صحيفة المثقف

تِرتِر.. رواية السؤال والسرد المؤطر بمناخ التاريخ

537 ترتريقول الروائي والكاتب الروسي نابوكوف (1977-1899من أشهر أعماله رواية لوليتا): لا أعتقد بأن أية سيرة ذاتية قادرة على الكشف عن خبايا حياتي الخاصة .

يعود بي الروائي نزار عبد الستار الى هذا القول، وأنا أقرأ روايته (تِرتِر) الصادرة مؤخراً عن دار (نوفل) للنشر، فهو السارد والصحفي المعروف، إلا ان نزار يكشف عن مواهب أخرى له، لأن الرواية تقدم كاتبها في أقوى حالات تدفقه، مستثمراً رصيده المعرفي في التاريخ، والهندسة المعمارية، وتصميم الأزياء والإكسسوارات، والأثاث والديكور، والخبرة في الألوان، ومهتماً بنسج الملابس، هذه الخصوصية لا تترسخ إلا عبر تراكم الخبرة .

جمع نزار كل هذه المؤهلات لبناء سردي وفق آليات الإنشغال في التنقيب والبحث عن الأعماق بدقّة ومهارة وصبر، ليحقق التمايز في الشكل وإستثمار التناقضات حيث تأتلف بما يشبه الغرابة لخلخلة الحياة الإعتيادية، بواقع سحري يجمع الحقيقة بالأسطورة، الصدق بالخيال، الحضارة في قلب التخلف، فتاوى دينية في مواجهة رياح العلم والحضارة، توجهات وطنية وإنسانية، وأخرى تآمرية ومتخلفة، مع التداخل في الوصف المغرق بالشعرية والتفاصيل .

يمكن أن توصف رواية (ترتر) انها رواية (السؤال)، فالروائي وضع المتلقي منذ البدء في حيرة السؤال، يبحث عن المعاني والرموز والدلالات، (ترتر) التي لم ترد سوى أربع مرات في الرواية، ما تأثيرها في تشكيل الأحداث؟ وما معنى إختيارها عنواناً للرواية، آينور هانز الشخصية المحورية الرئيسة في الرواية، وعشيقها رودولف الذي إنتحر في السجن لأسباب غامضة، هو الآخر موضع تساؤل .

خصوصية ترتر بإختيار موضوعاً من تاريخ العراق وتراثه الغني بالروافد، فالرواية تتناول فترة زمنية تبدأ في اسطنبول 1898 إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وإحتلال الإنكليز للموصل 1918، عشر سنوات هو زمن الرواية، إتخذت منه محوراً لحركة الأحداث المتزامنة أو المتناوبة، ووضعت نفسها في إطار مكاني محدد (الموصل – المدينة)، وإقتضت الضرورة نقل الفعل السردي من الزمان الى المكان، لإعطاء حركة أوسع وخصوصية أعمق لواقعية الكتابة .

الكتابة عن الماضي رغم صعوبتها، إلّا انها تظل أكثر متعة وحيادية من الكتابة عن الحاضر، التي تبدو مثل الكتابة عن رمال متحركة، ومن هنا صعوبتها، كتابة عن عالم لم يعد قائماً، لذا إزدهرت الرواية التي إهتمت بالزمن، كما إزدهر الوعي النقدي فيها، وتشعب الإهتمام بأساليبها الفنية الرامية الى إعادة ترتيبه وإسترجاعه .

( آينور هانز) إبنة الضابط الألماني الذي قتل خطأً في ميدان الرماية، بعد ولادتها بسنة وأربعة أشهر، أمها نريمان المسلمة التي تزوجت ثانية من منير باشا، تعمل في وكالة توماس كوك الألمانية كمرشدة سياحية، يختارها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، لمهات التمهيد لمد سكة حديد برلين- بغداد في الموصل، تنفذ آينور إرادة السلطان بالسفر إلى الموصل، في ظل ظروف الصراع بين الإنكليز والفرنسيين والألمان، ومخاوف الدولة العثمانية من متغيرات العصر، وما تضمره تلك الدول من أطماع إستعمارية، تباشر آينور بتنفيذ مشاريعها في المدينة، بتأسيس صناعة نسيجية، ومساعدة التجار الألمان على العمل والتوسع نحو بغداد والبصرة، وإنشاء مستشفى وأسواق جديدة، وجمعيات علمية، والتخطيط لبناء جامعة الموصل . فشرعت بالإندماج بالحياة الموصلية والتعلق بأهلها ونسائها، والشغف بجسرها وشوارعها، يؤازرها عدد من الخبراء والأصدقاء نساءً ورجالاً، كروغر هايس، شاؤول جلعادي، الطبيب جرجيس غزالة، حارسها تابور، وخادمتها بريتا، وجليلة السعرتي إبنة الوالي، والعازف زكريا .تزداد تعلقاً بساعات الفجر الموصلية، تمتلكها رعشة هادئة وهي تستنشق رائحة نهر دجلة .

رواية(ترتر)، ولدت في وسط معمار بشري متنوع، فهي رواية (الموصل)، لاتنفصل عنها، مثلما لاتنفصل (يوليسيس) عن دبلن، والبحث عن الزمن المفقود عن باريس، وأعمال كافكا عن براغ، (جعلت آينور الموصل تبدو كمدينة مريبة، فبينما وجوه الناس متغضنة بالتعب، والطرقات مسننة بمتيبسات الطين، ومختنقة بالغبار، كان متجرها للملبوسات في شارع الكورنيش، وسوق الألمان في باب الطوب يشيعان الترفع، ويبدوان كعلامتين على لعنة قادمة) .

سعت الرواية إلى التسجيل والتوثيق لمرحلة سياسة مرّ بها العراق، وإعتمد الروائي الموروث شكلا ومضموناً، لكنه تدّخل في الذوات الإنسانية، باحثاً عن يقينيات جديدة، مضيفاَ ذلك إلى السجل التاريخي والجمالي للإنسان، فلجأ إلى فرض أشكاله ومضامينه وبُناه، يجرّب الرموز ويعود للأساطير فضلاً عن إستعانته بتقنيات الكتابة الحديثة .وسط مناخ سياسي وإجتماعي دائم الحركة لايعرف السكون، صراع يستمد مادته من طبيعة العقلية التي تتعارض مع مشاريع آينور الإنسانية، ومغامراتها التي تمضي بها نحو النهاية المحتومة، رجال الدين يسكتون عن نهب خزينة الولاية، ويغضبون لبيع ملابس داخلية شفافة !تُهاجم مؤسسات آينور وتُحرق الأسواق، وتهدد حياتها مع تصاعد هجمة معاداة التطور، (كانت آينور حزينة العقل متورطة القلب، تتوق للخلاص، تتمنى ان تنثر القروش التي تملكها على الأرض عند باب الجسر ليلتقطها كل عابر)، يخاطبها السلطان بعد عودتها الى اسطنبول : لقد أثبت أنك أشجع من جيشي السادس .

يحضر الجنس في الكثير من فصول الرواية، وأغلب المشاهد لها علاقة بحضور رودولف المتخيل، فهل سعى النص إلى تصوير الجسد كقيمة فنية ؟ وكانت اللغة الجنسية تخفي قمعاً من نوع آخر؟ أم أنها تمنح المتخيل واقعيته ؟ فيبدو العالم الروائي الوهمي حقيقياً .(رودولف يدقق في عري آينور قارئاً طالع العالم في برعم بظرها الوردي، يعتقد رودولف ان النوم أربع ساعات بساقين متلاصقين يخمّر المهبل)، وأمثلة من هذا المستوى كثيرة في الرواية، بلغة لاتبدو متقاطعة مع لغة النص، وكلاهما تكشفان عن الحقيقة الإنسانية في عريها الفاضح، زيف المجتمع ونفاق الاخلاق، بوصفها ستائر (تِرتِر) ملونة لإخفاء البشاعات المضمرة . فالرواية هنا شكل معرفي تتداخل فيه الأجناس، في لغة سرد مؤطر بمناخ تاريخي، فحققت خصوصيتها الفنية كرواية بهوية عراقية، وبنفَس محلي صميم مع فرادة التجربة الإنسانية وتميزها .

 

جمال العتابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم