صحيفة المثقف

الإنفعال الجمالي.. الإمساك بجوهر الفن

جمال العتابيتوقف أحد النقاد التشكيليين أمام إحدى أعمال الفنان الفرنسي بول سيزان (1839-1906)، أحد كبار رواد الإنطباعية في الرسم، فكتب الناقد في دفتر زيارات المعرض: من المستحيل التسلق على أشجار سيزان، ومن المستحيل، لمس أجسامه، ولا يمكن أكل فاكهته، مشيراً بذلك الى انها تحويرات للطبيعة، وليست الطبيعة ذاتها. أي انها العالم الذي يبدعه الفنان، الكثير من الناس من لايستهويهم الفن الحديث، فذلك لأن لديهم ميل نحو الصور الإيضاحية، المباشرة، وما يطلبونه من الفن ليس إلا التسلية، أي العالم المقرر. بينما يذهب الفن الحديث في رحلته نحو الداخل في جعل حدود المرئي تتراجع الى ما لانهاية، ما دامت الأشياء الظاهرة ليست في حاجة إلى إكتشاف، فلابد للفن أن يبحث عما وراء الأشياء من أجل معالجة مسائل الداخل .

تساؤلات عديدة طرحها الكاتب (بل*) في كتابه (الفن) مترجماً عام 2013، والسؤال الاساس الذي يعالجه هو: ماالصفة التي تميز العمل الفني عن الأعمال العادية والأشياء الطبيعية؟ وللإجابة عن هذا السؤال يأخذ (بل) الفن التشكيلي كنموذج في تحليل طبيعة الفن .

كيف تكتشف هذه الصفة؟ أو بأية طريقة، أو منهج؟ السبيل لذلك هو التجربة، وبالتحديد هو (التجربة الجمالية)، هل بالإمكان أن أقول أو أحدد ما إذا كان هذا عملاً فنياً، إذا لم أختبره؟ أو ما يطلق عليه تسمية (الإنفعال الجمالي) .

هذا الإنفعال بتقديرنا هو نوع من العاطفة والتأمل، مع دور للخبرة الجمالية لدى المتلقي ليحسم الموقف لصالح الأثر الفني أو العكس، وهو دور يمثل الإستجابة الإنفعالية بدرجات، لأي شكل منظور أو موقف خارجي، ويعتمد على مقدار حساسية الفنان التي توصلنا الى مرتبة الشعور بالقيمة الجمالية في الطبيعة وما وراء الأشياء، وهكذا تصبح الرؤية ذات قيمة خاصة لما لها من صلة وطيدة بالحس والإنفعال وتوتر الداخل.

542 بول سيزان

لقد عبّر عن ذلك قبل قرون، الإمام السهروردي في إحدى تجلياته: الناس يقولون، إفتحوا عيونكم وإبصروا، وأنا أقول، إغمضوا عيونكم وإبصروا . انه يثير فينا إنفعالاً يتميز بالمتعة والإنفتاح الخيالي، ويحرك لدينا مشاعر إنسانية يصعب علينا تسميتها . وعلى هذا الأساس فالفنان لايضع الحلول لمعاني الأشياء، بل ليثيرها أمام المشاهد، ويفتح باب الحوارمعها، كما يقول الفنان الفرنسي ديكا (1917- 1834)، ولأن الفن ينتمي إلى الإنسان، ويجري مع نسوغ الحياة، فهو خاضع للتجربة، العين هي التي تأمر، لكنها ليست العين التي ترى السطح الخارجي للأشياء والوجوه، بل انها العدسة النفاذة التي تستطيع ان ترى ما خلف الخطوط، العدسة التي تسجل ما نرى من المدهشات اليومية بكيمياء غامضة، بروح الإندهاش أمام الحركة والألوان والعطور والأضواء، والفنان وإن أقصى الألم من إهتماماته وأعماله، فانه لايستثني الدعوة الى الفرح والى الحياة والإنفتاح، لابل الى التحليق .

ذلك لأن الحياة في نظر الفنان المبدع ليست حمقاء الى الحد الذي تبدو فيه حقيقية منذ الوهلة الأولى، بل انها مليئة بالرموز والألغاز، التي تتطلب لمعالجتها قدرة حلمية وتنبؤية لاحدود لها، وبقدر إلتحام الفنان بحركة الحياة، فهو مشارك لها في خياله، بحاسّة حادة تتجاوز الإعتيادي، فما من أحد نحت رائعة أو رسمها إلا في ضوء الخيال، فالفنانون العظام كلهم (رؤاة)، والنظر في أعمالهم، كرؤية الأحلام، كما يعبر عنها (ديكا) كذلك .

الرحلة في (الإنفعال الجمالي) تبدأ من هنا، حول مدار الرؤية إذ يمتد الزمن إلى أعماق الماضي، ويتنفس جسد العالم كل الظلمات المحبوسة وراء الأسوار، وينبع شعور سخي من الداخل، مفصحاً عن تجلياته وفيوضه الروحية الجديدة .

أنت تستطيع الإستمتاع بعمل فني خالد كـ (الموناليزا) للرسام الشهير (دافنشي) لأسباب معرفية أو أخلاقية أو تقنية، ويمنحك هذا الإستمتاع قدراً من الرضا، لكن هذا الرضا ليس جمالياً بالضرورة، التركيز على الوجه، إن كان تأملياً أو لطيفاً أو متواضعاً، يحبط إمكانية الخبرة الجمالية، ويصرف النظر عن البعد الجمالي للوحة، فإختبار اللوحة جمالياً يأتي من خلال التركيز على حبك الألوان والخطوط وتشابكها، فلو كانت غاية دافنشي محاكاة الواقع، لكان من الأفضل له ان يلجأ الى الكاميرا، فهي تعطي صورة أصدق للواقع من لوحة الفنان .

لم تكن اللوحة رسالة سياسية أو إجتماعية أو دينية، انها التعبير عن معنى إنساني معين، فالشكل الدال يعبر عن هذا المعنى، المتوهج ذاتياً وبإستمرار، منفتحاً على فردوس من الأسرار، خافت النبرات، متقد وعفوي اللمسة، يأتينا بوداعة طفل، منهلاً كغيمة ربيعية .

الموناليزا تبدو كنجمة طافية لألاءة، ما تفتأ حتى تبزغ في الأفق مرة آخرى، كما لو كانت لازمة نشيد أبدي التردد .

 

جمال العتابي

.......................

* كلايف بل :ناقد فني انكليزي (1964-1881)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم