صحيفة المثقف

اللغة في الفلسفة البنيوية والميتافيزيقا (2)

علي محمد اليوسفان في الاعتماد على الواسطة اللغوية التواصلية التداولية في نقل الافكار والمعارف معناه ان شكل اللغة كحامل لا يسبق الفكرة العلمية والمضمونية في تراتيبية الانتاجية العقلية لهما (الفكرة واللغة)؛ شكل اللغة حامل؛ ومضمون الفكرة او (الموضوع) كمحمول دلالي.  يستوعبه تعبير اللغة كحامل دال تواصلي له اي المدلول للموضوع؛ و تتم هذه العملية المركبّة البسيطة داخل مصنع انتاجية العقل؛ عبر اللغة- المضمون كاداة استقبال وتلّقي في مرموزاتها واشاراتها المكتوبة المقروءة. وتجريد اللغة المكتوبة والمقروءة عن هذه المواضيع والمعارف كمضامين ومباحث متنوعة لا محدودة؛ يصبح من المحال نقلها كمادة تلقّي استقبالي وتواصل معرفي وثقافي مع الاخرين. فاللغة تجريد صوري سابق على مضمونه؛ ولا شكل لغوي يمكننا ادراكه من غير محمول دلالي يتضمنه شكل وتعبير اللغة. اي لاوجود للغة بلا مضمون؛ والا اصبحت اللغة هذاءات لامعنى لها غير منظمة ولا مترابطة؛ وبهذا المعنى المقارب يقول دي سوسير : (اللغة سابقة على الفكر بل هي تستوعبه وتحتويه كما يحتوي الكوب الماء.وهذا يعني ايضا عدم وجود شيء خارج اللغة. وحقيقة الفكر ليست مادية. وانه ليس ثمة افكار مسبقة ولا شيء واضح المعالم قبل ظهور اللغة.) (1).

ان قول دي سوسير كما نسب اليه في الاقتباس اعلاه؛ ان حقيقة الفكر ليست مادية خطأ منهجي باعتباره يعتمد المثالية في التفكيرالمجرد ذهنيا فقط. وهذا لايلزم غيره الاخذ به كمسلمات. كما نجده يحذّر من اعتبار اللغة بعدية غير قبلية في انتاج المعارف الانسانية وهوما يدعم وجهة نظرنا التي نؤكد عليها ان اللغة بعدية.***

ولا  تتقاطع تماما مع ماجاء على لسان دي سوسير في الاقتباس اعلاه في قوله": ليس ثمة افكار مسبقة ولا شيء واضح المعالم قبل ظهور اللغة. في هذا يؤكد دو سوسير ان اللغة ليست متعين مادي او حتى خيالي خارج فعالية التفكير العقلي داخل /الدماغ العاقل في شيء او موضوع؛ بمعنى استحالة وجود لغة خارج مادية العقل في ادراكه للاشياء؛ مجردا من واسطة اللغة التعبيرية الناقلة؛ كما ان من المحال ان يصدر تفكير او فكرة من غير واسطة توصيل انتقال التفكير من العقل الى المستقبل المتلقي.اي ان لا مادية تواصلية وجودية للغة بلا مضمون يداخلها ومعها؛ والعكس صحيح فلا وجود لفكرة او موضوع يمكن ادراكه ذهنيا؛ لا يجد تعبيره اللغوي او الاشاري او الايحائي او الرمزي كي يصبح وجودا مدركا من قبل مستقبل متلقي اي ان تكون اللغة في ابسط معانيها المعجمية غير الفلسفية (دال ومدلول) في التواصل.

لنذهب اكثر من ذلك فنقول ان كينونة الانسان العاقل تتألف من التالي: الوعي بالذات؛؛ العقل؛ الحس؛ الادراك؛ خاصية التفكير؛ اللغة؛ الذكاء؛ الخيال؛ التجريد؛ الضمير؛ الوجدانات؛ والعواطف.هذه الملكات الفطرية والمكتسبة متعددة  الابعاد هي ماتعطي الانسان طبيعته كوجود وماهيته؛ واي نقص او خلل في واحدة منها او اكثر كفيلة بأعادة بالانسان الى (الحيوانية) في التعامل مع الطبيعة كما تفعل الحيوانات.

في المقابل نجد العلوم الطبيعية العلمية الصرف التي تهتم بالانسان كجسد وروح وعقل ونفس؛ هي الاخرى لايمكنها الاستغناء عن مرموزية التواصل ب (اللغة) مع الاخرين اجتماعيا؛ كمعادلات علمية تخصصية ايضا تواصلية. حتى في علوم الرياضيات والهندسة والطب والكيمياء والفيزياء تكون فيها مرموزات اللغة تواصلية – سيميائية في شكل المعادلات الرياضية وكتابة صياغة النظريات التي في الغالب عادة ما تكتب بغير اللغة الابجدية الدارجة المتداولة اجتماعيا. فهذه العلوم تكتب وتنقل مفاهيمها بلغة رمزية صورية خاصة تسمى المعادلات الرياضية والفيزيائية والكيماوية كما هو معلوم.

وفي العودة الى علاقة البنيوية باللغة والميتافيزيقا؛لا نعتقد هنا يبقى معنى مطلوبا القول ان البنيوية علميا وبحثيا انتشرت خارج نطاق بنية اللغة الصوتية او المكتوبة او التصويرية؛ كما في علوم اللغة و اللسانيات كما بدأها واعتمدها دي سوسير. فهذه مسألة لا تحتاج كثيرا من النقاش اذ يتعذر دراسة كل موضوعات المعرفة بنيويا نظريا ومنهجيا بلغة الصوت والكلام الشفاهي المنقول فقط بلا تدوين لغوي؛ ولا معرفة تواصلية من دون تدوين لغوي توثيقي.

وعندما نأخذ شتراوس في الانثروبولوجيا البنيوية او التوسير في نقده السرديات الكبرى والانساق الايديولوجية الماركسية القارة؛ نجد من العسير المتعذر في هذه الموضوعات التاريخية والفلسفية نقل وتوصيل رؤى وافكار جديدة من غير اعتماد فك شفرات ورموز لغوية وصورية مكتوبة توارثتها اجيال. وهي رسومات وكتابات لغوية جيولوجية يتم دراستها وفق نظرية ومنهج البنيوية في حفريات المعرفة والاثنولوجيا التاريخية؛ التي نجدها في مخلفات الانسان البدائي وقبائل ما قبل التاريخ؛ وفي الاساطير والاديان وما تركوه لنا من اثار حضارية وثقافية قديمة جرى اكتشافها في احقاب تاريخية متلاحقة تقوم البنيوية بنقدها واعادة قراءتها نسقيا.

على سبيل الاستشهاد كان من الصعب جدا دراسة الحقبة التاريخية الفرعونية من دون اعتماد الكتابة والنقوش والرسومات في اللغة الهيروغليفية القديمة لغة المدونات الحجرية والاثارية والحفريات لتلك الحضارة؛ومثلها في اللغة المسمارية السومرية؛ كما ليس بامكان دراسة شعوب وامم وحضارات تملأ الارض من دون مراجعة تدوينات الاف اللغات واللهجات المنتشرة اليوم عالميا بما فيها المندثرة تاريخيا. وفي دراسة مخلفات واثار ولغات اية حضارة عالمية سادت على الارض في حقبة زمنية تاريخية معينة.

وللتوضيح في مثال على ذلك فقد لعبت الصورة والعلامات والرسومات البسيطة في المرحلة البدائية للبشرية دورا مهما  في توصّل الانسان اختراع الكتابة.

وتعبر عن ذلك الباحثة د.فاطمة بدر قائلة: (ان الصورة هي اول شيء لجأ اليه الانسان البدائي للتعبير عن نفسه وعن افكاره. فقد كانت الحروف الهجائية تشكّل صور الاشياء والطيور والحيوانات المحيطة بالانسان الاول. فالصورة مخزونة في عقل الانسان الباطني ومحفورة في خياله ومصبوبة في تجاربه الذاتية لتعبر عن مكنوناته لانها تمثل وعيه الاول. فقد كانت الجماعات البشرية قبل اختراع الكتابة تقوم بمطابقة دوال العلامات وما تشير اليه وتوحد بين الشيء وصورته. لذا كان الانسان في العصر الحجري القديم عند رسمه للحيوان على الصخر يعتقد انه انتج حيوانا حقيقيا. ويذكر ليفي بريل في كتابه العقلية البدائية عن اعتقاد شخص هندي احمر رأى باحثا يقوم بأعداد صور تخطيطية لمجموعة من الثيران البرية؛ بأن الباحث في عمله ذاك عندما وضع الثيران البرية في كتابه لذا لم تعد عندهم ثيران (انفقدت) منذ ذلك الحين)(2).

ما اردناه في هذا المثال ان اللغة قرينة الفكر اولا وقرينة الوجود البشري ثانيا ولا لغة ولا معطيات لغوية خارج ثنائية الوجود-اللغة. الشيء الآخر ان اللغة في جميع مراحلها هي وجود عقلاني حتى في اشكالها البدائية في مثال الرجل الهندي الذي فهم اللغة فهما ميثولوجيا سحريا خرافيا فحدود فهمه الاسطوري هو تفكير ايماني روحي و عقلاني ابن مرحلته التاريخية البدائية.

وعندما نقول ان البنيوية في منهجها حفريات المعرفة تسعى لفك مرموزات الاساطير او بعض الرسومات النقشية الاثارية الحجرية وكذلك في المدونات التوثيقية التاريخية للاستدلال على معطيات معرفية غير مكتشفة فانها لاتعتمد في تنقيباتها غير اللغة النقشية التصويرية المكتوبة والمقروءة او الشفاهية المتداولة وليست اللغة الصوتية اذا ما كان ذاك متيسرا ومتاحا.او في اللغة المكتوبة او التنقيبية او اللغة الصوتية في حال توفرها؛ هي الوسيط والوسيلة المعرفية الوحيدة في نشر وتثبيت الجديد في مكتشفات وحفريات جيولوجيا المعرفة. ونقلها وتداولها على وفق منهجية واستدلالات جديدة غير مكتشفة من خلال التوظيف الانثروبولوجي او البنيوي البحثي.

ومن تناقضات الباحث العنزي في البنيوية الخلط بين البنيوية نظرية ومنهج نقدي نسقي لكافة الموضوعات التي تعنى بالانسان والطبيعة والتاريخ وعلم النفس وبعض العلوم الاخرى وبين اللغة المكتوبة المقروءة كاداة توصيل وتلقي وحيدة لتلك الموضوعات. يقول الباحث من بحثه المشار له سابقا ص40: (المحاولة البنيوية من وجهة نظر جاك دريدا تقوم على مركزية الصوت واسبقية الكلام على الكتابة. وكذلك تكريس مركزية العقل والاصل الميتافيزيقي من خلال اللغة).طبعا دريدا بخلافه مع البنيوية يعتمد اولوية اللغة على الكلام؛ ولا يقر ماتذهب له البنيوية في اسبقية الكلام على اللغة عندها.

كما اشرنا سابقا لاتعتمد البنيوية في دراستها المعارف والموضوعات الانثروبولوجية والسرديات التاريخية العامة وعلم النفس والطبيعة والاجتماع او الاقتصاد؛ بالاعتماد على مركزية الصوت في اللغة واسبقية الكلام الشفاهي المنقول اجتماعيا على ثانوية اللغة المكتوبة التدوينية المقروءة. او فك مرموزات وشفرات اللغات البدائية والغابرة في التاريخ بلغة الكلام والصوت كدال وحيد؛ بل هي تعتمد اللغة التدوينية المكتوبة ايضا.

نعم بعض فلاسفة وباحثي وعلماء البنيوية اشتغلوا في مجال النقد الادبي والثقافي على مركزية الصوت واللسانيات وتفكيك مفردات اللهجات الشفاهية لدى الاقوام البدائية في تدوين مرموزاتها الصورية والاشارية لغويا؛ في التعبير عن آرائهم الفلسفية.؛ لغة الكتابة في التواصل المعتاد. في مقدمتهم يأتي شتراوس؛ فوكو فينجغتشين ونعوم جاموسكي ودي سوسير. اي انهم درسوا النص الماثل لغويا ونقده بما يحمله من خصائص تجنيسية تجعل منه ادبا اولا واخيرا.

الموضوعات الهامة الكبرى في الفكر والفلسفة لم يتم الاهتمام في دراستها ونقدها ومراجعتها منهجيا بنيويا في اعتماد مركزية العقل فقط دونما وظيفة اللغة؛ هذه التراتبية انعكست في الفلسفات المعاصرة في اعتمادها (اللغة) مرتكز اساس يسبق اية مرجعية مثل العقل او اللوغوس. فمدارس الحداثة وخصوصا ما بعد الحداثة والبنيوية والتفكيكية جميعا شككت بكل اليقينيات العلمية والتاريخية والسردية والفلسفية القارة طويلا ومن ضمنها التشكيك بهيمنة العقل والعلم والانسان والتاريخ. واعتبروا الكثير من الانجازات البشرية في تلك الموضوعات غير مقنعة وناقصة؛ بل ذهب بعضهم على انها اكاذيب اخترعوها وتم لهم تصديقها. كما اعتبروا كل نص في تلك الموضوعات غير بريء. بمعنى وجود غايات ودوافع سياسية مصلحية وراءها؛ونقص دائم تحمله اللغة في مردود المعنى فيها؛ في مجاوزتها المسكوت عنه. واعتبروا ايضا تلقي وقراءة وتأويل اي نص مكتوب يحتاج قراءة نقدية مغايرة للسائد.بمعنى في مثل التفكيكية التي لا يمثل لديها الحضور المتجاوز بالتفكيك دوما في نشدانها الغياب الذي تحمله اللغة في متعين النص وفائض المعنى؛ الذي لا يلبث الاخر ان يصبح واقعا يطاله التفكيك الى ما لا نهاية.

نؤكد للمرة الثانية استحالة التطبيق التجريبي للافكار في اعتماد مركزية الصوت اللغوي واسبقية الكلام على الكتابة اللغوية المجتمعية؛ نعم هذا صحيح ومقبول في دراسة اهمية الكلام واسبقيته على الكتابة فيما يخص مجتمعات واقوام ما قبل التاريخ البدائية؛ اي قبل اختراع الكتابة التدوينية في القرن الثالث او الرابع قبل الميلاد.

وفي غير الدراسات التخصصية المعرفية باستثناء ما يتعلق بالادب والموسيقا والفنون؛ فالبنيوية كمنهج يشتغل على حفريات جيولوجيا البحث والمعرفة تكون لغة الكتابة التوصيلية التداولية مركزية في هذا النوع من الموضوعات والدراسات تتراجع فيها مركزية اللغة الصوتية(الكلام) التي هي تخصص معرفي دقيق يخص اللغة من حيث هي تجنيس ادبي. امام الطموح السيسيولوجي في المعرفة التي لا تبتغيه البنيوية بخلاف الشكلانية التكوينية او التوليدية عند نعوم جومسكي .

اذن ما المقصود قول الباحث تكريس الاصل الميتافيزيقي من خلال اللغة... واي لغة يقصدها الباحث... واي اصل ميتافيزيقي... !؟

اللغة وعاء للوجود البشري في جميع ظواهره وتمظهراته. ووسيط تواصل اجتماعي بشري ولم تكن اللغة ميتافيزيقا يوما ما. وحتى الموضوع الفلسفي او المعرفي او الانثروبولوجي؛ من غير تعيّنه في شكل لغوي معّبر عنه لا يمكن ان يكون ميتافيزيقيا او اي شيء آخر من غير تعينه في شكل لغوي. واللغة التواصلية اداة توصيل ونقل الموضوع ووعاء للافكار؛ كما هي شكل تعبيري للمضمون الذي يستحيل في حالة تجرده عن شكل اللغة في توصيله وتداوله ان يكون شيئا او وجودا ماديا.. واللغة حيادية بالنسبة لمضمون الاشياء والموضوعات؛ ولا تتحمل اللغة سوء وضحالة مضمون التفكير. وهي الحيّز الذي تصب فيه المعارف الانسانية.

اللغة بالمعنى المجتمعي كاداة توصيل وتلقي؛ تسبق الفكرة المعرفية او الموضوع** او البحث النظري او التطبيقي وهي التأطير الشكلي الظاهري والموضوعي في المعرفة والسرد على السواء. واهمية اولوية اللغة على الفكر تكون في العقل الداخلي غير المفصح عن تفكيره لغويا؛ عندما يكون التفكير واللغة في الذهن صمتا مطبقا لا يعبر عن اي شيء موجود واقعيا. والخطيئة المتهمة بها اللغة ليس في عجزها عن نقل الافكار نقلا امينا واضحا مفهوما؛بل في عجز الفكرة المعرفية والفلسفية الاتساق مع المضمون التوصيلي للغة. وما يدعى خيانة اللغة ومخاتلتها في الافصاح عن المعنى؛ يجب ان توجه هذه التهمة الى تقصير العقل التوليدي للافكار في الذهن؛وفي وسوء استعمال اللغة التعبير عن الفكر القاصر في اكتمال المعنى لديه قبل دفعه الى شكل اللغة التعبير عنه كمضمون. لذا اعتبر عبقرية اللغة سابقة على عبقرية الفكر.

الدراسات الألسنية للادب فقط تؤكد – ظهور البنيوية التكوينية او التوليدية كحركة وكاتجاه او مدرسة نقدية في البحث اللغوي والنقد الادبي والثقافي وكذلك في علم الاجتماع والسرديات..الخ-.وتعتبر البنيوية التكوينية هي الابرز في مجال النقد الادبي معتمدة المبدا التوفيقي الذي يمزج مابين الجدل المادي والتفسير التاريخي الماركسي من جهة؛ وبين الشكلانية البنيوية من جهة اخرى. في عملية توفيقية توليدية للافكار الجديدة او نقد القديم منها وتخليصها من المخطوء .  وهذه تختلف عن البنيوية كفلسفة تقوم على توظيف علوم اللغات الالسنية ولغة الصوت فقط كما هي عند دو سيسير في اعتماده اللغة قاموسا نحويا في تفكيك مفردات اللغة في لعبة  اعدام وظيفة اللغة ان تكون قاموسا حافظا لكل تاريخ و معاني الحياة. .

البنيوية نظرية ومنهج مثالي عند دي سوسير لا تقيم وزنا للتفسير المادي للاشياء والتاريخ. البنيوية الصوتية واللغوية تروم لوي عنق الوقائع والموضوعات والفكر تحت وصاية مراجعتها المثالية النقدية المقطوعة الصلة في التجريبية التطبيقية والفهم العقلي التجريدي بما يتوجب ان تكون عليه تلك الموضوعات.

البنيوية اللغوية الشكلانية استبدلت الفيض الميتافيزيقي في الفلسفة منذ فلاسفة الاغريق القدامى وصولا الى افلاطون وارسطو. وكذلك التخمة الميتافيزيقية في التفسير اللاهوتي للعصر الوسيط الى نوع من الفيض اللغوي الشكلاني الذي يعتمد اللغة منهج ومرتكز معالجة الموضوعات وقراءتها قراءة نقدية شكلانية جديدة. ولا تقر البنيوية (الكلام الشفاهي) ان اللغة وجود مادي مثل باقي الموجودات؛ لكنها لا تسبق  الوجود الواقعي للاشياء والطبيعة والانسان فهذه الموجودات والاشياء جميعها مع اللغة وجود مادي سابق على اي نظرية او منهج او تفسير فلسفي. اللغة معطى عقلي اجتماعي تسبق اي تفسير او نظرية او منهج يتوخى نقد او اعادة صياغة او تفكيك للوقائع الموجودة باستقلالية موضوعية لغوية في الواقع.نعيد مرة اخرى ان اللغة في تعالقها بالتفكير داخل العقل؛تكون ثانوية تراتيبية بالمقارنة مع الفكر التوليدي ذهنيا؛ قبل انطلاقته في تعبير لغوي عن الشيء الذي تم التفكير به؛ وما ان تخرج اللغة من مكمنها في صياغتها الفكرة كمتعين واقعي مضموني تصبح هي سيدة الموقف وتمتلك اوليتها على الفكر.(يرجى ملاحظة توضيح هذا التعالق في الهامش).

لا اعرف لماذا يتحفظ الكثير عن حسم مصطلح البنيوية على صفحات بحوث كاملة.. في ان تكون البنيوية فلسفة او حركة او اتجاه او مدرسة او نظرية او تياراً او منهجاً. ويعتبر الباحث التمييز في ان تكون البنيوية نظرية ام منهجا.. سؤال تقليدي ليس من واجب الباحث الاجابة عنه.!!

ثم اذا كانت البنيوية باعتراف باحثين متخصصين ربما تكون في احدى اهتماماتها مدرسة نقدية في البحث اللغوي والنقد الادبي والثقافي... وفي موقع سابق اشرنا له ان البنيوية عندهم حركة علمية في مجالات معرفية اخرى غير الادب. فاين يكون موضع اللغة في هذا المتحف البنيوي؟ هل هي لغة الصوت والكلام...ام هي لغة الكتابة المقروءة ام هي كما يعبرعنها اشكالية ميتافيزيقا اللغة...؟ وان كنا نتحفظ كثيرا على تسمية ميتافيزيقا اللغة لعدم وضوح المعني والمقصود بذلك. فاللغة برأينا رموز واشارات متفق على عقلانيتها سواء في الاساطير والميثالوجيا والعقائد الدينية الخرافية. او جاءت هذه الرموز عبر الموروث المنجز للبشرية في المجالات البحثية المعرفية كافة.وهي بعيدة تماما عن المجال الميتافيزيقي الا فقط كونها وسيلة التعبير عن الافكار بضمنها الافكار الميتافيزيقية.

بالتاكيد ان تغليب لغة تفكيك الصوت والكلام الشفاهي في النقد الادبي وفي دراسات علم اللغة بعيدا عن اللغة التواصلية في المنهج البنيوي النقدي لا يكفي.فقد يصبح النقد الادبي البنيوي المعتمد لغة الصوت والكلام يشبه كتابة – نوتة – موسيقية بعيدة عن معالجة اشكاليات الادب والنقد الثقافي في مرجعية النص المكتوب.

وحتى النوتة تحتاج تدوين سيميائي رمزي اشاري خاص؛ من هنا يمكننا طرح اهمية ما جاء به غولدمان في البنيوية التكوينية لحل هذا الاشكال الصعب.وذلك في تظافر المفاهيم الماركسية مع البحث التوليدي التوفيقي . والادب يحتاج لغة كتابة ايضا في كل الاحوال ولا غنى عن ذلك. لذا نجد خروج البنيوية على الرموز الصوتية واللسانية التي لم تكن صالحة في التطبيق الانثروبولوجي لدى شتراوس ولا لدى لاكان في علم النفس البنيوي ولا لدى جاك دريدا او فوكو او التوسير في مباحث البنيوية في السرديات والانساق الايدولوجية الكبرى. ولا في المعارف والدراسات الفلسفية التي كانت قيد المراجعة والقراءات الجديدة للمنهج البنيوي.

*** عندما نقول اللغة تسبق الفكر؛ فهي تبدو لنا غير صحيحة في تراتيبية الوظيفة الفسلجية للدماغ في توليده الفكر واللغة؛ من حيث ان اللغة وعاء الفكرة المعبّر عنها؛ والفكرة او الادراك الموضوعي لشيء ما هي نتاج العقل؛ وبهذا المعنى تكون الفكرة او التفكير بالموضوع اسبق على لغة التعبير عنها؛ لكن عندما نعبّر عن الفكرة لغويا تواصليا فهي من حيث التراتيبية المحصورة بين لغة تعبير ومستقبل لها في تموضعهما واقعيا؛ تنعدم هنا اسبقية الفكرة عن لغة التعبير عنها؛ كونها فكرة اخترعها العقل في كمون غير مدرك قبل اللغة؛ ولو لم يأت دور اللغة في التعبير عنها؛ لكانت الفكرة نتاج التفكير العقلي المجرد تسبق الافصاح اللغوي عنها.(كاتب المقال).

 

علي محمد اليوسف /الموصل

..........................

(1) المصدر السابق ص 51.

(2) د.فاطمة بدر/ الصورة في السرد الروائي والسرد السينمائي/ مجلة الاقلام العراقية العدد2 حزيران، 2010

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم