي " ياكوب نيلسن" ماذا كان اسمه من قبل .. أنا لم اغير اسمه وكان في بالي أن أغيره إلى آخر لاعلاقة له بما هو عليه ؟ ففي ذلك اليوم أخبرتني إدارة المشفى أن صديقي المترجم " فقاعة الساحل" لن يحضر جلسة العلاج. قالت لي الموظفة إن الدكتور الذي أقابله اليوم هو ياكوب سويدي من أصل عربي، وكنت مرتاحا للقائه وربما سعيت لأن أكون صديقه مثلما سعيت لصداقة " نسمة الساحل" صديقي المترجم قال لي إن الدكتور محمد الطيب حالما أنهى دراسته في جامعة استوكهولم وجد أن اسمه يبدو نشازا في مشفى يضم كادرا كله من السويدين الأقحاح، " دكتور مهمد التيب" فلم لايغيره إلى " ياكوب بيترسون"، محمد ويعقوب كلاهما نبي .. من نبي إلى نبي. لايضر .. ثلاثة آلاف كرونة ضريبة تغيير الاسم، وأنا من دون ثمن غيرت اسماء الناس والحيوانات والأشجار وماعلى الأرض وفي الكون، والتقيت يعقوب النبي أما نابوليون فمن حسن حظي أني لم ألتقه أو أره – غير صورته – لا في عصره ولا في أي عصر خلال رحلتي الطويله وإلا كان أصابني بعض نحس منه:

- قرأت ملفك حالتك في تحسن باستمرار ربما لنا لقاء معك أو جلستان لاأكثر!

 لعلّي اطمأننت إلى وجوده أكثر مجرد أنه يتحدث معي اللغة العربية، فتنفست بعمق كأنني أزيح ثقلا عن صدري تمثل في غياب المترجم – على الرغم من صداقتنا الحميمة- فقلت بشيء من الشك والقلق:

- ستحضر الجلسات القادمة؟

فقال بهزة من رأسه:

- لاأضمن لك ذلك أنا أو طبيب آخر

وبفضول وكان بإمكاني أن أعرف ذلك عن طريق صديقي المترجم:

- أنت هنا في هذا البلد منذ مدة طويلة؟

فقال ولما أر أيَّة علامة ضيق على وجهه:

- أنا أكملت الثانوية في السويد ثم كلية الطب فحقل الاختصاص ماعليك إلا أن تخلف الماضي وراءك .. تنساه حتما لاأن تتناساه وتبدأ حياتك من جديد!

بدا لطيفا ودودا إلى حد ما وإن حاول عن غير عمد أن يفسد عليّ اختراعي حين سبقني بتغيير اسمه غير أنه لم ُيِجد لعبة تغيير الأسماء مثلي .. مادام الناس يتغيرون فلِمَ تبقى اسماؤهم ثابتة؟ هو بالأمس محمد الطيب واليوم " ياكوب بيترسون" وغدا ماأدري من يكون، فكيف وافقت أن أضع نفسي بين يديه ليعالجني .. قد تكون تلك أول نقاط ضعفي .. السويد بكل خبرته يحاول أن يغطي على اختراعي في اختيار مسميات جديدة غير ثابتة للناس والأشياء .. الاختراع وفق القاعدة المألوفة يأتي دائما من الشمال .. أوروبا أم المخترعات وأصل الابتكار أما هناك في الجنوب من حيث أتيت فيجب أن تقبع القطارات القديمة قبل أن تُرمى في المتاحف .. نقاط ضعف لم أتداركها فتكتت بمحاولتي .. حاولت أن أقف عند ميلادي فأخفقت .. تجاوزت أزمنة غير زماني المحشور فيه من الميلاد إلى الموت أو الموت إلى الميلاد ووقفت بي حركتي كأني نقطة صغيرة تهرب من الاعين.لاأدري ماهو أول شخص كنته في الماضي السحيق .. اسمه آدم أو بحر هائج.لاأعرف والعالم من حولي يتحوّل إلى نقطة بيضاء كثيفة تحجب من شدة بياضها الضوء عن عيني!

هاهو يندفع وسط السيارات ..

- أوقفوا المعتوه ..

- أوقفوه

- سيصطدم حتما بالترام ..

- اوقفوه ..امسكوا به ..

batty batty-

من اين جاؤوا وكيف أحاطوا بي؟

كنت أصرخ :كفى فلم أعد اتبين أي شيء سوى البياض، ولم أسمع أيّ صوت غير ملامح لأشخاص أحدهم: المسؤولة الاجتماعيّة، والطبيب السويدي الذي أشرف على عملية تغيير نومي.كانوا ينشقون من البياض المحيط بي إلى مالانهاية يمسكون بي .. نوارس البحر تتجمع حولي .. صخب خفيف وحفيف يحيط بي .. نسمة هواء باردة .. النوارس تحوم و تنقضُّ علي وأنا ممد على ظهري وعيناي معلقتان بالسقف الأبيض .. يد تثبت ذراعي وممرضة تغرز شيئا ما في وريدي وأنا أصرخ :

- كفى كفى أوقفوا الآلة!

كانت الأبرة هذه المرة تنسل في وريدي وهي تنفث سائلا غير ذي لون سائلا أبيض صافيا و الآلة التي فتحت شدقها لي ليست بيضوية رقراقة ككرة الساحر .. لاأكاد أتبين منها أي جدار شفاف يقذف بي في أتون المستقبل الذي يبدو أني عجزت عن ترويضه .. في هذه اللحظة تذكرت قبل أن أغلق عينيّ تماما وأتوارى بعض الوقت في رحلتي الجديدة أن عليّ أن أجد اسما يخصني وحدي اسما جديدا لايشاركني فيه أحد بعد أن سميت جميع الأشياء بأسمائها الجديدة من قبل.

 

د. قصي الشيخ العسكر

....................

تنويه:

رواية زيزفون البحر كتبت نهاية عام 1994

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم