صحيفة المثقف

مكرم الطالباني.. الخوض في المواجهات الصعبة والملتبسة

543 مكرم الطلبانيكان مكرم الطالباني إحدى الشخصيات السياسية التي إلتقيتها بعد أسابيع من إنهيار النظام عام 2003، في حوار واسع نشر في جريدة القاسم المشترك، تحدث فيه الطالباني عن تداعيات الإحتلال الأمريكي للعراق، محذراً القوى السياسية من مغبّة المشاركة في المشروع الأمريكي في المنطقة، في ظل غياب مشروع وطني لهذه القوى، منبهاً بوعي كامل إلى حجم الكارثة المرتقبة، والنتائج الخطيرة لهدم مؤسسات الدولة، وغياب الأمن .

أستحضر تفاصيل هذا اللقاء بمضامينه ورؤاه حين أثبتت الأحداث اللاحقة صحة نبؤات مكرم الطالباني وإستشرافه للمستقبل، وبعد أن إطلعت على الدراسة الأخيرة التي تناولت سيرته الشخصية .

لم يكن الإنتماء الديني، ولا الإنتماء القومي، سبباً في تغيير أفكار وممارسات مكرم الطالباني، أو توقف قناعاته وقراءاته الأولى، منذ نجاحه متفوقاً على زملائه في إمتحان البكلوريا للمرحلة الإعدادية، على طلبة لواء كركوك عام 1942، ومن ثم طالباً في كلية الحقوق ببغداد، فسرعان ما تخلى عن (حزب هيوه) ذي التوجه القومي، متأثراً بأجواء النقاشات والحوارات الطلابية السياسية، التي شهدت تداول مفاهيم الماركسية والشيوعية، وبالأخص بين طلبة الحقوق، ومع أن مكرم معني بدراسة القانون، إلا ان الفكر السياسي والفلسفة، والإحساس العميق بهما، هما اللذان قاداه إلى أول معترك سياسي في المشاركة بالتظاهرات إثر إنتهاء الحرب العالمية الثانية .

(مكرم الطالباني ودوره السياسي والفكري في العراق)، رسالة ماجستير للطالب أحمد علي سبع الربيعي، صدرت بكتاب عن دار الشؤون الثقافية في بغداد مؤخراً (2018)، يأتي بمثابة إهتمام وعناية لدى الأوساط الأكاديمية بهذه الشخصية وسيرته السياسية والفكرية .

عمد الطالباني أن يخط لنفسه واقعاً (جديداً)، وإستجاب لما يحيط به من متغيرات ليشكل حضوراً يميزه عن سائر رفاقه منذ المرحلة الجامعية التي إلتقى فيها بمجموعة من الشباب الكرد: نافع يونس، عمر الشيخ، صالح الحيدري، جمال الحيدري وغيرهم .وبدأ يطّلع على جريدة الحزب الشيوعي العراقي (القاعدة)، وبقية الصحف السرية، وبقي مواكباً لما يصدر من كتب في الفكر الماركسي، وفي الوقت ذاته، كان تواقاً لمعرفة المزيد من الثقافة الغربية، ولاسيما انه يجيد اللغات العربية والكردية والإنكليزية والفارسية والتركية،مما فتح له آفاقا جديدة في الثقافة والآداب، فعززت ثقافته،ووسعت مدارك أفكاره .

إنضم الطالباني للحزب الشيوعي في حزيران 1945، وإقتصرت إتصالاته بالمكتب السياسي، عن طريق حسين محمد الشبيبي (صارم)، الذي ترأس الهيئة المؤسسة لحزب التحرر الوطني كواجهة للحزب، وكان مكرم ضمن الموقعين على طلب إجازة الحزب، وحقق مكرم أول حضوره المهني والسياسي، حين تولى مهمة الدفاع عن سكرتير الحزب الشيوعي ومؤسسه يوسف سلمان يوسف (فهد)، عام 1947 .

ليس من الميسور على الباحث عموماً والمؤرخ تحديداً، الكتابة عن شخصية ما، كتابة مستوفية كل شروط الموضوعية والكمال، إلا ان الباحث أحمد الربيعي إستطاع أن يبذل جهوداً إستثنائية، في دراسة هذه الشخصية الوطنية، وإجتهد في البحث عن المصادر، وواجه صعوبة ترجمة ( الكردية ) منها، بصبر ومثابرة، وإعتمد وثائق دوائر الأمن العامة، والتحقيقات الجنائية، والإستخبارات العسكرية، وبعضها غير منشور سابقاً، كما إلتقى العديد من الشخصيات السياسية، بما فيهم شخصية البحث، وأمدّته مذكرات السياسيين بمادة مهمة للإحاطة بتاريخ العراق الحديث .

إن اكثر المباحث المثيرة للجدل في الدراسة هي تلك التي تتعلق بدور الطالباني السياسي في الفترة مابعد إنقلاب 68،إذ تتوزع الدراسة على أربعة فصول،تناولت حياته منذ الطفولة، وتتبعت مختلف نشاطاته الفكرية والسياسية والوظيفية في مراحل زمنية متعددة .والمتابع بحيادية وموضوعية، (وأعني تحديداً عدم الخضوع لسلطة المزاج وشخصنة المواقف )، يستطيع ان يتوصل إلى جوهر مكرم الطالباني، كشخصية مدركة، واعية، منتمية إلى الحياة في مداها المتفائل، لذا ظل على الدوام ثابتاً بموقفه ومنهجه في حياته السياسية والمهنية، ولم يتخل عن إنتمائه، وهذا ما أثبته الواقع، على الرغم مما ناله من إتهامات وتشكيك في دوره السياسي، مصدرها الإختلاف والتباعد أو التقاطع مع المسارات الحزبية الملزم بالخضوع لها .

إن إحدى هذه الإشكالات أو أولها، انه يعدّ من الشخصيات المقرّبة لأبرزشخصيتين في النظام السابق بعد 68، هما أحمد حسن البكر، وصدام حسين، وأصبح مصدر ثقتهما، الأمر الذي أهّله للتفاوض مع ( البعث) في أكثر من مناسبة، وأن يكون وسيطاً بين الحزبين (الحليفين )، أو مع الأحزاب الكردية، في ظروف معقدة ومتأزمة بين هذه الأطراف السياسية، فنال قبولها جميعاً، لما يتمتع به من توازن في الموقف وحصافة في الرأي،وبعد نظرللواقع .

ان الحقائق الموثقة عن طبيعة اللقاءات،لاتشير الى أدنى موقف مساوم لمكرم مع مفاوضيه، بل على العكس من ذلك، كان شجاعاً وصادقاً وواضحاً،ويتمتع بإرادة فعالة، وموقف ثابت، كثيراً ما يصطدم بالخيبة وفي أكثر من حالة، وأكثر من موقع، غالباً ما يريد القول : ان الأهداف التي آمن بها، ظلت أهدافاً أشبه بالحلم، ولم تجد سبيلها للإنجاز، ولا موقعها الذي ينبغي أن تكون عليه، لتتحول في نهاية الأمر إلى قوّة معطّلة جامدة، مثيرة للخيبة، ومن ثم لليأس .

يشير الباحث إلى إحدى لقاءاته بصدام حسين، بعد أن لفظت الجبهة أنفاسها الأخيرة أوائل عام 1979، في مستهل اللقاء كان الطالباني يحمل جهاز تسجيل صغير،وضعه على الطاولة التي تفصل بينهما، إبتسم صدام متسائلاً: ماهذا ؟ فأجابه مكرم : أنكم تخفون واحداً مثله تحت الطاولة، وأنا أضعة فوقها .وفي مناسبة أخرى رفض دعوة للقاء صدام في قصره، كما توقف الباحث عند حالات إنسانية نبيلة، ونكران ذات، هي سمات يحملها المناضل في وعي يتعلق به، ويصرّ عليه، ويسعى من أجله . إن هذا المعطى يتجسد في أكثر من موقف لمكرم الطالباني، فحين كان معتقلاً في سجن نقرة السلمان، إستُدعي مخفوراً إلى بغداد لمقابلة وزير الداخلية صبحي عبد الحميد، بعد إنقلاب عبد السلام عارف على حكومة البعث في تشرين 63، كان الوزير عازماً على إطلاق سراحه والعفو عنه ليردّ جميلا سبق للطالباني أن قدّمه له، شكره وأجابه بالقول : إني تركت 6 رفاق لي في السجن من أبناء مدينتي كفري كنت سبباً في إنتمائهم للحزب الشيوعي، كيف أسمح لنفسي أن أتركهم ورائي ؟ تفهم الوزير هذا الموقف ووافق على إطلاق سراح مكرم ورفاقه .

هنا تكمن القيمة النبيلة لمواقف الإنسان، والمعنى الكامن في المواقف الأخلاقية، والمضامين الصافية لدى (السياسي )،وهو يخوض سلسلة مواجهات صعبة وملتبسة، متأرجحاً بين مأمول ومتخيل،وبين أهداف كرّس حياته من أجلها، لم تكن طوباوية، وإن لم تنجز على ارض الواقع العراقي، فما زال يعتقد أن هناك متسعاً من مغادرة حالة الإنغلاق، أو محدودية التفكير، وقسرية المواقف، والإرادات المقموعة، ويرى ان الأفكار البراغماتية ستجد لها نوعا من القبول والقناعات .

السياسة هنا لاتتعلق بالفكر السياسي ونظرياته فحسب، وإنما تتجاوزه نحو كيفية التعامل مع الآخرين،وتجربته بتقديري تختلف في بعديها النفسي والإجتماعي،وليس بوسعه أن يلزم الاخرين للتفكير بما يفكر به، وإتخاذ المواقف على قناعات مؤمن بصحتها، فالباحث في هذا النموذج من الشخصيات، عليه تجنب الوقوع في فخ المنظور الأحادي الجانب، أما أن يكون مع أو ضد، فهل نحن مطالبون الآن إيجاد أجوبة لأزمات الماضي، أم تغيير طريقة طرح الأسئلة ؟ إزاء المشكلات الكبرى التي تواجهنا .

في ضوء ما تقدم نستطيع القول ان هناك إتفاقاً على مكانة هذه الشخصية وأهمية عطائها، وإستعادة قراءتها الآن، ينبغي أن تعتمد البناء الفكري الذي تحفل به أعماله، وإنجازاته الباهرة في مواقعه الوظيفية،وحضوره المتميز فيها، وثراء تجاربه الإنسانية .

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم