صحيفة المثقف

العراق.. بدلة قديمة يجب استبدالها وليس ترقيعها (3)

لطفي شفيق سعيدبحلول عام 2018م يكون قد مضى على الحرب العالمية الأولى قرن من الزمن  وخلال هذه المائة عام كانت الأرض العراقية مسرحا  لحروب وتطاحن وصرعات دارت بين جيوش أجنبية كانت قد غزته بسبب موقعه الجغرافي الاستراتيجي الذي يربط الشرق بالغرب اضافة لجيوش أخرى تقاتلت فيما بينها كالتي جرت بين القوات البريطانية والجيش العثماني والتي انتهت بهزيمة الأخير واستيلاء بريطانيا العظمى على معظم ممتلكات الدولة العثمانية في منطقة الشرق الأوسط وبضمنها العراق الذي اصبح خاضعا للنفوذ البريطاني ولفترة طويلة امتدت حتى بعد تأسيس الدولة العراقية في علم 1921 م

ومنذ ذلك الحين وخلاله بدأت صراعات من نوع آخر بين مجاميع من الشعب العراقي والسلطة التي استلمت الحكم في تلك الفترة ويعود سببها إلى عوامل عديدة قد توارثها العراقيون لفترات متعاقبة من الزمن عانى فيها الشعب من مآسي ونكبات مريرة أهمها هي حالة الفقر والمرض والجهل والعوز التي تأت بسبب التفاوت الطبقي بين فئة منتفعة من ملاك الأرض من اقطاعيين متمثلة بشيوخ العشائر المدعومة من قبل النظام الملكي وبين طبقة واسعة مسحوقة من الفلاحيين والتي تشكل غالبية الشعب العظمى والتي لا تمتلك سوى قوتها اليومي البسيط والمحرومة من كافة مقومات الحياة الكريمة كالرعاية الاجتماعية والعناية الصحية ودور سكن لائق تتوفر فيها مياه شرب نظيفة ووسائل تدفئة وإنارة بالكهرباء ووجود مرافق صحية إضافة لعدم وجود مدارس كافية لتعليم أبنائهم حيث انتشرت ظاهرة الأمية بينهم وشملت كافة فئاتهم من رجال ونساء وأطفال حتى بلغت نسبة الأمية  آنذاك عالية جدا حيث تعدت 95% منهم .

لم تكن حالة الطبقات الأخرى من الشعب العراقي في تلك الفترة أحسن حال من طبقة الفلاحين وأبناء الريف فقد كان معظم أبناء المدن تتكون من عمال وشغيلة وطبقة وسطى من صغار الموظفين حيث كانت تعيش في ظروف صعبة تفتقر لوسائل عديدة تحقق لهم حياة كريمة ومرفهة  كما وأن الطبقة العاملة لم تحصل على ابسط حقوقها المتمثلة بتحديد ساعات العمل وزيادة الأجور وضمان التقاعد وتثبيت ذلك  في قانون عمل يضمن لهم تلك الحقوق لذلك فقد دفعت تلك الظروف الصعبة الطبقة العاملة بإعلان العديد من اضرابات عن العمل والقيام بمظاهرات  مطالبة بحقوقها المشروعة وقد تصدت لها الحكومة الملكية  والإيعاز لقوات الأمن والشرطة باستخدام القوة المفرطة واطلاق النار عليها مما تسبب عنه سقوط عدد من القتلى بين صفوف العمال المضربين والمتظاهرين وكالتي حدثت خلال احتجاجات عمال شركة نفط كركوك  في حديقة (كاور باغي) في 12 تموز عام 1946 حيث اتبعت حكومة رئيس الوزراء في تلك الفترة أرشد العمري سياسة العنف ضد موجة الاحتجاجات  شأنها شأن الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم وقد سقط من جراء تلك المجزرة (16) قتيلا وأكثر من (30) جريحا جلهم من العمال المسالمين ولم تثن تلك الحكومة كل التحذيرات التي وجهتها الأحزاب الوطنية عبر مذكراتها التي رفعتها على الوصي عبد الإله والملك فيصل الثاني, كما وأن اضرابات ومظاهرات العمال قد شملت شركات ومعامل أخرى استخدمت الحكومة  لقمعها  النار والحديد  كالتي قام فيها عمال موانئ البصرة وعمال شركة دخان سكائر طبارة وعبود ولوكس ملوكي الواقعة في منطقة (العباخانه) في وسط بغداد وقد كانت تلك الاحتجاجات تمثل الشرارة الأولى لانطلاق موجة التحدي والإصرار على تحقيق مطاليب الشعب كافة  الاجتماعية والسياسية وقد شملت قطاعات واسعة ضمت اليها أيضا طلاب المدارس والجامعات كافة والطبقة المثقفة وشرائح واسعة من أبناء الشعب العراقي وحاولت الحكومة قمعها واسكات صوتها المطالب بحقوقها المشروعة وقد سقط من جراء تلك الممارسات القمعية العديد من الشهداء والجرحى في انحاء مختلفة من مدن العراق من شماله إلى جنوبه وخاصة في بغداد والنجف والكوت حيث سقط في بغداد عدد منهم خلال وثبة كانون ثان عام 1948 في واقعة الجسر الذي أطلق عليه بعد ثورة 14 تموز عام 1958 اسم جسر الشهداء كما سقط عدد آخر من القتلى في سجن بغداد وسجن الكوت وسجن بعقوبة خلال اضرابهم عن الطعام ومطالبتهم  بمعاملتهم كسجناء سياسيين كما زج العديد من مختلف قطاعات الشعب في السجون والمعتقلات وصدرت بحق البعض منهم احكام قاسية منها الإعدام وتم تنفيذها في مناسبات مختلفة. إن تلك السياسة التي اتبعتها الحكومة الملكية والمتمثلة برئيس وزرائها المخضرم نوري السعيد الخاضع لتوجيهات وإرادة الإنجليز وتمشية مصالحها المرتبطة بشركات النفط المستحوذة على موارد العراق دفعت الشعب العراقي أن ينتفض لمرات متعددة وذلك خلال احداث عام 1941 و1948 و1952 وكان آخرها قيام الجيش العراقي بثورة عارمة في الرابع عشر من تموز عام 1958 بقيادة تنظيمات الضباط الأحرار وبمؤازرة أبناء الشعب كافة وقواه الوطنية.

يبدو من ذلك أن التاريخ يعيد نفسه وذلك بتسلط حكومات لجأت إلى نفس السياسة السابقة في التعامل مع المطالبين بحقوقهم وتحسين الأوضاع وذلك باستخدام العنف والقمع والتصفيات الجسدية وسلب الحرية وزج العديد من أبناء الشعب بالسجون والمعتقلات الرهيبة وذلك للحفاظ على سدة الحكم والاستحواذ على جميع موارد الوطن من أجل مطامعها الخاصة وقد تمثل ذلك جليا خلال فترات حكم سلطة البعث في عامي 1963 و1968 وأخيرا ما جرى بعد احتلال العراق  من قبل قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية  وانهيار النظام الصدامي في عام 2003 وتسليم الحكم إلى فئة استندت في إدارة الدولة على الصراعات الطائفية البغيضة وتوزيع المناصب الحكومية عن طريق المحاصصة التي كان همها الوحيد نهب خيرات البلد وجني الأموال الهائلة مما تسبب عنه خراب ودمار البلد ودفع غالبية أبناء الشعب إلى حافة الفقر والضياع إضافة لما تعرض له من هول الحروب وما خلفته عناصر الإرهاب المتمثلة بداعش وغيرهم من المجاميع الإرهابية التي تبنت اجندات واحدة هي إبقاء العراق متصدرا قائمة الدول المتخلفة وجعل بغداد أسوأ مكانا للعيش بين مدن العالم من حيث الأمان والنظافة والنظام وقد استمر هذا الحال آخذا بالتدهور والانحلال بسبب عدم وجود من يقوده لبر الأمان ويأخذ بيده  لاحتلال موقعه اللائق بين دول العالم المتحضر.

فكيف السبيل للتحقيق هذا الحلم وهذا المنال واختيار البدلة الجديدة اللائقة به وما هي مواصفاتها؟

لقد كانت هنالك فرصة ثمينة وكبيرة مواتية لتحقيق ذلك وأن يأخذ العراق مكانته اللائقة بين الدول المتقدمة وذلك خلال انبثاق الجمهورية الأولى في الرابع عشر من تموز عام 1958 بعد تغيير النظام الملكي الفاسد والذي تحقق خلالها من إنجازات ما لم تحققه جميع الحكومات السابقة واللاحقة ولفترة من عمرها لم تتعد الخمسة سنوات ولا يسعنا أن نذكر جميع تلك الإنجازات لعظمها ويمكننا أن نشير إلى أهمها وهو تحقيق الاستقلال الناجز وذلك في الخروج من حلف بغداد الاستعماري وإخراج القوات البريطانية من جميع قواعدها في الشعيبة والحبانية وأيج ثري وتحرير الدينار العراقي من سيطرة الإسترليني وإصدار قانون النفط المرقم 80 الذي اعتبر جميع الأراضي العراقية ملك الدولة ولا يجوز للشركات الأجنبية التنقيب فيها لاستخراج واستثمار النفط كما تم اصدار قانون الإصلاح الزراعي الذي تم بموجبه توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين

إن الخوض بمنجزات تلك المرحلة يتطلب شرحا وافيا ومفصلا وبالإمكان الرجوع اليها في الوثائق والكتب التي أغنتها والتي لم تكن خافية على القاصي والداني والتي حاولت الجهات المعادية والحاقدة طمس حقيقتها إلا أنها بقيت ساطعة كنور الشمس لا يمكن حجبها في غربال بالرغم من مرور أكثر من نصف قرن عليها, إن تلك الفئات التي وأدت ثورة الشعب وانطلاقته نحو التحرر بانقلابها الدموي في الثامن من شباط عام 1963 هي نفسها اليوم تعود إلى الواجهة وتتكالب على تسنم المناصب المهمة في الدولة والتي تعتبر امتدادا  لعناصر الحرس القومي والبعثيين من عملاء الامبريالية أضافة لدهاقنة السراديب المظلمة التي كانت تطلق الفتاوى والشعارات من أجل اسقاط جمهورية 14 تموز التقدمية.

ويمكننا أن نلخص بعض النقاط المهمة التي يجب اتخاذها من أجل تغير بدلة العراق القديمة المتهرئة وكما يلي:

1- لا يمكن تغيير بدلة العراق القديمة ما لم يكن أكثرية الشعب العراقي قد تخلص من العادات والسلوك القديم المسيطر على مجمل حياة الناس الاجتماعية.

2- لا يتم التغيير ما لم يكن غالبية الناس في العراق رجالا ونساء وحتى الأطفال في سن السادسة يتقنون استخدام الأجهزة الالكترونية والانترنيت في تعاملاتهم اليومية وقد قيل في هذا الصدد (في هذا الزمن الشعب الأمي في القراءة والكتابة يمكن أن يغتفر له ولكن الشعب الأمي في استخدام الالكترونيات لا يمكن أن يغتفر له!)

3- لا يمكن التغيير وقد يكون محالا في حالة بقاء شكل الحكم والسلطة تحت سطوة وهيمنة قادة الأحزاب والمؤسسات الدينية والعشائرية والمليشيات المسلحة بل يجب فصلها كليا عن سلطة الحكم وتفعيل سلطة القانون والعمل بروح ومواد الدستور العراقي.

4- لن يكون هنالك تغيير جوهري مالم تتبع الطرق والوسائل الحديثة المتعلقة بالمواصلات ووسائل النقل وتحديد سرعتها وتخطيط الطرق وعلاماتها وتحديد السرعة ومراقبتها بالكاميرات ورجال المرور الراجلة والسيارة وكذلك باتباع الطرق الحديثة بالبنية التحتية وأساليب العمران في إنشاء المجمعات السكنية واللجوء في بنائها الأسلوب العمودي على أن لا يتجاوز بناء الوحدة السكنية عن طابق ارضي وطابقين أول وثاني مما يجعل الصعود اليها سهلا بسلالم خشبية بدلا من المصاعد الكهربائية وبذلك يمكن تقليل صرف الطاقة الكهربائية وكما هو معمول في جميع المجمعات السكنية في الولايات المتحدة الامريكية.

5- الاهتمام بحياة ذوي الدخل المحدود وكبار السن وذلك بتطبيق ما هو معمول في الدول المتقدمة عن طريق تأمين الرعاية الاجتماعية والصحية والغذائية وذلك باتباع طريقة توزيع المشمولين بالرعاية على أطباء بما يطلق عليهم (طبيب العائلة) والذي يقوم بإجراء الفحص الطبي الدوري عليهم كل ثلاثة أشهر وتخصيص العلاج والدواء على أن يتم استلامها من صيدليات ثابتة ويتم صرف الدواء المخصص بعد ارساله من قبل الطبيب المختص عن طريق الانترنيت ويمنع صرف الدواء خارج ذلك.

6- تأمين احتياجات ذوي الدخل المحدود والمشمولين بالرعاية الاجتماعية ببطاقة المواد الغذائية التي يخصص فيها مبلغ شهري لكل عائلة حسب افرادها يمكنهم الحصول على ما يحتاجونه من مواد غذائية من المحلات والمخازن المعتمدة باستخدام الكارت الغذائي بدلا من البطاقة التموينية الفاشلة.

7- التحول إلى استخدام نظام البطاقات البنكية بدلا من تداول العملة الورقية على أن يجري تثقيف الناس على استخدامها وفتح حساب بنكي في المصارف وخاصة لذوي الدخل المحدود والمتقاعدين حيث يتم تنزيل مستحقاتهم في حسابهم الخاص الموجود على تلفونهم النقال ويتم صرف ما يحتاجونه عن طريق البطاقة الالكترونية كما يتم حسم مبالغ الكهرباء والهاتف النقال وغيرها من القسائم مباشرة من الحساب البنكي الخاص بالمشترك.

8- وأخيرا وليس آخرا لا يمكن أن نطلق عبارة التغيير على حالة المجتمع العراقي ما لم نشاهده قد تخطى الحالات البائسة التي كبلته لسنوات طويلة  وخاصة في الفترة الأخيرة والمتعلقة بالسلوك الشخصي المتمثلة باحترام الغير والتعامل بلطف واستعمال كلمة شكرا المحببة للكل وكذلك نبذ جميع المظاهر الغير لائقة في الملبس, فكيف يتسنى لنا أن نقول بإننا نعيش في القرن الحادي والعشرين عصر الفضاء والتكنلوجيا  ونحن نرى ونعكس للعالم ما وصلت اليه الحياة الاجتماعية وأوضاع المجتمع في العراق من تردي لدرجة لم يشهد مثيلاتها حتى في القرون القديمة وكما نشاهد ذلك جليا على حالة المرأة وهيئتها وخاصة تلك التي تتصدر أعلى سلطة في سلم القيادة كوزيرة أو نائبة أو طبيبة أو أستاذة جامعية وهي تتسربل بالسواد وتلبس الفوطة والعباءة التي قد تخلصت منها النساء العراقيات قبل عشرات السنين, ما الذي سيقوله العالم المتحضر على تلك الممارسات البائسة التي تنقلها الفضائيات ومنها أن تقوم أحدى النساء بحمل جردل فيه وحل ملوث وتقوم بتوزيعه على رؤوس وصدور النساء الموشحات بالسواد تعبيرا عن الحزن في مناسبة معينة؟ وكيف يكون الوقع عندما يشاهد من هو في الدول المتقدمة مجموعة من الرجال والشباب يقومون بجلد ظهورهم وصدورهم بسلاسل حديدية ويقفزون كالقردة على وقع الطبول والصاجات وتنزف أجسادهم الدماء.

ويمكننا أن نقول أن الأمور قد استتبت وأخذ كل ذي حق حقه بكل اريحية وهدوء حينما نرى المواطن العراقي يلتزم بدوره خلال مراجعاته اليومية في الدوائر والأسواق ولا يتدافع أو يتصايح للحصول على بغيته قبل غيره  فنتمنى أن نصحو يوما ونجد العراق قد حقق ذلك ووجد طريق الخلاص على يد المخلصين الغيارى والذين يتخذون ممن سبقهم أسوة حسنة في التضحية من أجل عراق متطور وشعب آمن سعيد.

 

لطفي شفيق سعيد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم