صحيفة المثقف

لعل الخيال على وشك أن يسترجع حقوقه..

خلود البدري

السريالية في المجموعة القصصية بيت جنّي للروائي والقاص حميد الربيعي

ضمت المجموعة القصص التالية: حافلة سردية لأربع عشرة قصة، استبدال، امرأة من ماء، انتشاء، صانعة الأحلام، شغف، رغبة ملحة، سروالي وردي، مدخرات، أسرار، أذن من طين، بيت جني، غسالة صاحبها سرحان، يا زر دالي، احتفاء، في البدء . كتب السارد في مقدمته للقصص " كلما توغلت في العمق، تكشف بهاءها وروعتها وفتنتها " ولقد توغلنا في عمق هذه المجموعة وتعين علينا الآن أن نكتشف ليس فقط بهاءها وروعتها وفتنتها، لكن يحق لنا أن نعرف لأي منهج نقدي تتجه بوصلة نقدنا للمجموعة، ولسنا هنا بصدد أن نكُون معيارا للتقييم بقدر ما هو رصد لعوالم القصص وإيضاح لها. ويحق لنا من هذا المنطلق أن نرى لأيها تكون أقرب، فالقصص تتجه للسريالية، وكذلك إلى الواقعية السحرية . يقول لانجويسكي عن علاقة السيريالية بالواقعية السحرية: " أقول أن علاقتهما - على الأقل - بالسيريالية علاقة حميمة جدا . وإضافة إلى ذلك فإن كثيرا من الكتاب الذين يحسبون ضمن تيار الواقعية السحرية ينظر إليهم كذلك على أنهم سرياليون. مثل ميجيل آنجل أستورياس، وخوليو كورتاثار، وأليخو كاربنتير، وإرنستو ساباتو. وهؤلاء جميعا اعترفوا بأنهم كانوا متأثرين بالسيريالية .." (ص14) في الواقعية السحرية د.حامد أبو أحمد . بدأت المقال بعبارة لأحدهم وهو يرى بروز الحركة السريالية، هنا، لا بد لنا أن نعرف ما هي السريالية، وأيضا نعرف متى نشأت هذه الحركة، ومن هو مؤسسها ؟، وأهم رموزها . " بحلول عام 1924، رأى بريتون أنه من الملائم أن يوحّد تلك النزعات تحت اسم واحد، وبعد فترة ولادة خرجت السريالية إلى النور بنشر بريتون أول بيان عام للسريالية " (ص29) الدّادائية السّريالية ديفيد هوبكنز. فالسريالية هي: " ما فوق الواقع، حركة أدبيّة وفنية هدفها التعبير عن الفكر الصافي بعيدا عن المنطق مع ميل ظاهر إلى إبراز الأحوال اللاشعورية " عند تناولنا لقصص المجموعة بيت جنّي للروائي والقاص حميد الربيعي، شدنا عنوان المجموعة، فلماذا بيت جنّي ؟ الجن يسكن حيث الخرائب والأماكن المهجورة أو في بيوت وأسواق وأماكن اللهو، وقد ذكر الجانّ في القرآن وفي سورة الحجر (الآية 27) قوله تعالى: (والجانَّ خلقناهُ مِن قبلُ مِن نّار السّموم) " وفي صحيح مسلم من حديث ثابت عن أنس أن رسول الله - ص- قال: لما صور الله - تعالى - آدم - عليه السلام - في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك."

قد يتمكن الشيطان من بعض البشر ليحقق بغيته، ويستوطن بينهم وفيهم، نلاحظ في هذه المجموعة أن ما ابتغاه القاص هو شيطان النفس الذي تمكن منها . ففي قصة العنوان ومن خلال تتبع أحداثها، نستشف أن الكاتب أراد أن نصل إلى أعماق النفس البشرية، وأن بيت الجنّي هو داخلها وليس في الخارج . وأن هذه النفس لا حدود تحدها، والمغزى من القصة استغلال البعض قدرات هذه النفس في الرذيلة والمتاجرة بالقاصرات وممارسة الجنس معهن بحجج واهية، واستغلال حالة العوز التي تمر بها بعض الأرامل والمطلقات لجرهن إلى هذا المستنقع، واتخاذ بعض البيوت لتحويلها إلى أوكار للجن . في هذه المجموعة القصصية " ... يجب أن لا يكون للنّقد من غاية سوى إعادة تحيين الأثر بفضل استخدام لغة جديدة، وبناء خطاب متناسق يكون معادلا للخطاب الذي ابتدعه الكاتب . ذلك لأنّ النّقد ليس استدلالا وليس اكتشافا وإنّما هو كتابة إيحائية " (ص40 النقد الادبي) وعند تتبعنا لقصص المجموعة نجدها تتجه نحو السريالية التي " كانت منشغلة بالحياة بأبعادها العامة والأخلاقية، بالقدر الذي انشغلت فيه بالجماليات، ولكن لم ير الدادائيون والسرياليون اهتماماتهم الاجتماعية محصورة فحسب في البُعد " الرسمي " للحياة العامة ... كانت هناك رغبة في الانخراط في الطيف الكامل للمعرفة الوسطى، فقد كان لديهم افتتان شديد بثقافة العامة، أو بما يشتهر باسم " الشعبي " .ص60 (الدادائية والسريالية ديفيد هوبكنز) وسنشير ببوصلة نقدنا وكما قلنا إلى السريالية رغم أن القصة فيها الكثير من الواقعية السحرية، في قصة " امرأة من الماء " نقرأ المقطع التالي: " روى ملا عبود أنه في يوم قائظ أمطرت السماء ضفادع، ناقعة بالماء ومقصوصة الأرجل من خلاف، جلدها لم يكن مخضرا ولا آسنا، بل يميل إلى الأسود الفاقع، كأنما ظلت في شواية الشمس أطول فترة ممكنة .أهل الرصافة، بعدما سمعوا بالضفادع النازلة من الفضاء، لم يصدقوا واعتبروا أهل الكرخ يبالغون في الوصف، لكن بعد يومين من رواية الملّا أنزلت السماء عليهم قططا، لا سمينة ولا نحيفة، كانت منتوفة الشعر، كأنها جزت قبل هطولها على هيأة زخات . (ص 17). ولعله من الأنسب في هذا الصدد أن نشير - مجرد إشارة - إلى بعض خصائص السريالية وفقا لما عرضها أندريه بريتون في بيانه الشهير، وهي: البحث عن العجائبي، وشعرية الحلم، وتمثيل اللاشعور، والكتابة الآلية، والصور الصادمة التجديدية، والتجريب الكامل من خلال اللغة، وهناك خصائص أخرى عرض لها النقاد بعد البيان مثل المونولوج الداخلي، والمشاهد الاستبطانية، والمونتاج، والسرد غير المرتب ترتيبا تعاقبيا، واستخدام مفردات متعددة المعنى، والاستعارات الصادمة، وغير ذلك من تقنيات محدثة . وأنا أرى أن خاصية واحدة فقط مما ذكرناه هي التي تستبعد عند الحديث عن الواقعية السحرية وهي خاصية " الكتابة الآلية " وهذا يدل على الصلة القوية أو الارتباط الشديد بين الواقعية السحرية والسيريالية "(ص 43) في الواقعية السحرية . لنقرأ مقطع آخر من القصة نفسها " بعض شهود عيان، ممن حضر التجمهر في الصوبين، قالوا: إن النهر انشق فخرجت حورية سوداء اللون ذات شعر أبيض، يشبه حريقا مشتعلا، من ضفة الكرخ، ثم وصلت إلى ضفة الرصافة، وثمة آخرون كانوا يراقبون المشهد عن قرب لكنهم لم يستطيعوا الوقوف على الضفة الكرخية بسبب التزاحم فأنكروا ما قيل، مؤكدين أن الخارج من نهرهم كان نافورة جير أسود، منصهر بفعل باطن الأرض ومتسام قليلا في الفضاء، بيد أنه ارتد ثانية وسال فوق صفحة المياه، ربما خجلا من الصعود في الفراغ !" (ص 17) في المجموعة حضر الجنس بشكل واضح وجلي لكنه كان توظيفا موفقا في رصد الواقع المزري الذي انغمس فيه البعض، وطبعا، هو أحد متغيرات العصر الذي نعيشه. في صفحة (62) من النقد الأدبي . ينبهنا ج . جينات " إلى أن الناقد لا يمكن أن يعتبر نفسه ناقدا بأتمّ معنى الكلمة إن لم يدخل هو كذلك فيما لا مفرّ من تسميته بالغثيان أو تسميته إن أردنا، باللّعب الآسر والقاتل ألا وهو الكتابة ."

 

قراءة خلود البدري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم