صحيفة المثقف

تفسير آية النور.. مثال للتفسير الرمزي للقرآن الكريم

(الله نورُ السموات ِ والأرض ِمثل ُنوره ِكمشكاةٍ فيها مصباح ٌالمصباح ِفي زجاجةٍ الزجاجةِ كأنها كوكبٌ دري ٌيوقد ُمن شجرةٍ مباركةٍ زيتونة ٍلاشرقيةٍ ولاغربية ٍيكاد زيتُها يضيءُ ولو لم تمسَسْه نارٌ نورٌ على نورٍ يهدي اللهُ لنورِه من يشاء ويضرب الله ُالأمثال َللناس واللهُ بكل شيء ٍعليم). النور 35.

تصفّحتُ موقعا ألكترونيا قرآنيا، فمرّت عليّ هذه الآية المباركة، وهي آية مميزة، تستوقفنا معانيها، فأخذني الفضول لأفهم تفسيرها عند المتصوفة.

معناها العام واضح لدينا، ومن لديه إشكالٌ في الفهم بإمكانه الرجوع الى كتب تفسير القرآن الكريم.

للقرآن معنيان ظاهر وباطن، وهو هذا الذي أشار اليه الإمام علي ع، بقوله:

"القرآن حمّالٌ ذو وجوه"، و"ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق"

مفسرو القرآن لهم اتجاهات خاصة في تفسير نصه، والاتجاهات متعددة ومتنوعة وهي خاضعة لظروف المفسر، التي منها أولوياته وقبلياته، وحتى ميوله وتطلعاته وثقافته الشخصية، كلها تعينه على تفسيره وتأويله. منهم من يفسّره بمعناه الظاهري، يعني يستنطق الآيات القرآنية بما هي، أي يفسر القرآن كما ورد آية آية، يجزئ القرآن ويفسره . يُسمى هذا التفسير بـ (التفسير التجزيئي)، وما أكثر كتب التفسير المعني بهذا النوع!

ويعتبر دور المفسر هنا سلبيا بنظر بعض الناقدين، لأن القرآن دوره هنا دور المتكلم، و المفسر دوره دور المُخاطَب المتلقي، فقط يفسّر النص الجاهز والظاهر أمامه، لايتكلّف كثيرا، يعني ينتقل من النص الى الواقع، وبالطبع فهو يمتلك رصيدا باللغة وآدابها وأساليب التعبير. مثال على هذا النوع من التفسير هو، "تفسير الميزان" للسيد محمد حسين الطباطبائي، العالم والفيلسوف، تفسيره للقرآن جاء وفق ثقافته وميوله، لذلك يعتبر من اهم كتب التفسير الغنية والمعنية بهذا النوع .

مفسّرون آخرون يستنطقون الآيات القرآنية الدالة على موضوع حياتي ما، أياً كان نوعه سواء كان دينيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا في القرآن الكريم . دور المفسر هنا أكبر؛ فهو ينتقل من الواقع الى النص. يعني حين ينتقي موضوع ما يدرسه على ساحة الحياة أولا ويستقرئ الأفكار والآراء والمواقف البشرية حوله، ثم يطرحه على القرآن الكريم محمّلا بها، محاورا القرآن، هو يسأل والقرآن يجيبه. بالأحرى هو يحرث أرضية النص القرآني ويستخرج منها ما يجيب على استفهاماته، ويخرج بنظرية ما إزاء موضوعه، هذا التفسير يسمى بـ (التفسير الموضوعي)، فدور المفسر هنا يعتبر ايجابياً، لأن المفسر بذل جهدا كبيرا على صعيد الواقع، بعدها بلغ القرآن محاورا.

أما المتصوفة فهم بارعون في استلهام الأبعاد الرمزية والجمالية في القرآن. هم يستنطقون نوره وجماله الذي لايراه الناظرون، بالروح لا بالعقل.

بتصوري، تفسير المتصوفة أصعب تفاسير القرآن. هو ليس سهلا، لأنه يستنزف الروح الباحثة عن النور غير المرئي للآخر في النص القرآني. لغة المتصوفة لغة شفافة رقيقة خاصة، تحمل معاني َعميقة.... هي لغة أرواح غارقة في عوالم النور، تخاطب الروح لا العقل، فهي ليست سهلة. يتكلمون بلغة أشبه بلغة النصوص المقدسة، لذلك لايفهمها المتلقون من العامة. نُصاب بالدهشة حين نقرأ تفسيرهم للمصطلحات القرآنية التي تبدو لنا واضحة وسهلة التفسير والفهم.

من جانب آخر، قد يبدو لنا أن المتصوفة بذلوا جهودا مضنية لتفسير القرآن، لكن ربما بالنسبة لهم يكون التفسير سلساً، لأنهم اعتادوا الخوض في عوالم النور الملهمة لأرواحهم، وأدمنوها، بل هم على سفر دائم الى عوالمها. تعزف لغتهم على أوتار القلوب، فتأخذ لبابها.

 

معاً، لتفسير آية النور بموسيقى صوفية:

معنى المصطلحات حسب تفسيرهم الباطن هو:

"المشكاة تعني: البدن

المصباح: الروح

زجاجة: القلب

الشجرة التي توقد منها الزجاجة المشبهة بالكوكب الدري: هي النفس

الزيتونة: هي النفس المستعدة للاشتغال بنور القدس بقوة الفكر

الزيت: هو نور استعدادها الأصلي" .

تفسير الآية لم أجدْه في الكتاب المذكور، ولستُ أهلاً للخوض في عوالم المتصوفة. أفسّر الآية وفق فهمي الخاص، لكنه بالتأكيد يعتمد على تصور المتصوفة لتفسير كلمات الآية الكريمة، على هذا الأساس أفسّر النور في آية النور:

المتصوفة حين يفسّرون نور الله في هذه الآية هم بالأحرى يتحدثون عن نوره الذي اخترق أرواحهم واتحدوا به، لدرجة صاروا لايميزون بين النورين، وطبعا لم يبلغوا نور َالله إلا بعد رياضات شاقة وخاصة جداً، لايمكن التطرق لها هنا، وهي لذوي الاختصاص بعلم التصوف والعرفان. المتصوف البغدادي الحلاج يجسد شعوره بالنور الإلهي بهذا البيت من الشعر:

انا من أهوى ومن أهوى أنا   نحن روحان حللنا بدنا

يعني هو اتحد مع نور الذات المقدسة.

كان يمشي بين الناس و يردّد: أنا هو، فكفّروه وأعدموه.

إن النفس الأصلية (الزيتونة) التي تولد النور كامنة في أعمق أعماق البدن. هي عاملة شغّالة بتوليد النور، وتوليده لا يتم إلا بقوة الفكر التي تنطوي عليها، وقوة الفكر تستمد طاقتها من الوقود الذاتي، الذي هو الزيت، حتى تولد النور، فحين ينسكب عليها الزيت الذاتي الاشتعال تعمل على توليده (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار)، فهي بالضبط كالشمس، تولد نورها ذاتيا، وتمنح النور القوي لمن حولها، فتشعّ النور للنفس الثانية (للشجرة التي توقد منها الزجاجة المشبهة بالكوكب الدري).

نرى المتصوفة هنا حذرين، فهم يتعاملون مع النفس لا مع الروح، كما القرآن الكريم، فاعتبروا النفس هي العاملة، وهي المسؤولة والمكلفة بتوليد النور، كما هي عند الله مسؤولة عن عمل الإنسان المادي والمعنوي، وهي المحاسبة. وهنا يكمن الفرق بينها وبين الروح. الروح هي المسؤولة عن بعث أو سلب الحياة من الجسد، بينما النفس هي الفعالة، ولذلك عبر القرآن الكريم بقوله: (ونفس وماسواها فألهمها فجورها وتقواها)، ولم يقل (وروح وماسواها....الخ)، لأن الروح هي من أمر الله (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي). هي شيء غيبي يستمد منه الجسد الطاقة الروحية الخلاقة، مثلها مثل الوقود لأية آلة، لايمكن لها أن تعمل مالم تحتوِه، فهو المحرّك لها، بينما النفس تمثّل اليد التي تعمل على تشغيل الآلة وتوجيهها، وهي المسؤولة عن جودة العمل الذي تؤديه، ورداءته، وأعني به النتائج الإيجابية أو السلبية المترتبة عليه.

حين يولد النور من النفس الأولى (الزيتونة) تبثه للنفس الثانية (الشجرة المباركة)، التي بدورها تبثه للروح (مصباح المصباح)، ثم الى القلب ( الزجاجة)، ثم البدن (المشكاة).

النفس فعالة في توليد النور لها دور وأثر كبيران في بث النور وبزخم عال لكل العناصر الداخلة في البدن. النور سيفيض على كل هذه العناصر بقوة، لأن الطبقات التي يتخللها النور هي شفافة وحين يصل للمشكاة (البدن) سيكون ساطعا، وكما نعلم معنى المشكاة هي الكوة، أو النافذة، فحين يصل اليها النور يتدفق بقوة من منبعه الأول فتغرق النفس والقلب والروح والبدن وظاهره، والوجه ومحياه وكلها تجتمع فيه، فيغرق المتصوفة في غمام النور.

وماأروع أرواح المتصوفة السابحة في فضاء النور!!

أيها النورُ في الفؤاد تعال    غايةُ الوجدِ والمرادِ تعال

ياظريفَ الدنيا سلام ٌعليك    إن دائي وصحتي بيديك

 

جلال الدين الرومي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم